نشرة كنيستي
نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.
الأحد 12 آذار 2023
العدد 11
الأحد (2) من الصّوم (القدّيس غريغوريوس بالاماس)
اللّحن 6- الإيوثينا 6
أعياد الأسبوع: *12: الأحد الثّاني من الصّوم، القدّيس غريغوريوس بالاماس، القدِّيس ثيوفانّس المُعترف، القدِّيس غريغوريوس الذّيالوغوس بابا رومية، القدّيس سمعان اللّاهوتيّ الحديث *13: نقل عظام القدِّيس نيكيفورس بطريرك القسطنطينيّة *14: البارّ بنادكتس، البارّ ألكسندروس *15: الشُّهداء أغابيوس والسَّبعة الَّذين معه *16: الشّهيد سابينوس المصريّ، البارّ خريستوذولس *17: المديح الثّالث، القدّيس ألكسيوس رجل الله *18: القدّيس كيرلُّس رئيس أساقفة أورشليم.
كلمة الرّاعي
التّنقية والاستنارة والتّألّه بالنّعمة
الخطيئة ظلمة والتّوبة نور. الأهواء عبوديّة واللّاهوى حرّيّة. الإنسان مخلوق ويمتلك في ذاته صورة غير المخلوق. الحياة انوجاد دائم في الله والموت غربة مستمرّة عن الخالق.
"إِنَّ اللهَ نُورٌ وَلَيْسَ فِيهِ ظُلْمَةٌ الْبَتَّةَ" (رسالة يوحنا الرسول الأولى 1: 5) والإنسان المخلوق على صورة الله نفخ الرّبّ فيه، عند الخلق الأوّل، روحه المُحيي والمُنير، فكان يحيا في حالة النّعمة والاستنارة والمعاينة لله. لمّا انفصل الإنسان عن خالقه خسر سُكنى النّعمة الإلهيّة فيه وبالتّالي نور النّعمة، فدخلت الظُّلمة حياته وفكره وعقله وقلبه وكيانه. عندما فكّ الإنسان حياته عن وصيّة الله خسر النّور المتأتّي بالكلمة الّتي من الكلمة الإلهيّ بالرّوح القدس "لأَنَّ الْوَصِيَّةَ مِصْبَاحٌ، وَالشَّرِيعَةَ نُورٌ" من النّور الإلهيّ غير المخلوق (سفر الأمثال 6: 23).
* * *
خارج النّور الإلهيّ لا يوجد محبّة ولا فرح ولا سلام ولا أيّة نعمة أخرى. الإنسان بعيدًا عن نور الله يغرق في الظّلمة المولِّدة للكآبة والحزن واليأس والاضطراب والقلق والخوف لأنّه يحيا خارج الله. حياة الإنسان في الله تكون أو لا تكون لأنّ الرّبّ هو الحياة. من يريد أن يعيش بالانفصال عن الله يطلب العدم حياةً له لأنّه يحيا من ذاته وفي ذاته ولذاته. هذه هي قمّة الظّلمة، هذه هي حالة الشّيطان وزبانيّته.
المسيح الإله المتأنّس تجسَّد لكي يعيد خلق البشريّة فيه، في إنسانيّته، إذ أخذ الطّبيعة الّتي للبشر وحمل على عاتقه خطايا الخليقة كلّها لكي بالموت عن العصيان الأوّل في آدم الجديد تستقرّ النّعمة الإلهيّة غير المخلوقة في كلّ إنسان يولد في المسيح بالطّاعة لله الآب في الابن بالرّوح القدس.
* * *
أتريد أيّها الإنسان أن تستنير؟! ... عليك أن تطيع المسيح. كيف تطيع المسيح؟! ... بطاعة وصيّته. ما هي وصيّته؟! ... "تُوبُوا لأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ" (إنجيل متى 4: 17). المسيح يدعونا إلى التّوبة، فهل تصدِّق أنَّك بحاجة إلى التّوبة أيّها الإنسان، أم تظنّ نفسك بريئًا من كلّ خطيئة. الإنسان الأوّل أخطأ الهدف من حياته لأنّه كان مدعوًّا لعيش الحبّ في الشرّكة ففضّل عيشه في الانغلاق على نفسه. هكذا نحن أيضًا خارج المسيح ننغلق على ذواتنا فنقبع في ظلمة عتمة قلوبنا الّتي نظنّها النّور وما هي إلّا صورة وَهْمِ تألُّهنا من ذاتنا.
طريقنا للحياة الحقانيّة هو التّوبة الّتي بنعمة الله تمنحنا التّنقية، تنقية الفكر والعقل والقلب والكيان بِرُمَّتِه. لكنّ التّوبة تتطلَّب العنف مع المشيئة الذاتيّة، لأنّك لن تستطيع أن تقلع نفسك من ذاتها إذ جذور الأنا ضاربة في أعماق الكيان بدون أن تقرف حلاوة الخطيئة وتكره عبوديّة الأهواء. من يظنّ أنّ بإمكانه أن يتوب دون ألم لا يريد أن يتوب. ومن يريد أن يتوب عليه أن يتخلّى عن إرادته بإزاء الكلمة الإلهيّة الّتي تكشف له حقيقة أفكاره ونواياه والأهواء المُسيطرة عليه من خلال الصّلاة والتّأمّل والطّاعة للأب الرّوحيّ المستنير والمُخْتَبَر.
حربنا للتّطُّهر تستمرّ مدى العمر، لكنّ الله بنعمته وحنّوّه يمنحنا في مسيرة تنقيتنا أن ننمو في استنارة القلب، إلى أن يمنحنا برحمته إذا ثبتنا في التّوبة والارتقاء أن نختبر مُعاينته في النّور غير المخلوق، فندخل في الدَّهَش والتّألّه الّذي هو اتّحادنا بالثّالوث القدّوس من خلال المسيح في نعمة الرّوح القدس بحسب مسرّة الله الآب.
جهاد صومنا وصلاتنا وخدمة المحبّة في حياتنا وطاعتنا للكلمة كلّها تهدف لنصير أنقياء القلوب وأحرارًا من كلّ قيد في النّفس أو الجسد يعيقنا عن أنّ نحب الله فوق كلّ أحد وشيء لنصير بهذه المحبّة متّحدين في الرّبّ مع الكلّ ونحيا لأجل الكلّ بالبذل بقوّة الله ونعمته غير المخلوقة...
(من الأرشيف، نشرة كنيستي– 24 آذار 2019)
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما
طروباريّة القيامة (باللَّحن السّادس)
إنَّ القوّاتِ الملائكيّةَ ظهروا على قبرك المُوَقَّر، والحرّاس صاروا كالأموات، ومريمَ وقفت عندَ القبر طالبةً جسدَك الطَّاهِر، فسَبيْتَ الجحيمَ ولم تُجرَّب منها، وصادفتَ البتول مانحًا الحياة، فيا من قامَ من بين الأمواتِ، يا ربُّ، المجدُ لك.
طروباريّة القدّيس غريغوريوس بالاماس (باللَّحن الثّامن)
يا كوكبَ الرّأي المُستَقيم، وسَنَدَ الكنيسةِ ومعلِّمَها. يا جَمالَ المُتوحِّدينَ، ونصيرًا لا يُحارَب للمُتكلِّمينَ باللّاهوت، غريغوريوسَ العجائبيّ، فخرَ تسالونيكية وكاروزَ النِّعْمَة، ابتَهِلْ على الدَّوامِ في خلاصِ نفوسِنا.
القنداق (باللَّحن الثّامِن)
إنّي أنا عَبْدُكِ يا والدةَ الإله، أكتبُ لكِ راياتِ الغَلَبة يا جُنديَّةً مُحامِيَة، وأُقَدِّمُ لكِ الشُّكرَ كمُنقِذةٍ مِنَ الشَّدائد. لكنْ، بما أنَّ لكِ العِزَّة الَّتي لا تُحارَب، أعتقيني من صُنوفِ الشَّدِائد، حتّى أصرُخَ إليكِ: إفرحي يا عروسًا لا عروسَ لها.
الرّسالة (عب 1: 10-14، 2: 1-3)
أنتَ يا رَبُّ تَحْفَظُنا وتَسْتُرُنا في هذا الجيلِ
خَلِّصني يا رَبُّ فإنَّ البارَّ قَد فَنِيَ
أنت يا ربُّ في البَدءِ أسَّستَ الأرضَ والسَّماواتُ هي صُنعُ يديْكَ. وهي تزولُ وأنت تبقى، وكلُّها تَبْلى كالثَّوْب، وتَطويها كالرِّداء فتَتَغيَّر، وأنتَ أنتَ وسِنوكَ لن تفنى. ولِمَنْ مِنَ المَلائكة قال قطُّ اجْلِسْ عن يَميني حتّى أجعلَ أعداءَك موطِئًا لِقَدَمَيْكَ. أليسوا جميعُهُم أرواحًا خادمةً تُرْسَلُ للخدمةِ من أجلِ الَّذين سَيَرِثون الخلاص. فلذلك يجب علينا أن نُصغِيَ إلى ما سمعناهُ إصغاءً أشَدَّ لئلَّا يَسْرَبَ مِنْ أذهانِنا. فإنَّه إنْ كانتِ الكلمةُ الَّتي نُطِقَ بها على ألسنةِ ملائكةِ قَدْ ثَبُتَتْ وكلُّ تَعدٍّ ومعَصِيَةِ نالَ جزاءً عدْلًا، فكيفَ نُفْلِتُ نحنُ إنْ أهْمَلنا خلاصًا عظيمًا كهذا، قد ابتدأ النُّطقُ بِهِ على لسانِ الرَّبِّ، ثمَّ ثبَّتَهُ لنا الَّذين سمعوهُ؟
الإنجيل (مر 2: 1-12)
في ذلك الزَّمان، دخل يسوعُ كَفَرْناحومَ وسُمِعَ أنَّهُ في بَيتٍ، فَلِلوقتِ اجتمعَ كثيرونَ حتّى أنَّه لم يَعُدْ مَوْضِعٌ ولا ما حَول البابِ يَسَعُ. وكان يخاطِبُهم بالكلمة، فأتَوْا إليْهِ بِمُخلَّع يَحمِلُهُ أربعةُ. وإذ لم يقْدِروا أنْ يقتربوا إليهِ لِسَببِ الجمع كَشَفوا السَّقفَ حيث كانَ. وَبعْدَ ما نَقَبوهُ دَلَّوا السَّريرَ الَّذي كان المخلَّعُ مُضْطجعًا عليه. فلمّا رأى يسوعُ إيمانَهم، قالَ للمُخلَّع: يا بُنيَّ، مغفورةٌ لكَ خطاياك. وكان قومٌ مِنَ الكتبةِ جالسينَ هُناكَ يُفكِّرون في قُلوبِهِم: ما بالُ هذا يتكلَّمُ هكذا بالتَّجديف؟ مَنْ يَقْدِرُ أن يَغفِرَ الخطايا إلَّا اللهُ وَحْدَهُ؟!! فَلِلْوقْتِ عَلِمَ يَسوعُ برِوحِهِ أنَّهُم يُفَكرِونَ هكذا في أنفسِهِم، فقالَ لهُم: لِماذا تفَكِّرون بهذا في قلوبكم؟ ما الأيسَرُ أن يُقالَ مَغفورةٌ لكَ خطاياكَ أمْ أن يُقالَ قُمْ واحمِلْ سريرَكَ وامشِ؟ ولكنْ لكي تَعْلموا أنَّ ابنَ البشر لَهُ سلطانٌ على الأرضِ أن يَغفِرَ الخطايا (قالَ للمُخلَّع) لكَ أقولُ قُمْ واحمِل سَريركَ واذهَبْ إلى بَيتِكَ. فقامَ للوَقتِ وحَمَلَ سَريرَهُ، وخرَج أمامَ الجميع، حتّى دَهِشَ كُلُّهُم ومجَّدوا الله قائلينَ: ما رَأينا قطُّ مِثلَ هذا.
حول الإنجيل
في الأحد الثَّاني مِنَ الصَّوْم الكبير نقرأ في إنجيل مرقس (1:2-12) قصَّة شفاء المُخَلَّع الَّتي يمكن أن نفسِّرَها مِنْ وجهة نظر أدبيَّة، أي خلال عرضنا للنَّصّ كما هو، ومِنْ وِجهة نظر أخرى روحيَّة.
بعد أنْ حَرَّر يسوع رجلًا في المجمع في كفرناحوم، مِنَ الرُّوح النَّجِس، وصل صيته إلى كلّ النّاس فجذبهم لأنَّهم رأوا فيه الطَّبيب الشَّافي مِنْ كلّ أمراضهم. لذلك صاروا يطلبونه أينما ذهب. عندما سمع النّاس أنَّه في بيتٍ اجتمع كثيرون من اليهود حتّى لم يَعُدْ يَسَع ولا ما حول الباب، وكان يخاطبهم بالكلِمة (1:2-2)، لأنّ هذا كان يشكلّ عمله الكِرازيّ الأساسيّ: خلاص البشر ودعوتهم إلى التَّوْبة "لم آت لأدعو أبرارًا بل خطأة إلى التَّوبة" (2: 17). دخلوا بالمُخلّع إليه طالبين ، طبعًا، أنْ يَحُلَّه ويُخَلِّصه مِنْ مرضه. وكان جميع النّاس ينتظرون شفاء الجسد، لكنَّ الرَّبّ يسوع أعطاه أعظم من ذلك ألَا وهو مغفرة الخطايا، وخاصَّةً بعد أنْ رأى يسوع إيمانهم وثقتهم: "قال للمُخَلّع يا بنيّ مغفورة لك خطاياك" (2: 5).
هذا يدلّ على سلطة يسوع الإلهيَّة، إذ أنّه لا يستطيع أحدٌ غير الله أنْ يغفر الخطايا بحسب الكتب المُقَدَّسَة، وهذا ما أزعج بعض الكتبة العادِمي القلب الرَّافضين دائمًا لسُلْطانِ يسوع. لأنَّ السَّيِّد هو صاحب السُّلطان الإلهيّ، الغافِر والفادي والشَّافي والدَّيّان، يُقرَنُ القَوْل بالفعل لذلك قال للمُخَلَّع: "قُمْ احمل سريرك واذهب إلى بيتك" (11:2).
في فترة الصَّوْم هذه نجد أنفسنا أحيانًا كالمُخَلَّع مُستسلمين لمَلَذّاتِنا جالسين على سرير محبَّة الأهواء ظانّين أنّها تُعطينا راحة جسديَّة ولكن عندما نقتنع أنّنا مَرضى مَشْلولين وبِحاجة إلى دينونة أنفسِنا، والاعتراف بخطايانا، والوَعد بالابتعاد عنْ كلّ شَرّ، والابتهال إلى الله الرَّحيم. هذه كلّها لا يُمكن أن تقرِّبنا إلى الله ما لم نَعِ أنَّ أهواءَنا ورغباتِنا تُعيقُنا من الشِّفاء من أمراضنا الرُّوحيّة.
هكذا عندما نواجه هذا الشَّلَلْ بإيمان ونسمَع مِنَ الرَّبِّ صوت الغُفران والمُسامَحَة "يا أبنائي مغفورةٌ لكم خطاياكم"، عندئذ نحمل سريرنا على كتفنا مُزيلين الجسد المادّيّ الخاضع للشَّهوات الجسديَّة وأعمال الخطيئة. فنستنير بنور الرَّبِّ ونُظْهِر ثمارَ التَّوْبة وأعمالها "فلْيُضء نورُكم هكذا قُدّامَ النّاس لكي يَرَوْا أعمالكم الحَسَنَة ويُمَجِّدُوا أباكم الَّذي في السَّماوات" (مت 5: 16).
الحياة الملائكيّة لدى القديس غريعوريوس بالاماس
رتَّبَتْ الكنيسة المُقَدَّسة تذكارَهُ في الأحد الثّاني مِنَ الصَّوْم بالإضافة لتذكاره في ١٤ تشرين الثّاني.
تخصيص الكنيسة هذا الأحد الخاصّ بالصَّوْم لِنُقيمَ فيه خدمة القدِّيس غريغوريوس، يأتي مِنْ حرص الكنيسة على المؤمنين لِيَنْشَغلوا بحياتهم الرُّوحيّة المَبنيَّة على الصَّلاة والصَّوْم وانشغال الذِّهن الدَّائم بالله والاتِّحاد به. ذلك أنَّ القدِّيس بالاماس يمثِّل أبرز الآباء الهدوئيّين الَّذين مارَسوا الزُّهد والتَّقَشُّف والصَّلاة غير المنقطعة.
صار أسقفًا على تسالونيك في اليونان في القرن الرَّابع عشر. كان قد ترك القسطنطينيَّة والقصر الإمبراطوريّ والعالم وما فيه وما له من أمجادٍ باطلة، ملتحقًا بجبل آثوس ليتبع نمط الحياة الرُّهبانيَّة بالجهاد والنُّسك وحياة الهُدوء، بنَفْسٍ ملتصِقَةٍ بالله، فأصبح مرآةٍ إلهيَّة للرُّوح القدُس، مُرتقيًا إلى قِمَّة العمل والرُّؤية أي إلى المُعاينة الإلهيَّة. استنار عقله بأنوارِ الرُّوح القدس، فترك للكنيسة إرثًا عظيمًا من الكتابات الحكيمة واللَّاهوتيَّة.
لَمْ يَجْمَع في كتاباته ما قاله تقليد الآباء القدِّيسين مِنْ قِبَلِه فحسب، بل أضافَ مَسائل فائقة الطَّبيعة، اكتسبها بعد خبرةٍ طويلة في الجهاد المغبوط، فشَكَّل نموذجًا للاهوتِ الآباء حَوْل الحياة الهدوئيَّة والصُّوفيَّة، كَشَرطٍ لاختبار الحياة الرُّوحيّة بالله والاتِّحاد به. تعليم القدِّيس بالاماس حول الحياة الهدوئيَّة والذِّهن الرُّوحيّ الإلهيّ، صدّق عليه مجمع القسطنطينيَّة عام ١٣٥١، وذلك أنَّ هذه الخبرة الرُّوحيَّة تنبع مِنْ روح الإنجيل وعظة الرَّبّ على الجبل والتَّطويبات.
لا عجب بهذا المَسار الرُّهبانيّ للقدِّيس بالاماس، إذْ بعد موتِ أبيه أقنع أخواته وإخوته ووالدته ليصيروا رهبانًا وراهبات، فالتحقت النِّساء بِدَيْرٍ في القسطنطينيّة، وذهب الرِّجال مع غريغوريوس إلى جبل آثوس.
تلقّى بالاماس هبة ونعمة اللَّاهوت مِنَ السَّيِّدة العذراء الفائقة القَدَاسة. وقَدَّم للكنيسة كتاباتٍ روحيَّة مُستنيرةً بالرُّوح القُدُس. بعدْ أنْ أصبح متروبوليتًا على تسالونيك أنار بقداسته وعجائبه وحكمته الرِّعائيَّة والتَّدبيريَّة مِنْ معين نعمة اللَّاهوت. كتب عددًا من الأعمال العقائديَّة تتضمَّن مواضيعَ ومَسائلَ الحياة الرُّوحيّة، الَّتي عليها استند أيضًا بعض القدِّيسين أمثال القدِّيس مكاريوس نوطراس أسقف كورنثوس ونيقوذيموس الآثوسيّ وضمّوها إلى مؤلّفهما الفيلوكاليا، ولا سِيَّما رسالته إلى الرَّاهبة كساني.
تتضمَّن هذه الرِّسالة مُجْمَل لاهوته الصُّوفيّ والرُّهبانيّ والحياة الهدوئيَّة الرُّهبانيّة الَّتي اختبرها وهي شرط للصَّلاة غير المنقطعة بحسب وصايا الرَّبّ، وهي تشكِّل الأسلحة المناسبة ضدَّ الأهواء، مُشدِّدًا فيها على الحزن الرُّوحيّ والدُّموع (بسبب الخطايا)، الزُّهد، الفقر ومُشَدِّدًا على اكتساب التَّواضع ومحبَّةِ الله والقَريب.
هكذا تدريجيًّا يقول بالاماس تصل الرّاهبة أو الرّاهب وتنتقل مِنْ طور التَّطهُّر وطهارة القلب إلى حالة التّشابه والاتّحاد بالله. هذه الرِّسالة تشكِّل نموذجًا رعائيًّا للرَّاهبات كما للرُّهبان...
وهكذا، يتابع في الرِّسالة، إنَّ النَّفْس البشريّة تتوق إلى التَّعليم الرُّوحيّ الَّذي لا يُشبع منه. لذلك حكمة الله تقول: كلّ مَنْ يأكُلُ منّي يبغي المزيد، والرَّبُّ وَضَعَ فينا هذه الرَّغبة، إذْ قال عن مريم أخت لِعازر: اختارت النَّصيب الصَّالِح، ولن يُنزَع منها. وأنتِ أيضًا تحتاجين لهذا التَّعليم مع سائر الرَّاهبات اللَّواتي يَعِشْنَ تحت تربيتك الرُّوحيّة....
فكما أنَّ موت النَّفْس هو الموت الأساسيّ، هكذا أيضًا فحياة النَّفْس هي الحياة الأساسيَّة. فحياة النَّفْس هي الاتِّحاد بالله، تمامًا كما أنّ حياة الجسد هي باتِّحادها بالجسد.
عندما تعدَّى آدم الوصيَّة، انفصلت نفْسُهُ عنِ الله وأميتَتْ، هكذا أيضًا بطاعَةِ الوصيَّة الإلهيَّة، اتَّحَدَتْ مُجَدَّدًا بالله وأُحْيِيَتْ. يقول الرَّبّ في الإنجيل: "الكلام الَّذي أقوله لكم هو روحٌ وحياة" وبالخبرة الرُّوحيّة الَّتي اكتسبها بطرس الرَّسول قال: "عندك يا ربُّ كلام الحياة الأبديَّة".
(عن الفيلوكاليا الجزء الرّابع)