نشرة كنيستي
نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.
الأحد 20 آب 2023
العدد 34
الأحد (11) بعد العنصرة
اللّحن 2- الإيوثينا 11
أعياد الأسبوع: *20: تذكار النَّبيّ صموئيل *21: الرَّسول تدَّاوس، الشُّهداء باسي وأولادها *22: الشّهداء أغاثونيكس ورفقته *23: وداع عيد رقاد والدة الإله، الشّهيد لوبُّس *24: الشّهيد في الكهنة أفتيشيس، القدِّيس قزما الإيتوليّ *25: عودة جسد برثلماوس الرَّسول، الرَّسول تيطس *26: الشّهداء أدريانوس ونتاليا ورفقتهما.
كلمة الرَّاعي
الكاهن والرِّعاية
”يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، أَتُحِبُّنِي أَكْثَرَ مِنْ هؤُلاَءِ؟ قَالَ لَهُ: نَعَمْ يَا رَبُّ أَنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّكَ. قَالَ لَهُ: ارْعَ خِرَافِي“ (يو 21: 15)
مذبح الرّبّ هو الإنسان. سرّ الذّبيحة أتمّه المسيح لخلاص العالم ببذله دمه على الصّليب ليحرِّر الإنسان من سلطان الموت. هو راعي الخراف، والخراف هي له. خادم المذبح ليست الخراف له بل للذّي انتدبه ليخدمه في الخراف النّاطقة. خادم المذبح هو واحدٌ من الخراف، هو قائدها، ولكنّ الرَّاعي واحد وهو المسيح. ”أنَا أَرْعَى غَنَمِي وَأُرْبِضُهَا، يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ. وَأَطْلُبُ الضَّالَّ، وَأَسْتَرِدُّ الْمَطْرُودَ، وَأَجْبِرُ الْكَسِيرَ، وَأَعْصِبُ الْجَرِيحَ، وَأُبِيدُ السَّمِينَ وَالْقَوِيَّ، وَأَرْعَاهَا بِعَدْل...“ (حز 34: 15—16).
الرَّاعي الَّذي على قلب الله هو من يتشبّه بالله الرَّاعي. خلاص النّفوس يبدأ بالاهتمام بآلام البشر وأمراضهم وضعفاتهم، هذا من ناحية، كما يرتبط جوهريًّا بالعدل بين الخراف وعدم وجود من يتسلّط على الآخَرين بقوّته أو بنفوذه أو بمصالحه ...، هذا من ناحية أخرى.
الرِّعاية لها وجهان: العناية برحمة وحنان والتَّأديب في الحَقّ بحزمٍ واستقامة. غياب أحد الوَجْهَيْن يُؤدّي إلى خلل. هذان الوجهان يصحّان للرَّاعي والرَّعيّة. المسؤوليّة متبادلة بين الرَّاعي والرَّعيَّة. روح الشّركة يجب أن تحكم العمل في طاعة كلمة الله. العمل يجب أن يتناسق مع البنيان الكنسيّ، أي أنّ الشَّعب المؤمن مع الكاهن يعملون في طاعة الله بكلمة حقّه المقطوعة باستقامة من خلال الأسقف. لا بُدَّ مِنَ الشَّركة الدّائريّة (Périchorèse) في الخدمة الكنسيّة كجوهر لاهوتيّ لكلِّ عملٍ كنسيّ، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّه لا يوجد هرميَّة تراتبيّة بل هرميَّة مسؤوليّة وأبوّة والَّتي هي عكس التّراتبيّة الهرميَّة حيث رأس الهرم فوق والقاعدة أسفل، إذ هرميَّة المسيح الّتي كشفها لنا هي الّتي يكون رأسها في الأسفل وقاعدتها في الأعلى. الرأس يحمل ثقل كلّ ما فوقه وليس العكس. هذه هرميّة ”إخلاء الذّات“ الّتي جسّدها المسيح في سرّ تدبيره الخلاصيّ، والّتي على خادم المذبح أكان أسقفًا أم كاهنًا أن يعيشها.
* * *
اليوم، التَّجارب تحيق بالكلّ، لا سيّما الضيقة المادية التي يعاني منها بلدنا وأيضًا التَّحدّيات الأخلاقيّة الّتي تواجه المؤمن والعائلة. مطلوب اليوم أكثر من أي وقت رعاية متجدِّدة وتواصل أقوى بين الرَّاعي والرَّعيَّة لتثبيت الرَّعيَّة في الحَقّ والاهتمام بحاجات الخراف النّاطقة المتعدِّدة عبر المشاريع المختلفة الّتي تحافظ على العائلة وتبني الأطفال وتثقّف الشَّبيبة وتسند الضُّعفاء وتعزّي المتألِّمين. قيادة الرَّاعي أساسيّة في هذا المجال بالتّعاون مع مجالس الرَّعيّة والجمعيَّات المُختلفة.
المسؤوليّة، اليوم، تزداد ثقلًا ولذا وجب على الرُّعاة أن يَزدادوا قوّة روحيَّة. هذا يتمّ بصلاتهم وصومهم وتعفّفهم واتّضاعهم، هذا من جهة، وبوقوف المؤمنين ومجالس الرَّعايا والجمعيّات المختلفة بجانبهم في كلّ عمل مطلوب.
الهدف واضح والرُّؤية معروفة، إذ كلّ شيء هو لأجل خلاص الإنسان. الأسقف هو الرَّاعي الأوّل، وهو يرعى عبر الكهنة خراف المسيح النَّاطقة، كما أنّ واجبه أن يراقب صحّة التّعليم والخدمة واستقامتهما. الكهنة يقودون المجالس المختلفة في رعاياهم ويربّون خدّامًا قادةً معهم، لأنّ القائد النّاجح هو الَّذي يلد قادة ويُشركهم معه في الخدمة. القيادة في الكنيسة أساسها روح الخدمة والاتّضاع، إخلاء الذّات وطاعة الكلمة الإلهيَّة، التّضحية والمحبَّة الّتي لا تطلب لذاتها شيئًا.
حين يكون الأسقف قويًّا بنعمة الله يقوى الكهنة، وحين يكون الكهنة أقوياء بنعمة الله يقوى الأسقف، وحين يكون الأسقف والكهنة أقوياء بنعمة الله تقوى الرّعايا والنّور في الظُّلمة يضيء.
رجاؤنا في الخدمة أن يصير شعب الله كلّه قدّيسين. والقداسة يتعلّمها الإنسان بالعِشرة مع القدّيسين. على الإكليروس أن يكونوا قدّيسين ليعلّموا القداسة. ولا قداسة دون تقوى، ولا تقوى دون صلاة وصوم، ولا صلاة وصوم دون ثمار هي الفضائل. الإكليروس يجب أن يقتنوا الفضائل الإلهيَّة ليصيروا معلّمين للكلمة بالحياة والقول.
* * *
ليتكامل العمل وينمو، لا بُدّ من تحديد المسؤوليًّات الواجبة على الإكليروس والمؤمنين، وهنا يقول الرَّسول بولس: ”إنْ كُنَّا نحنُ قد زَرَعنا لكم الرُّوحِيَّاتِ أفيكونُ عَظيمًا أنْ نَحْصُدَ مِنكُمُ الجسديَّات؟“، أي أنّ عمل الإكليروس الأساسيّ هو البُنيان الرّوحيّ للمؤمنين، وبالمُقابل على المؤمنين أن يكرّموا خدّامهم في المسيح لأنّه يكرّمون المسيح فيهم بأن يؤمّنوا لهم معيشة لائقة والاحترام الواجب كَوْن هذه هي مسؤوليّتهم في حياة الشَّركة الكنسيَّة. طبعًا، البشارة عمل الجميع بتكامل المواهب في الجسد الواحد الَّذي للرَّبّ، ولكن ”أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذينَ يَعْمَلُونَ فِي الأَشْيَاءِ الْمُقَدَّسَةِ، مِنَ الْهَيْكَلِ يَأْكُلُونَ؟ الَّذينَ يُلاَزِمُونَ الْمَذْبَحَ يُشَارِكُونَ الْمَذْبَحَ؟ هكَذَا أَيْضًا أَمَرَ الرَّبُّ: أَنَّ الَّذينَ يُنَادُونَ بِالإِنْجِيلِ، مِنَ الإِنْجِيلِ يَعِيشُونَ“ (1 كو 9: 13 و14).
الرَّاعي هو المبشِّر باستمرار في حياته الخاصَّة والعامَّة، في عائلته، في كلّ قَوْل وفعل وفي رسالته البشاريّة التَّعليميَّة. على الكاهن أن يصير راعيًا على صورة معلّمه، أن يحبّ خراف الرَّبّ حتّى بذل دمه وحياته لأجلها على صليب إخلاء الذّات مِنْ كلّ مصلحة وتسلُّط لكي يقدّم للرّبّ، حين يقف أمامه، في الدّينونة شعبًا مستعدًّا وأمّة مقدَّسة.
ومن له أذنان للسَّمع فليسمع...
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما
طروباريّة القيامة (باللَّحن الثّاني)
عندما انحدرتَ إلى المَوْت. أَيُّها الحياةُ الَّذي لا يَموت. حينئذٍ أَمَتَّ الجحيمَ بِبَرْقِ لاهوتِك. وعندما أقمتَ الأمواتَ من تحتِ الثَّرى. صرخَ نحوكَ جميعُ القُوّاتِ السّماويّين. أَيُّها المسيحُ الإله. مُعطي الحياةِ المَجدُ لك.
طروبارية عيد رقاد السَّيِّدة (باللَّحن الأوّل)
في ميلادِكِ حَفِظْتِ البتوليَّةَ وصُنتِها، وفي رُقادِكِ ما أهْمَلْتِ العالم وتركتِهِ يا والدةَ الإلَه، لأنّك انتقلْتِ إلى الحياة، بما أنَّكِ أمُّ الحياة، فبِشفاعاتِكِ أنقذي من الموت نفوسَنا.
قنداق عيد رقاد السّيّدة (باللّحن الثّاني)
إنّ والدة الإله الّتي لا تغفل في الشَّفاعات، والرَّجاء غير المَردُود في النَّجدات، لم يَضبطْها قبرٌ ولا مَوْت. لكن بما أنّها أمّ الحياة نقلها إلى الحياة الَّذي حَلَّ في مُستودَعِها الدّائم البتوليّة.
الرِّسالَة (1 كو9: 2-12)
قُوَّتي وتَسْبِحَتي الرَّبُّ،
أدبًا أدَّبني الرَّبُّ، وإلى الموتِ لم يُسَلِّمني.
يا إخوةُ، إنَّ خاتَمَ رسالتي هوَ أنتم في الرَّبّ. وهذا هو احتجاجي عندَ الَّذينَ يفحصونَني. ألعلَّنا لا سلطانَ لنا أن نأكلَ ونَشَرب؟ ألعلَّنا لا سلطانَ لنا أن نجولَ بامرأةٍ أختٍ كسائر الرُّسُلِ وإخوةِ الرَّبِّ وَصَفا؟ أم أنا وبَرنابا وحدَنا لا سلطانَ لنا أن لا نشتَغِلَ؟ مَن يتجنَّدُ قطُّ والنَّفَقَةُ على نَفسِه؟ مَن يغرِسُ كرمًا ولا يأكلُ من ثمرهِ؟ أو مَن يرعى قطيعًا ولا يأكُلُ من لَبَن القطيع؟ ألعلّي أتكلَّمُ بهذا بحسبِ البشريَّة، أم ليسَ النَّاموسُ أيضًا يقولُ هذا؟ فإنّهُ قد كُتبَ في ناموسِ موسى: لا تَكُمَّ ثورًا دارِسًا. ألعلَّ اللهَ تَهمُّهُ الثِّيران، أم قالَ ذلك من أجلِنا، لا محالة؟ بل إنَّما كُتِبَ من أجلنا. لأنَّه ينبغي للحارثِ أن يحرُثَ على الرَّجاءِ، وللدّارسِ على الرَّجاءِ أن يكونَ شريكًا في الرَّجاءِ. إنْ كُنَّا نحنُ قد زَرَعنا لكم الرُّوحِيَّاتِ أفيكونُ عَظيمًا أنْ نَحْصُدَ مِنكُمُ الجسديَّات؟ إن كانَ آخَرونَ يشتركونَ في السّلطان عليكم أفلَسنا نحنُ أَوْلى؟ لكنَّا لم نستعملْ هذا السُّلطانَ، بل نحتَمِلُ كلَّ شيءٍ لئلَّا نُسبِّبَ تَعْويقًا ما لِبشارةِ المسيح.
الإنجيل(متّى 18: 23-35)(متّى 11)
قال الرَّبُّ هذا المثَل: يُشبِه ملكوتُ السَّماوات إنسانًا مَلِكًا أراد أن يحاسِبَ عبيدَهُ. فلمَّا بدأ بالمحاسبةِ أُحضِر إليهِ واحدٌ عليهِ عشَرَةُ آلافِ وزنةٍ. وإذْ لم يكنْ لهُ ما يوفي أَمَرَ سيِّدُهُ أن يُباعَ هو وامرأتُهُ وأولادُهُ وكلُّ ما لهُ ويُوفى عنهُ. فخرَّ ذلكَ العبدُ ساجِدًا لهُ قائلًا: تمهَّلْ عليَّ فأُوفيَكَ كلَّ ما لَك. فَرَقَّ سيّدُ ذلك العبدِ وأطلقَهُ وترك لهُ الدَّين. وبعدما خرج ذلك العبدُ وَجَدَ عبدًا من رُفَقائهِ مديونًا لهُ بمائةِ دينارٍ، فأمسَكَهُ وأخذ يَخْنُقُه قائلًا: أَوفِني ما لي عليك. فخرَّ ذلك العبدُ على قَدَميهِ وطلبَ إليهِ قائلًا: تمهَّلْ عليَّ فأُوفيَكَ كلَّ ما لَك. فأبى ومضى وطرَحَهُ في السِّجْنِ حتّى يُوفيَ الدَّيْن. فلمَّا رأى رُفقاؤُهُ ما كان حَزِنوا جدًّا وجاؤُوا فأعْلَموا سيّدَهم بكلِّ ما كان. حينئذٍ دعاهُ سيّدُهُ وقال لهُ: أيُّها العبدُ الشِّرّيرُ، كلُّ ما كان عليك تركتُهُ لك لأنّك طلبتَ إليَّ، أفمَا كان ينبغي لك أنْ ترحَمَ أنتَ أيضًا رفيقَك كما رحِمْتُك أنا؟ وغضِبَ سيّدُهُ ودفعهُ إلى المعذِّبينَ حتّى يوفيَ جميعَ ما لهُ عليهِ. فهكذا أبي السّماويُّ يصنعُ بكم إنْ لم تَتركوا من قلوبِكم كلُّ واحدٍ لأخيهِ زلَّاتِهِ.
حول الإنجيل
"هكذا أبي السَّماويّ يفعل بكم..."
كَلَّم الرَّبُّ يسوع تلاميذه بأمثالٍ ليشرح لهم، ومنهم إلينا، مفاهيمَ عديدةً تدور حول علاقتنا بالله والدَّينونة والملكوت، وهذا المثل خير مثال على ذلك. فيه يظهر الملك رمزًا للدَّيّان الَّذي يقف أمامه الإنسانُ مَدينًا بعشرة آلاف وزنة، وأمام هذا الواقع المرير، يعلن الإنسانُ عجزَه التَّام عن إيفاء الدَّيْن، فكيف يتصرّف الملك؟
إنّها عشرة آلاف وزنة! وان كان رقم "عشرة" يُشير إلى الوصايا العشرة، ومن أخطأ في وصيّة يكسر النَّاموس كلّه، فالرَّقم "ألف" إنّما يُشير للأبديّة، وبالتّالي فإنَّ رقم "عشرة آلاف" يعني أنَّ الإنسان كسر وصايا النَّاموس مرّاتٍ لا يمكن أنْ نحصيها، وغرق بِدَين يستحيل عليه أن يفيه عبر حياته الزَّمنيّة، ما يعيد إلينا قَوْل المزمور: "إن كنتَ للآثام راصِدًا يا ربُّ، فيا ربُّ مَن يثبت!" (مز 130: 3)
بالفعل، ما كان يمكن للإنسان أن يفي الدَّيْن الإلهيّ، فصدر الأمر ببيعه هو وزوجته وأولاده وكلّ ماله، لعلّه يقدر أن يفي شيئًا. فقد الإنسان كلّ شيء، فقد نفسه - أي روحه الدّاخليّة -الَّتي أصابها الموت الأبديّ بحرمانها من الله مصدر حياتها، وفقد زوجته -أي جسده المرتبط به- فصار الجسد الصّالح دنسًا، مثقَلًا بشهواتٍ فاسدةٍ قاتلةٍ تثقل النَّفس وتفسد الفكر والحواسّ. وفقد أولاده الَّذين يُشيرون إلى المواهب المتعدّدة الَّتي تحوّلت بسبب الخطيئة من آلاتِ برّ لله إلى أدوات إثم تعمل لحساب الشّيطان؛ أمّا أمواله فهي الخيرات الَّتي صارت معثرة له.
أمام هذا العجز، نتفاجأ بخطوة غير متوقّعة، إذ "تحنّن سيّدُ ذلِكَ الْعَبْدِ وَأَطْلَقَهُ، وَتَرَكَ لَهُ الدَّيْنَ" (مت 18: 27). لقد تحنّن الملك على الـمَدين فلم يتمهَّل عليه فحسب كطلبه، وإنّما أعطاه أكثر ممّا يسأل وفوق ما يفهم، إذ أطلقه حرًّا هو زوجته وأولاده، وترك له ما لديه وعفا عنه الدَّيْن. لقد أطلقه السّيّد إلى الحرّيّة من خلال الصَّليب تاركًا له الدَّيْن كلّه بنعمته المجّانيّة. وهبه حرّيّة النَّفس والجسد، مقدّسًا مواهبه وكلّ ما يملك.
ألا ليت العبد قدّر قيمة الحرّيَّة الَّتي نالها والقداسة الَّتي تلقّاها مجّانًا رغم عدم استحقاقه! للأســـــــــــــــــف، تصرّف بطريقة أوقفت هذه النِّعَم ونزعتها عنه وردّته إلى أشرّ ممّا كان عليه، إذ انغلق قلبه على أخيه الَّذي كان مَدينًا له بمائة وزنة فقط، أي بِدَينٍ بشريٍّ تافه، فثار عليه وأنزل به أشدّ عقاب! لقد أحزن هذا قلب العبيد رفقائه جدًا، وإن كان العبدُ المسكينُ الَّذي أسَرَه رفيقُه في السِّجن لم يفتح فاه ليشتكيه، إلَّا أنَّ صوت الجماعة بدأ يصــــرخ من الدَّاخِل بالحزن الشَّديد. والله يسمع تنهّدات البشريّة الخفيّة من أجل قسوة النّاس على إخوتهم وعدم صفحهم لهم، فيكيل لهم بالكَيْل الَّذي يَكِيلون به لإخوتهم. وهكذا "غضِبَ سيّدُهُ وسلَّمَهُ إلى المعذِّبين حتّى يوفيَ كلَّ ما كان له عليه" (مت 18: 34). أعيد دينه الأصيل له ليعجز مجدّدًا عن الإيفاء. وختم السَّيِّد المثل قائلًا: "هكذا أبي السَّماويّ يفعل بكم إن لم تتركوا من قلوبكم كلّ واحدٍ لأخيه زلّاته" (مت 18: 35). والملفت، كما يُعلّق القدِّيس يوحنَّا الذّهبيّ الفم، أنَّ السَّيّد لم يَقُل "أباكم" بل "أبي"، إذ لا يليق أنْ يُدعى الله أبًا لإنسانٍ شرّير وحقود!
فلنتعلّم من هذا المثل، ولنبدأ بجهاد المغفرة اليوم قبل الغد، عساه يغفر لنا زلاّتنا الكثيرة ونستحقّ بالفعل أن نُدعى له أبناء... آمين!
الشُّرود في الصَّلاة
الصَّلاة هي حياة المؤمن وغذاءُ كيانه، فيها يتبدَّد الخوف والتَّوتُّر والتَّعب، ويستكين الجسد من انفعالاته فتُحَوِّل حالته من الأرضيَّات إلى السَّماويات. وليس بغريبٍ عن المُصَلِّي حروبه الرُّوحيّة الَّتي هي واقع كلِّ مَنْ تجنَّد للمسيح، فتأتيه التَّجارِب لكي تفصله عن اِلْتِصاقَه بالنُّور الَّذي هو ربُّنا يسوع المسيح. لذا مِنْ أَصْعَب التَّجارِب التَّشتُّت في الصَّلاة.
يتشتَّتُ المؤمِنُ بِفِعْلِ حروبِ الشَّيْطان أو كَثْرَة الحركة في مكان الصَّلاة (كالكنيسة- المنزل) أو من الَّذين لا يحسنون الحركة الخفيفة في الكنائس الَّذين نَسَوْا أنَّ الصَّلاة هدوء وسلام. كما أنَّ التَّرتيل غير اللَّائق وغير المنظَّم والقائم على انفعالاتٍ شخصيَّة يُضايق المؤمن ولا يُدْخِلُه في جَوٍّ روحيّ. وأبرز حروبنا الَّتي تشتِّتُنا اليوم هي القلق والخوف ممَّا يعيشه المسيحيّ من اضطرابٍ واكتئابٍ وفقدان الرَّجاء، ممّا يمنعه من العودة إلى الصلاة بسبب أفكاره وتخبُّطاته. بالإضافة إلى جهل المؤمنين معنى الصَّلاة وفعاليَّتها في حياتهم. هذه التَّجارب هي صحيّة وبسيطة ولا تغلب إلَّا الَّذين فقدوا الرَّجاء بالله وسلَّموا أنفسهم للأفكار السَّلبيَّة.
لذا، على المؤمِن أن يجهّز نفسه لجوّ الصَّلاة سواء أكان في البيت أو في الكنيسة من خلال:
أوَّلًا، أن يضع أمام عينيه الأيقونات المُقدَّسة ويركّز عليها لأنّها نوافذ نحو الملكوت، فكلّ شخصيّة هي مثالٌ مُشابِهٌ للرَّبِّ يسوع المسيح. وبهذا يعلم كلُّ مؤمنٍ أنّنا بالصَّلاة نشابه كلَّ واحدٍ مِنَ القدِّيسين لأنَّهم في كلِّ لحظةٍ كانوا في اتِّصالٍ مع الله ولم يخضعوا لثقل الهموم الدُّنيويَّة، وهكذا غلبوا العالم.
ثانيًا، التَّسلُّح بمخافة الله. فالمؤمن يقف بكلِّ مَخافةٍ وَوَرَعٍ ووَقارٍ أمام الرَّبِّ يسوع المسيح متذكِّرًا أنْ يتقدَّم نحوه لأنَّه بحاجةٍ إليه كما يحتاج الطِّفل إلى أبويه، ومتذكِّرًا أنْ يرفع التَّمجيد والشُّكر والمَدْحَ لِمَنْ أعطانا فرصةً أن نكون جزءًا مِنْ محبَّته الفَيّاضة على الصُّورة والمثال، وأنَّه مات وقام لِيُعيد جمال هذه الصُّورة الَّتي تشَوَّهَتْ بسبب خطايانا. فتكون الصَّلاة رفعَ العقل والقلب بانتباه نحو الله، فينسجمان معًا. ويكون العقل منتبهًا للأفكار الَّتي يسمعها والقلب جاهزًا لينسجم مع كلماتِ الصَّلوات لتصير صلاة المؤمن، عندئذ، ذبيحة مَرْضيَّةً أمام الله.