نشرة الكرمة- العدد 38- الأحد بعد عيد رفع الصَّليب- 17 أيلول 2017
الصَّليب في حياة المؤمن
قال الرَّبّ: “إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي، فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ كُلَّ يَوْمٍ، وَيَتْبَعْنِي” (لوقا 9: 23). “فليُنكر” في النَّصّ الأصليّ هي “ἀρνησάσθω” وتعني حرفيًّا أن يتخلّى عن ملكيّة شيء ما أو يتبرَّأ من شيء ما أو أن يتنازل عن ادِّعائه بملكيّة شيء ما. بهذا المعنى، مَنْ يُريد أن يتبع المسيح عليه أن يتنازل عن نفسه بالكلّيّة وأن يختار، بملء إرادته، أن يسلِّم نفسه للمسيح ليستطيع أن يتبعه بأمانة. من يريد أن يسير وراء الرَّبّ لا يدَّعي أنّ حياته له بل بالأحرى يُدرِك أنْ لَيسَ له شَيءٌ في ذاتِه، ويُقرُّ بذلك. اتِّباع المسيح خيار يوميّ ودائم، وهو درب صليب قِبْلَتُهُ القيامة…
* * *
لماذا قال الرَّبّ إنّ على من يريد أن يتبعه أن يحمل “صليبه”، بمعنى أنّ لكلّ إنسان صليبه الخاصّ؟ وما هو الصَّليب؟ وما هو ارتباط صليبنا الخاصّ بصليب المسيح يا ترى؟
“وَإِذَا كَانَت عَلَى إِنْسَانٍ خَطِيَّةٌ حَقُّهَا الْمَوْتُ، فَقُتِلَ وَعَلَّقْتَهُ عَلَى خَشَبَةٍ، فَلاَ تَبِتْ جُثَّتُهُ عَلَى الْخَشَبَةِ، بَلْ تَدْفِنُهُ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ، لأَنَّ الْمُعَلَّقَ مَلْعُونٌ مِنَ اللهِ. فَلاَ تُنَجِّسْ أَرْضَكَ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَصِيبًا” (تثنية الاشتراع 21: 22 و23).
الصَّليب أو الخشبة، في فكر اليهود، هو أقسى العقوبات عندهم لأنّ من يُحْكَم عليه بالتّعليق على الخشبة هو “مَلعون” و”نَجِس”، أي هو مطرود ومُخْرَجٌ من أمّة اليهود. الصَّليب هو العار الأقصى لليَهوديّ. المسيح كان يعرف مصيره عند شعبه “لأَنَّ الْيَهُودَ يَسْأَلُونَ آيَةً، وَالْيُونَانِيِّينَ يَطْلُبُونَ حِكْمَةً، وَلكِنَّنَا نَحْنُ نَكْرِزُ بِالْمَسِيحِ مَصْلُوبًا: لِلْيَهُودِ عَثْرَةً، وَلِلْيُونَانِيِّينَ جَهَالَةً! وَأَمَّا لِلْمَدْعُوِّينَ: يَهُودًا وَيُونَانِيِّينَ، فَبِالْمَسِيحِ قُوَّةِ اللهِ وَحِكْمَةِ اللهِ” (1كورنثوس 1: 22 و23).
ليس الصّليب الّذي يدعونا المسيح إلى حمله مرتبطًا بخطيئتنا ونجاستها وعارها بل هو مرتبط بحمل نجاسة الآخَرين وعارهم على عاتقنا بالمحبّة. يقول الرَّسُول بولس: “وَأَمَّا مِنْ جِهَتِي، فَحَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلَّا بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بِهِ قَدْ صُلِبَ الْعَالَمُ لِي وَأَنَا لِلْعَالَمِ” (غلاطية 6: 14). الصَّليب الَّذي أنا مَدْعوّ لِحَمْلِه هو الَّذي أُصلَب عليه أنا لأجل العالم كما صُلِب يسوع لأجلي أنا. لكن، ليصير صليبي هذا لأجل محبّة يسوع المسيح في الإنسان والخليقة، ينبغي أن يكون العالم قد صُلِبَ فيَّ أوّلًا بصليب المسيح. إذا لم يمت فيَّ العالم بمحبّة المسيح الَّتي كَشَفها لي بصليبه، أي إذا لم تتغلَّب فيَّ محبّة يسوع على كلّ محبّة أُخرى، وبالتّالي، إذا لم أصل إلى أن أتخلَّى عن ذاتي في الطّاعة الكاملة للرَّبّ، لن أستطيع أن أُصلَب لأجل العالم، لأنّ المصلوب واحد، والصَّليب الخَلاصيّ واحد، والرَّبّ واحد، “الَّذِي حَمَلَ هُوَ نَفْسُهُ خَطَايَانَا فِي جَسَدهِ عَلَى الْخَشَبَةِ، لِكَيْ نَمُوتَ عَنِ الْخَطَايَا فَنَحْيَا لِلْبِرِّ” (1 بطرس 2: 24).
* * *
بوحدتي مع المصلوب الإلهيّ-البشريّ أدخل في صَلْبِ عتاقتي وموت إنساني القديم وولادتي جديدًا بالمحبّة الإلهيّة الّتي بالمسيح يسوع على صورته هو، لأنّني “مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا، بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ. فَمَا أَحْيَاهُ الآنَ فِي الْجَسَدِ، فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي الإِيمَانِ، إِيمَانِ ابْنِ اللهِ، الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي” (غلاطية 2: 20). الإيمان بالقيامة هو أساس خلاصي بحمل صليبي الَّذي في المسيح. لأنّه إن كان الصّليب الّذي احمله غير مرتبط بالمسيح فهو صليب عار ونجاسة بسبب خطاياي وشروري، وبالتَّالي ليس صليب خلاص لأنّه مرتبط بأنايَ وليس بإيماني الَّذي في المسيح يسوع وجهادي للتَّنْقية وسَعْيِي للاستنارة وتَوقي للمُعاينة الإلهيّة.
صليبي هو موتي عن ذاتي بجهاد التَّوبة لأتنقَّى في القلب وأعرف حقيقتي بنور النّعمة الإلهيّة الّتي في الروُّح القدس بالابن من الآب. صليبي هو جهاد الصَّلاة والصَّوْم والإحسان والتَّدرُّب على إفراغ الذّات ووَضْع النّفس لكيما، متى نظر السَّيِّد جدّيّتي ومثابرتي وصدقي، يمنحني ولادة جديدة فيه بصليبه، فيصير صليبي صليبه وصليبه صليبي، لأنّي، حينها، أقول مع الرَّسُول بولس: “لأَنَّ لِيَ الْحَيَاةَ هِيَ الْمَسِيحُ وَالْمَوْتُ هُوَ رِبْحٌ”.
ومَنِ استطاع أن يحتمل فليحتمل.
+ أنطونيوس
متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما