نشرة كنيستي
نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.
الأحد 6 آب 2023
العدد 32
أحد عيد تجلّي ربّنا ومخلّصنا يسوع المسيح
كلمة الرّاعي
الحرب بين أبناء النّور والظّلمة
”وَهذِهِ هِيَ الدَّيْنُونَةُ: إِنَّ النُّورَ قَدْ جَاءَ إِلَى الْعَالَمِ، وَأَحَبَّ النَّاسُ الظُّلْمَةَ أَكْثَرَ مِنَ النُّورِ، لأَنَّ أَعْمَالَهُمْ كَانَتْ شِرِّيرَةً“ (يوحنّا 3: 19)
الرَّبّ يسوع المسيح هو ”نور العالم“ (يوحنا 8: 12). هو نور ليس بالمعنى المجازيّ للكلمة، بل بالمعنى الفعليّ الكيانيّ والجوهريّ، لأنّ ”الله نور وَلَيْسَ فِيهِ ظُلْمَةٌ الْبَتَّةَ“ (1 يوحنا 1: 5).
حين تجلَّى الرَّبُّ يسوع على جبل ثابور أمام تلاميذه، ”تَغَيَّرَتْ هَيْئَتُهُ قُدَّامَهُمْ، وَصَارَتْ ثِيَابُهُ تَلْمَعُ بَيْضَاءَ جِدًّا كَالثَّلْجِ، لاَ يَقْدِرُ قَصَّارٌ عَلَى الأَرْضِ أَنْ يُبَيِّضَ مِثْلَ ذلِكَ“ (مرقس 9: 2—3). لقد كشف سرّ ألوهيّته من خلال إظهار نورها غير المخلوق الّذي يحمل في ذاته كلّ الطّاقات الإلهيّة المؤلِّهة للبشر... هذا النّور غير المخلوق هو نور المعرفة الكلّيّة لله بحسب ما يستطيع كلّ إنسان أن يتقبّل تبعًا لحالته الرّوحيّة ونقاوته، وهو النّور الّذي يكشف أسرار الوجود للإنسان، كونه سرّ خبرة الدّخول في الوحدة مع الله... وهذا هو التَّألّه...
* * *
اليوم، نحن نعيش في زمن تكثَّفت فيه ظلمة نفوس البشر، صاروا قساة القلب والرّقاب ”مَمْلُوئِينَ مِنْ كُلِّ إِثْمٍ وَزِنًا وَشَرّ وَطَمَعٍ وَخُبْثٍ، مَشْحُونِينَ حَسَدًا وَقَتْلًا وَخِصَامًا وَمَكْرًا وَسُوءًا، نَمَّامِينَ مُفْتَرِينَ، مُبْغِضِينَ للهِ، ثَالِبِينَ مُتَعَظِّمِينَ مُدَّعِينَ، مُبْتَدِعِينَ شُرُورًا، غَيْرَ طَائِعِينَ لِلْوَالِدَيْنِ، بِلَا فَهْمٍ وَلَا عَهْدٍ وَلَا حُنُوٍّ وَلَا رِضىً وَلَا رَحْمَةٍ“ (رومية 1: 29—31).
ها هو التّاريخ يعيد نفسه، البشر لا يتعلّمون بل يزدادون عنادًا لأنّهم متمسّكون بكبريائهم وريائهم... شرّهم صعد أمام الله (راجع يونان 1: 2)، فهل من ينادي بالتّوبة؟!...
الإنسان، في كلّ عصر، هو هو، لأنّ أهواءه هي نفسها، لأنّ نفسه ما زالت في السّقوط... وإنسان السّقوط هو إنسان الخطيئة، لذلك قال الجامعة: ”مَوْضِعَ الْحَقِّ هُنَاكَ الظُّلْمُ، وَمَوْضِعَ الْعَدْلِ هُنَاكَ الْجَوْرُ!“ (3: 16). من يصنع الخطيئة ومن لا يريد أن يتوب يظلم نفسه، أوَّلًا، ولا يقدر أن يعدل لأنّه ليس له في ذاته قوّة الحقّ الّتي بالرّوح القدس، لأنّ روح الله لا يسكن في إناءٍ معاند!...
* * *
”فِي الْعَالَمِ سَيَكُونُ لَكُمْ ضِيقٌ، وَلكِنْ ثِقُوا: أَنَا قَدْ غَلَبْتُ الْعَالَمَ“ (يوحنا 16: 33). المسيح وحده غلب الشّرير، إبليس، وعالم الشّيطان. لا غلبة للإنسان على الشّرّ إلّا بالمسيح وفيه. خارج الكنيسة لا تستقرّ النّعمة الإلهيّة في أحد. فقط في جسد المسيح يسكن الرّوح القدس. هو يتحرّك ويفعل في كلّ الخليقة، ولكنّه ساكن في جسد المسيح... ملء النّعمة في الكنيسة، عمل النّعمة في الكون كلّه. من كان للمسيح عاش في طاعة كلمته. كلمة يسوع حياة أبديّة (راجع يوحنا 6: 68) ونور لخطى الإنسان وقلبه (راجع أمثال 6: 23). من يرفض كلمة المسيح هو ابن للظّلمة، والكلمة تدينه في اليوم الأخير. أبناء النّور هم أبناء طاعة الكلمة الإلهيّة، ولذلك هم في حرب لا هوادة فيها مع الشّرّ... وما هي أسلحة هذه الحرب؟! إنّها ”أسلحة النّور“ (رومية 13: 12) أي منطقة الحقّ ودرع البِرّ وأحذية البشارة بإنجيل السّلام وترس الإيمان وخوذة الخلاص وسيف الرّوح أي كلمة الله، هذا هو سلاح الله الكامل (راجع أفسس 6: 13—17).
* * *
”الضَّلاَلُ وَالظُّلْمَةُ خُلِقَا مَعَ الْخَطَأَةِ، وَالَّذِينَ يَرْتَاحُونَ إِلَى الشَّرِّ، فِي الشَّرِّ يَشِيخُونَ“ (سيراخ 11: 16). الشّرّير يخسر حياته إذ يفكّر بالشّرّ في قلبه لأنَّ مخافة الله ليست أمام عينيه، والبارّ يربحها لأنّه يلهج بكلمة الله الّتي تنير مهجته. حيث ذكر الرَّبّ يسوع فهناك النّور والنّعمة، وحيث نُكران الرَّبّ يسوع ورفضه فهناك الظّلمة والنِّقْمَة.
الإنسان على صورة الله هو، لذلك، لا يمكن له أن يجد راحة وسلامًا وفرحًا ما لم يدخل في علاقة كيانيّة مع خالقه أي ما لم ينفتح على النّور الإلهيّ بطاعة الوصيّة الّتي تنقّي القلب والكيان. لا شركة بين النّور والظّلمة، ومن كان ابنًا للنّور فلا يقدر أن يقبل بأعمال الظّلمة أي أعمال الشّرّ الّتي تناقض محبّة الله ومحبّة الإنسان. من هنا، أبناء النّور أعداء للظّلمة وحياتهم في النّعمة الإلهيّة تصير نورًا من الله يبدِّد ظلمة هذا العالم.
مَنْ كان مِنَ النّور يُقْبِلُ إلى النّور ويصير نبراسًا يهتدي به الّذين يبحثون عن الحقّ... عن الحبّ... عن الله...
ومن له أذنان للسّمع فليسمع...
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـم
طروباريَّة التَّجَلِّي (باللَّحن السَّابِع)
لمَّا تَجَلَّيْتَ أَيُّهَا المسيحُ الإلهُ في الجبل، أَظْهَرْتَ مجدَك للتَّلاميذِ حسبَمَا ﭐسْتَطَاعُوا، فأَشْرِقْ لنا نحنُ الخَطَأَة نورَكَ الأزَلِي، بشفاعاتِ والدةِ الإله، يا مانِحَ النُّورِ المجدُ لك.
قنداق التَّجَلِّي (باللَّحن السَّابِع)
تَجَلَّيْتَ أيُّها المسيحُ الإلهُ في الجبل، وحَسْبَمَا وَسِعَ تلاميذُك شاهَدُوا مَجْدَك، حتَّى، عندما يُعَايِنُوكَ مَصْلُوبًا، يَفْطَنُوا أنَّ آلامَكَ طوعًا بـﭑختيارِك، ويَكْرِزُوا للعالم أنَّكَ أَنْتَ بالحقيقةِ شُعَاعُ الآب.
الرِّسالَة (2 بط1: 10-19)
ما أعظَمَ أعمالَكَ يا ربُّ، كلَّها بحكمةٍ صَنعتَ؛
باركي يا نفسي الرَّبَّ
يا إخوةُ، اجتهدوا أن تجعلوا دعوتكم وانتخابكم ثابتَيْن. فإنَّكم، إذا فعلتم ذلك، لا تزلُّون أبدًا. وهكذا تُمنَحون بسخاءٍ أن تدخلوا ملكوت ربّنا ومخلّصنا يسوع المسيح الأبديَّ. لذلك لا أهمل تذكيركم دائمًا بهذه الأمور وإِن كنتم عالمين بها وراسخين في الحقّ الحاضر. وأرى من الحقّ أنّي ما دمت في هذا المسكن أُنهِضكم بالتَّذكير، فإنّي أعلم أنَّ خلع مَسْكِني قريبٌ كما أعلن لي ربُّنا يسوع المسيح. وسأجتهد أن يكون لكم بعد خروجي تذكُّرُ هذه الأمور كلَّ حينٍ، لأنَّا لم نتَّبع خرافاتٍ مصنَّعةً إذ أعلمناكم قوَّة ربّنا يسوع المسيح ومجيئَهُ، بل كنَّا مُعاينين جلالهُ، لأنَّهُ أخذ من الله الآب الكرامة والمجد، إذ جاءَهُ من المجد الفخيم صوتٌ يقول هذا هو ابني الحبيب الَّذي بهِ سُررت. وقد سمعنا نحن هذا الصَّوْت آتيًا من السَّماءِ حين كنَّا معهُ في الجبل المقدَّس. وعندنا أثبتُ من ذلك وهو كلام الأنبياء الَّذي تُحسِنون إذا أصغيتم إليهِ كأنَّهُ مصباحٌ يُضيءُ في مكانٍ مُظلم، إلى أن ينْفَجِر النَّهار ويُشرق كوكب الصُّبح في قلوبكم.
الإنجيل(متّى 17: 1-9)
في ذلك الزَّمان أخذ يسوعُ بطرسَ ويعقوبَ ويوحنّا أخاهُ، فأصْعَدَهم إلى جبلٍ عالٍ على انفرادٍ، وتجلَّى قدَّامَهم، وأضاءَ وجهُه كالشَّمس وصارت ثيابُهُ بيضاءَ كالنُّور. وإذا موسى وإيليَّا تراءَيا لهم يُخاطِبانه. فخاطَب بُطْرسُ يسوعَ وقال له: يا ربُّ حسَنٌ أنْ نكونَ ههنا. وإن شئْتَ فلنصْنَعْ ههنا ثلاثَ مظالَّ: واحدةً لك وواحدة لموسى وواحدةً لإيليَّا. وفيما هو يتكلَّم إذا سحابةٌ نَيِّرَةٌ قد ظلَّلتهم وصوتٌ من السَّحابة يقول: هذا هو ابني الحبيب الَّذي به سُررتُ فلهُ اسمعوا. فلمَّا سمع التَّلاميذ سقطوا على أوُجهِهم وخافوا جدًّا. فدنا يسوعُ إليهم ولمسهم قائلًا: قوموا، لا تخافوا. فرفعوا أعيُنَهم فلم يرَوا إلَّا يسوعَ وَحْدَهُ. وفيما هم نازِلون من الجبلِ أوصاهم يسوعُ قائلًا: لا تُعلِموا أحدًا بالرُّؤيا حتَّى يقوم ابنُ البشر من بين الأموات.
حول الرّسالة
الآية ١٠: الجهاد عنصرٍ هامّ وضَروريّ في الحياة الرُّوحيَّة لكي تثبت دعوة المؤمن ويثبت اختياره. وبدون هذا الجهاد يسقط المؤمن ويتعثَّر ويخسر دعوته واختياره.
الآية ١١: لئلّا ييأس أحٌد مِنْ خَلاصِهِ أكمل بطرس وقال هذه الآية مُوْضِحًا أنّ ملكوت الله واسعٌ ومَفتوح للمُجاهِدِين بثباتٍ "لأنَّنا إنْ صبرنا معه فسنملك أيضًا معه" (٢ تيموثاوس ١٢:٢).
الآيات ١٢ - ١٣ - ١٤ - ١٥: أدرك بطرس دنُوَّ موعد خلع مسكنه الأرضيّ (استشهاده)، لأنَّ الوثنيّين استشاطوا منه غضبًا بسبب نشره الإيمان المَسيحيّ بِقُوَّةٍ فقرَّروا التّخلُّص منه. كلُّ هذا دفعه بسبب غيرته الرَّسولِيَّة إلى تَذكير أولاده بأبديَّتهم وضرورة الاستعداد لها بِحِرْصٍ وجدّيَّة. هذا التَّذكُّر بالموت والأبديَّة لطالما كان الشِّغل الشَّاغل لعشَّاق النُّسْك والتَّوحُّد ورهبان البَراري والقِفار ويجب أن يكون عليه كلُّ مؤمنٍ في العالم. هو يحثُّهم على أن يظلّ هَمُّ الموت والأبديّة شاغِلًا دومًا لهم، وأنْ لا يَملُّوا منه حتّى بعد خروجه هو عنهم.
الآيات ١٦-١٧-١٨: لم تكن الكرازة بالملكوت مِنْ وَحِي خَيال الرُّسُل بل هُم تأكَّدوا مِنْ عَظَمَةِ الرَّبِّ وقوَّتَه وألوهيَّتَه مِنْ خِلال مُعايَنَتِهم له وخصوصًا ما حدث للرُّسُل بطرس ويَعقوب ويُوحَنَّا يوم تَجلِّي الرَّبّ على جبل ثابور. وهذا ما كان السَّيِّد أنبأ به مُسْبَقًا: "إنْ مِنَ القِيام ههنا قوْمًا لا يَذوقون المَوْت حتَّى يَرَوا ابنَ الإنسان آتيًا في ملكوته" (مت ٢٨:١٦). وقد شَهِدَ أيضًا الرَّسول يوحنّا لمّا عاينه يوم التَّجَلِّي قائلًا: "ورأينا مجده مجدًا كما لِوَحيدٍ من الآب مملوءًا نعمةً وحقًّا" (يو ١٤:١).
الآية ١٩: الرَّسول بطرس كخادِمٍ للخِتان يهتمّ بِشَهادَةٍ العهد القديم عن الرَّبّ يسوع المُخَلِّص
(١بط ١: ١٠- ١٢) (أع ٣ :٢٠- ٢٦) وهي أثبت شهادة أنبياء مِنْ أزمَنةً مُختَلِفَة تَدور حَوْل تَجَسُّد الرَّبّ وآلامه وصلبه وقيامته وأمجاده ومجيئه الثَّاني. بطرس يمدحهم من أجل اهتمامهم بدراستها وفحصها بتدقيقٍ "الَّتي تفعلون حسنًا إنْ انتبهتم إليها كما إلى سِراجٍ مُنيرٍ" يبدِّد الظُّلمة ويُشرق في القلب كوكب الصُّبح (الرَّبُّ يسوع) الَّذي يُضيء القلوب ويُزيل عتمتها.
الشَّهادة البَيْضاء
من بعد قيامته وقُبَيْل صُعودِهِ إلى السَّماوات أوصى الرَّبّ يسوع تلاميذه لينطلقوا إلى البشارة قائلًا: "اذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الآب وَالابْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ" (متّى 28: 18)، مِنَ الواضح أنَّ التَّبشير يرافقه التَّعليم، وأنَّ على المؤمن أنْ يحْفَظَ وصايا الرَّبّ. "وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ" (متّى 28: 20).
التَّبشير بخلاص الرَّبِّ الَّذي صنعه على الصَّليب، والتَّعليم لوصايا المسيح الخلاصِيَّة هما عمليَّتان مستمَّرتان من أيّام الرُّسُل حتّى يومنا هذا عبر الأساقفة والكهنة والشَّمامِسَة والرُّهبان ومن تنتدبهم الكنيسة للتَّعليم والوَعظ، ومُلازِم أيضًا لكلِّ مؤمن، ومن خصائص الإيمان. "لأَنَّهُ إِنْ كُنْتُ أُبَشِّرُ فَلَيْسَ لِي فَخْرٌ، إِذِ الضَّرُورَةُ مَوْضُوعَةٌ عَلَيَّ، فَوَيْلٌ لِي إِنْ كُنْتُ لاَ أُبَشِّر" (1 كو 9: 16). فإذًا كلّ مؤمِنٍ هو خادمٌ للبشارة، إنْ كان إكليريكيًّا أو علمانيًّا، كلّ من موقعه، وفي محيطه، وحيث يتواجد...
من تبعات البشارة على المؤمنين أنَّهم يطردون الشَّياطين، وما أكثرها في أيّامنا هذه، كشياطين التَّكبُّر، والكَسَل، واللّامُبالاة، والثَّرثرة، والنَّميمة، والمَجْد الباطل، والزِّنى، وعدم الحشمة، والشُّذوذ، وغيرها... لِطَرْد تلك الشَّياطين من النّاس، على المؤمن أنْ يصطادهم بالتَّكلُّم معهم بلغَةٍ جديدة يفهمونها ويُحِبُّونَها، فَلِكُلِّ عَصْرٍ لغةٍ جديدة خاصَّة. "وَهذِهِ الآيَاتُ تَتْبَعُ الْمُؤْمِنِينَ: يُخْرِجُونَ الشَّيَاطِينَ بِاسْمِي، وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةٍ جَدِيدَةٍ... " (مرقس 16: 16).
وهذا يتطلَّب إبداع المؤمن الَّذي يحبُّ المسيح، وإدراك مدى مسؤولِيَّته البِشارِيَّة والرِّعائيَّة، واستعداده لتقبّل تغيير جذريّ في النَّاس المَدعوِّين، وعدم الحكم عليهم، بل انتظار توبتهم بصبرٍ ومحبَّةٍ ورجاء. "وَأَنْ يُكْرَزَ بِاسْمِهِ بِالتَّوْبَةِ وَمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا لِجَمِيعِ الأُمَمِ..." (لوقا 24: 48). وانتظار توبتهم الصّادقة تستدعي منّا غفران خطاياهم الَّتي تابوا عنها، فتتحقّق عندئذٍ غاية البشارة. "وَلَمَّا قَالَ هذَا نَفَخَ وَقَالَ لَهُمُ:"اقْبَلُوا الرُّوحَ الْقُدُسَ. مَنْ غَفَرْتُمْ خَطَايَاهُ تُغْفَرُ لَهُ، وَمَنْ أَمْسَكْتُمْ خَطَايَاهُ أُمْسِكَتْ" (يوحنّا 20: 21- 23). ويَعُمُّ الفرح في السَّماء. "هكَذَا، أَقُولُ لَكُمْ: يَكُونُ فَرَحٌ قُدَّامَ مَلاَئِكَةِ اللهِ بِخَاطِئٍ وَاحِدٍ يَتُوبُ" (لوقا 15: 10).
لكي يتحقَّق كلُّ ذلك على المُبَشِّر أْن يَرعى النّاس خراف المسيح، فالتَّبْشير مُرتَبِط بالرِّعايَة، والرِّعاية مرتبطة بمِقْدار محبَّتنا للمسيح، "يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، أَتُحِبُّنِي أَكْثَرَ مِنْ هؤُلاَءِ؟" قَالَ لَهُ: "نَعَمْ يَا رَبُّ أَنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّكَ". قَالَ لَهُ: "ارْعَ خِرَافِي". (يوحنّا 21: 15).
من الواجب والأفضل أنْ تبدأ الرِّعاية منذ الصِّغَر، "دَعُوا الأَوْلاَدَ يَأْتُونَ إِلَيَّ وَلاَ تَمْنَعُوهُمْ لأَنَّ لِمِثْلِ هؤُلاَءِ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ" (متى19: 14). وذلك بأن يكون قدوة صالحة، وبدعوتهم لخدمة الرَّبِّ في الهيكل، أو للتَّرتيل في الكنيسة، على سبيل المِثال، لكي يُثْمِروا، وهنا يبرز أسلوب الكاهن في جذبهم بالتَّعاون مع المُرَتِّلين والقندلفت. "أمّا أنا فإنّي مثل زيتونةٍ مُثْمِرةٍ في بيت الله وعلى رحمةِ اللهِ توكَّلتُ مدى الدَّهر وإلى أبد الآبدين" (مز 51: 8).
قراءة في النّور الغير المخلوق
للقدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفَم
لمَ تشَبِّهونه بالشَّمس وهو صانعها و”المتسربل بالنُّور كالثَّوب"، و”كوكب الصُّبح”، وهو “النُّور المولود من النُّور”؟ هل يمكن تشبيه الله الفائق المجد؟ الَّذي لا يُقارن؟
هل أراد أن يريهم "المجد الَّذي كان له “من قبل إنشاء العالم"؟. وابتغى أن يريهم الإله، ابن الله، المتخفّي وراء الجسد البشري والمتجسد لأجل خلاص البشر؟
لقد أراهم مجده. ولكن، لماذا كتم الإله الَّذي قبل كلِّ الدُّهور، ملك الملوك وربُّ الأرباب، عظمتَه ومجده كلّ الفترة الَّتي أمضاها مع تلاميذه ولم يظهرهما إلّا بهذه الطَّريقة؟
هل وجد أنَّهم كانوا، حتّى تلك السَّاعة، عاجزين عن فهم ألوهته؟
لقد شقّ الرَّبُّ جزئيًّا باب الألوهة وأراهم الإله الَّذي يسكن فيه وتجلّى أمامهم.
ويكمل: لماذا قال الإنجيليّ: "أكثر من الشّمس"؟ لأنّه ليس من كوكبٍ أكثر ضياءً منها. ولماذا قال: "أكثر بياضًا من الثَّلج"؟ لأنّه ليس من مادَّةٍ أكثر بياضًا، ولكنّه لم يشعّ هكذا، إذ "وقع التَّلاميذ أرضًا".
فلو كان يشع كالشَّمس لما وقع التَّلاميذ أرضًا، إذ كانوا يرَوْنَ الشَّمس كلّ يومٍ ولا يقعون أرضًا، بل لأنَّه شعّ أكثر من الشَّمس وأكثر من الثَّلج.
لقد أشفق يسوع على تلاميذه، نزل إلى ضعفهم، أراهم من ألوهته فقط بقدر ما يستطيعون احتماله وهذا ما تقوله الطّروباريّة في عيد التّجلّي.
فماذا كان حدث لو أنّه أراهم مجده الحقيقيّ؟ أما كانت الدُّنيا فنيتْ، لأنّه “ينظر إلى الأرض فيجعلها ترتعد ويمسّ الجبال فتدخّن”؟ لو أنّه أبدى جوهره، أما كانت الشَّمس انطفأت والقمر اضمحلّ والأرض فنيت؟ لهذا غلّف نفسه بجسدٍ وأتى بعذوبة ودون صخب. إنّ النُّور كان على وجه موسى عابرًا (2 كور 3: 7).
الآب والكلمة والرُّوح القدس يملكون هذا النُّور بالطَّبيعة أمّا الآخَرون فيشتركون في النُّور بالنِّعْمَة. وهذا ما نراه في موسى وإيليّا. ليست أوَّل مَرَّة يشترك موسى بالنُّور على جبل ثابور، بل في الماضي أيضًا حين رآه بنو إسرائيل مضيء الوجه ولم يتمكَّنوا مِنَ التَّحديقِ فيه (خر 34: 29) “موسى تلقّى على وجه مائت مجدَ الله غيرَ المائت".
أنقر هنا لتحميل الملفّ