نشرة كنيستي
نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.
الأحد 11 كانون الأوّل 2022
العدد 50
الأحد (26) بعد العنصرة
اللّحن 1- الإيوثينا 4
أعياد الأسبوع: *11: البارّ دانيال العاموديّ، القدّيس لوقا العاموديّ، الشّهيد برسابا *12: القدّيس اسبيريدُنس العجائبيّ أسقف تريميثوس *13: الشّهداء الخمسة أفستراتيوس ورفقته، الشّهيدة لوكيا البتول *14: الشّهداء ثيرسس ورفقته *15: الشّهيد في الكهنة آلفثاريوس وامَّه أنثيّا *16: النّبيّ حجّي، القدّيسة ثاوفانُس الملكة العجائبيّة *17: النّبي دانيال والفتية الثّلاثة، القدّيس ديونيسيوس أسقف أجينة.
الكلمة الإفتتاحيّة
روح الحَقّ وروح الخداع
"اَلْقَلْبُ أَخْدَعُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ نَجِيسٌ، مَنْ يَعْرِفُهُ؟" (إر17: 9). الخداع ينشأ في القلب، ويُصبح مع الزَّمن نمط حياةٍ، لا يَعِي الإنسان أنّه يعيشُه أصلًا. الحَيَّة استخدمتْ الخِداع مع حوَّاء وآدم، فأدخلت إليهما روح الكبرياء، وانفصلا عن الله وسقطا.
يقول الكتاب المقدَّس، "لأَنّ الشَّيْطَانَ نَفْسَهُ يُغَيِّرُ شَكْلَهُ إِلَى شِبْهِ مَلاَكِ نُورٍ!" (2 كور 11: 14). يستعمل الخداع ليُضِلَّ أبناء الله، وهم مخدوعين بأنَّه ملاك نورٍ، مرسَل من الله لمساعدتهم. ويقول أيضًا، "اِحْتَرِزُوا مِنَ الأَنْبِيَاءِ الْكَذَبَةِ الَّذِينَ يَأْتُونَكُمْ بِثِيَاب الْحُمْلاَنِ، وَلكِنَّهُمْ مِنْ دَاخِل ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ!" (مت7: 15). هؤلاء الأنبياء، أولاد الشَّيطان، يستخدمون الخداع، ويتظاهرون بالوداعة والمَسْكَنَة، ولكن في قلبهم نيّة شرّير لاختطاف أبناء الله إلى الهلاك.
لكن كيف لنا أن نميّز كلّ هذا؟ الجواب يأتينا من الرَّبِّ نفسه: "مِن ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ" (مت7: 16). فقط مَنْ كان فيه روح الرَّبّ، يستطيع أن يميّز ما هو من الشَّيطان وخداعه، وما هو من الرَّبّ.
من القلب تنبع كلُّ الشُّرور، وقلب المخادع نيّته ملتوية، لا استقامة فيه. يستخدم الكذب باحترافيّة ليصل إلى مبتغاه. وما مقصده في العمق إلّا أن يجتذب النّاس إلى ذاته المريضة. يقرأ الكتاب المقدّس ويتعاطاه بروح الخداع، بِنِيَّةٍ فاسدة، يستخدمه كأداة ليقتنص النّاس. يدّعي المعرفة، ولكنّه لا يعرف روح الكتاب، لأنّه لا يعرف روح الرَّبّ، لأنّه ليس ساكنًا فيه. السّاكن فيه هو أناه.
يُظهر للنَّاس الكلام الجميل المُتمَلِّق، ولكنَّ باطن قلبه مَكرٌ وظلمةٌ بشعة. يحاول أن يُظهر الصِّدق والتَّقوى والفضيلة والمحبَّة، ولكنّه في باطن قلبه كاذبٌ وممثّلٌ بارعٌ ومخادعٌ يضمر الكره والحسد. ولكن كيف لنا أن نتلمس كلّ هذا الخداع؟ ببساطة، مثل هذا الإنسان يلجأ إلى السُّخرية والتّشفّي من النَّاس الَّذين يُوقعهم في شباكه، وخاصّةً الَّذين يَحْيَوْن بروح الرَّبّ، ويقولون كلمة الحَقِّ في وجهه. يستخدم حينها السُّخرية والانتقاد، لا بَل يصل لإظهار حقده المُرَوِّع تجاههم، فيُعلّم النَّاس الآخرين ويُحَرِّضهم ويزرع فيهم الكراهية والسُّخرية تجاه أبناء الله الحقيقيّن. هذا الموقف هو موقف عداوة ومحاربة لله في أبنائه، إنْ وَعُوا أو لم يَعوا ذلك.
مثل هذا الإنسان هو مَخدوع من نفسه أوَّلًا، من كبريائه، يرى نفسه مِحْوَر الكَوْن، لهذا يسعى لجذب النّاس إلى دائرته، ليُصبحوا عبيدًا له، يُحرِّكُهم كَيْفما يشاء. هو يُهلك نفسه، ويُهلك مَنْ يخدعهم.
نحن في عصرنا الحاليّ، تفشّى الخداع بشكلٍ مُخيف في حياتنا، في ثقافتنا، في بيوتنا، وحتّى في كنائسنا. هذا بالضَّبط لأنّ ثقافة العَوْلمة تشدِّد على الفردانيّة، وأنّ الإنسان هو مِحْوَر الكَوْن والحياة. وهذا تسرّب إلى الكنيسة. ترى النّاس تتكلم عن الإيمان، ولكنّها لا تعرف روح الإيمان، والأخطر من ذلك، هي غير قادرة على عيش هذا الإيمان وترجمته حياةً. ترى إنسانًا فصيحًا مفوّها في مواضيع الإيمان، فتنخدع ظانًّا أنّه مؤمنٌ ملتزمٌ. ولكنّ حياته بعيدة كلّ البُعد عمّا يتكلَّم به أو يعلّمه. لأنّ عيش الإيمان يطلب منه جهادًا وخروجًا من نفسه، ومحاربةً لروح الكبرياء المُعشعشة فيه، وهذا يتطلّب اتّضاعًا ومخافةً للرَّبّ.
روح الرَّبّ يُعطينا أن نكون أبناءً للآب أحرارًا، وليس عبيدًا لأشخاص. يُعطينا أن تكون قلوبنا ونيّاتنا مُستقيمة. يُعطينا أن نُقرّ بخطيئتنا ونطلب المغفرة عنها والمسامحة، لا أنْ نبرِّرَها وننكرها أو نُلقيها على الآخَرين. روح الـرَّبّ يُعلِّمنا المَحبَّة والرَّحمة نحو الآخَرين، لا الانتقاد والتَّحريض والتَّحزُّب. روح الرَّبّ يُعلِّمنا قبول الآخَر المختلف، وليس الرَّفض وإلغاء من لا ينسجم مع توجُّهاتنا. روح الرَّبّ يُعطينا أن نتحسَّس آلام وضعفات ومُعاناة الآخَرين، ونهرع لمساعدتهم، لا لكي نكسبهم إلى جماعتنا، كلا، بل لكي نقدِّمهم للرَّبّ الَّذي صُلب من أجلهم، ومن أجل كلِّ واحدٍ منّا.
نحن لسنا لأنفسنا، بل للرَّبّ. ومَن كانت فيه نعمة الرَّبّ، لا يمكن إلّا أنْ يعيش في الاستقامة والأمانة للرَّبّ. لا يقبل شيئًا لنفسه، بل كلّ شيء يقدِّمه للرَّبّ، حتّى نفسه. ونحن لا نأتي إلى الرَّبّ إلّا بنعمة الرُّوح القدس. بدون مؤازرةِ النِّعمَة، ليس لنا قُوَّة على عَيْش كلّ هذا الكلام.
المُخادِع يَعيش في الكذب كلَّ حياتِه، لا ينمو في حياته الرُّوحيَّة، ولا يعرف الله حقيقة. بل يعيش القلق والخوف والإضطراب، يعيش في جحيم عدميّته، لا يعرف أن يُحب، ولا يقبل المحبَّة لا من الله ولا من النّاس، لأنّه أعمى. أمّا مَن يحيا بروح الرَّبّ، فهو دائما يتعلّم كيف يتّضع، لأنّ التّواضع لا يولد مع الإنسان، بل يتعلَّمه ويتدرَّب عليه. وهذا التَّواضع هو الَّذي يساعد على قبول المحبّة الإلهيّة في القلب، يُصبح القلب مسكنًا للرَّبّ، فيغيّر حضوره الكيان كلَّه. يصبح منبعًا للّطف والمحبّة وطول الأناة، يُعطى له أن يُميّز بين ما هو مِنَ الشّيطان وما هو مِنْ روح الرَّبّ.
"من لا يجمع معي فهو يُفرِّق" (مت12: 30).
طروباريّة القيامة (باللَّحن الأوّل)
إنَّ الحجرَ لما خُتِمَ مِنَ اليَهود. وجَسَدَكَ الطّاهِرَ حُفِظَ مِنَ الجُند. قُمتَ في اليومِ الثّالثِ أَيُّها المُخلِّص. مانِحًا العالمَ الحياة. لذلكَ قوّاتُ السّماوات. هتفوا إليكَ يا واهبَ الحياة. المجدُ لقيامتِكَ أَيُّها المسيح. المجدُ لِمُلكِكَ. المجدُ لتدبيرِكَ يا مُحبَّ البشرِ وحدك.
طروباريّة الأجداد (باللّحن الثّاني)
لقد زكّيتَ بالإيمان الآباءَ القُدَماءَ، وبِهِم سيقتَ فخطبتَ البيعة الّتي من الأمم. فلْيفتخرِ القدّيسون بالمجد، لأنْ مِن زَرْعهم أَيْنَعَ ثمرٌ حَسيبٌ، وهو الّتي ولدَتْك بغير زرعٍ. فبتوسُّلاتهم أيُّها المسيح الإله ارحمنا.
قنداق تقدمة الميلاد (باللّحن الثّالث)
اليومَ العذراءُ تأتي إلى المَغارة لِتَلِدَ الكلمةَ الَّذي قبل الدُّهور وِلادةً لا تُفسَّر ولا يُنطق بها. فافرحي أيّتها المَسكونةُ إذا سَمِعْتِ، ومَجِّدي مع الملائكةِ والرُّعاة الَّذي سَيَظْهَرُ بمشيئته طفلًا جديدًا، وهو إلهُنا قبلَ الدُّهور.
الرّسالة (كول 3: 4-11)
ما أعظم أعمالَكَ يا ربُّ. كلَّها بحكمةٍ صنعت
باركي يا نفسِي الرَّبَّ
يا إخوةُ، متى ظهرَ المسيحُ الَّذي هو حياتُنا فأنتم أيضًا تَظَهرون حينئذٍ معهُ في المجد. فأمِيتوا أعضاءَكم الَّتي على الأرضِ: الزِّنَى والنَّجاسةَ والهوى والشَّهوةَ الرَّديئةَ والطَّمعَ الَّذي هو عبادةُ وثَن، لأنَّهُ لأجلِ هذه يأتي غضبُ الله على أبناءِ العِصيان، وفي هذه أنتم أيضًا سلَكُتم حينًا إذ كنتمُ عائشينَ فيها. أمَّا الآن فأنتم أيضًا اطرَحوا الكُلَّ: الغضبَ والسُّخْطَ والخُبثَ والتَّجديفَ والكلامَ القبيحَ من أفواهِكم. ولا يكذِبَنَّ بعضُكم بعضًا، بل اخلَعوا الإنسانَ العتيقَ معَ أعمالِه، والبَسُوا الإنسانَ الجديد الَّذي يتجدَّدُ للمعرفةِ على صورةِ خالقِه، حيثُ ليس يونانيٌّ ولا يهوديٌّ، لا خِتانٌ ولا قَلَفٌ، لا بَربريٌّ ولا إسكِيثيٌّ، لا عبدٌ ولا حرٌّ، بلِ المسيحُ هو كلُّ شيءٍ وفي الجميع.
الإنجيل(لو 14: 16-24)(لوقا 11)
قال الرَّبُّ هذا المثل: إنسانٌ صنع عشاءً عظيمًا ودعا كثيرين. فأرسل عبدَهُ في ساعة العشاءِ يقول للمَدعوّيين: تعالَوا فإنَّ كلَّ شيءٍ قد أُعِدّ. فطفِق كلُّهم واحدًا فواحدًا يستَعفون. فقال لهُ الأوّل: قد اشتريتُ حقلًا ولا بدَّ لي أن أخرجَ وأنظرَهُ فأسألك أن تُعفِيَني. وقال الآخرَ: قدِ اشتريتُ خمسةَ فدادينِ بقرٍ وأنا ماضٍ لأجَرِّبَها فاسألك أن تُعفِيني. وقال الآخر: قد تزوَّجتُ امرأةً فلذلك لا أستطيع أن أجيء. فأتى العبدُ وأخبر سيدَهُ بذلك. فحينئذٍ غضِبَ ربُّ البيتِ وقال لعبدِه: أخرُجْ سريعًا إلى شوارع المدينةِ وأزقَّتِها وأَدخِلِ المساكينَ والجُدْعَ والعميانَ والعُرجَ إلى ههنا. فقال العبدُ: يا سيّدُ، قد قُضيَ ما أمرتَ بهِ ويبقى أيضًا محلٌّ. فقال السَّيّد للعبد: أخرُج إلى الطُّرق والأسيْجَةِ واضطَّرِرْهم إلى الدُّخول حتّى يمتلئَ بيتي. فإنّي أقول لكم إنَّه لا يذوقُ عشائي أحدٌ من أولئك الرِّجال المدعوّين، لأنَّ المدعُوّين كثيرون والمختارين قليلون.
حول الإنجيل
كان الرَّبُّ يسوع مَدعُوًّا إلى بيت أحد رؤساء الفرّيسيّين ( لوقا 14: 1) حين أعطى هذا المثل، وكان بعضٌ من النّاموسيّين والفَرّيسيّين بين الحضور. دُعي إلى مائدة الطّعام كما نقرأ في سياق الإصحاح، والمدعوّون الآخرون هم من "أعيان القَوْم"، ومن المعتبرين أكثر معرفةً بالنَّاموس آنذاك. ومع هذا كان كلام يسوع يُبيّن لهم أنّهم الأكثر بُعدًا عن ملكوت الله. لذا توبيخه لهم جاء تصحيحًا لفهمهم الخاطئ لله، وإنذارًا للتَّنبُّه من افتخارهم بمكانتهم، الأمر الَّذي سيؤدّي بهم لخسارة ما وعد به الله.
كانت العادة في الشّرق أن يدعو المُضيف مرّتين، مرّة عندما يوجّه الدَّعوة، ومرّة مباشرة قبل موعد الطّعام. الدَّعوة الثّانية هي ليس فقط من باب التَّذكير، بل بالأحرى من باب تكريم المُضيف للضَّيف. هذا يعني أنّ المدعوّين كانوا يعلمون بالدَّعوة قبلًا، ومع هذا عندما جاء موعد العشاء، بدأ كلّ واحدٍ منهم يستعفي. لا شكّ أنّ المدعوّين كانوا كثرًا، فالعشاء كان "عظيمًا" كما يذكُر النَّصّ، إلّا أنَّ الرَّبّ يذكرُ أنّ الدّاعي أرسل فقط عبدًا واحدًا ليذكّر المدعوّين. هذه إشارة واضحة إلى نفسه. فيسوع هو "خادم الله" يأتينا في آخر الأزمنة ليدعونا لمائدة لله. أمّا استعفاء المدعوّين فليس سوى انعكاسٍ لحالة سامعيه من الحاضرين، من فرّيسيّين وعلماء النّاموس. أولئك يدّعون أنّهم اِلتزموا دعوة الله ولكن مع مجيء يسوع واجهوه بالرَّفض.
لكنّ رفضَهم للدَّعوة لا يُثني الله عن إتمام تدبيره الخلاصيّ. دعوة الله لا تعود دون نتيجة كما يقول على لسان أشعيا النّبيّ: ”لأنّه كما ينزل المطرُ والثّلجُ من السّماء ولا يرجعان إلى هناك بل يُروَيان الأرض ويجعلانها تلد وتُنبتُ وتُعطي زرعًا للزّارع وخبزًا للأكل، هكذا تكونُ كلمتي الَّتي تخرجُ من فمي.لا ترجعُ إليَ فارغةً بل تعملُ ما سُررت به وتنجحُ فيما أرسلتُها له" (أشعيا 55: 10-11). هكذا سيتمُّ عشاءُ الرَّبّ بمدعويّن جُدُد. فقال لخادمِه: أُخرُجْ إلى الطُّرق والأسيجة واضطررهم إلى الدُّخول حتّى يمتلئَ بيتي. أقولُ لكُم: لن يذوقَ عشائي أحَدٌ مِنْ أولئِكَ المَدعُوِّينَ"، أي أنّ الله يُنذر اليهود أنّه سيدعو الوثنيّين الَّذين هم خارج أسوار "المدينة" ويُدخلهم إلى مائدته، فلا يفتخر اليهود إذًا بدعوته السّابقة لهم، فهم استعفوا من الدَّعوة.
اليوم يُكرّمنا الله مُجدّدًا بدعوتنا إلى وليمته، أي إلى كنيسته. الدَّعوة هي للجميع، ومن يقبلُ الدَّعوة عليه أن يُظهر احترامًا للدَّاعي بتركه كلّ شيءٍ ليكون على المائدة. هكذا يكون من مُختاري الله.
القدِّيس اسبيريدون العجائبيّ
عاش القدِّيس حياته ببساطة ونقاء القلب، إذ أحَبَّ الله متخلِّيًا عن كلِّ الأرضيّات لذا نَمَتْ فيه فضائل كثيرة منها استضافة الغرباء وحبِّ الهُدوء واحتقار الخطيئة. وبهذا أصبحت سيرته لا كلامًا عن اللَّاهوت بل تجسُّدًا للوَصايا الإلهيّة. وقد لَمَعَتْ سيرة القدِّيس اسبيريدون بين أبناء الرَّعيّة حتّى بانَ نجمُهُ وأصبح مَلاكًا أرضيًّا حاملًا الكلّ، الغريب والقريب.
تميّز القدِّيس ببساطة العَيْش وهي نتيجة التَّواضع، حيث أنَّ المتواضِع عند الله ينالُ نعمًا كثيرةً (1بط 5: 5، أم 3: 34، يع 4: 6)، وهذه وصيَّة الرَّبّ المتكرِّرة في الإنجيل سواء بحرفيَّتها أو كما جسّدها في مثلٍ لنعيشها بين النَّاس. التَّواضع هو رفض كلِّ مَجْدٍ أرضيّ زائل كالغِنى المادّيّ أو التَّكريم من النّاس أو السُّلطة الظَّالمة وغيرهم وهذا يعني أن نتحلّى ببساطة المعيشة دون تكاليف زائدة. فكلّ مجدٍ أرضيّ هي تكاليف أرضيّة ويجب أن تكون مرفوضة عند المسيحيّ الحَقّ، لأنّ الغني الصَّحيح هو مَن ملأ كلّ كيانه بالله أيّ أن يملأ الله كلّ حياة الإنسان منذ ولادته من جرن المعموديّة بالجسد الجديد الرُّوحيّ حتّى انتقالنا إلى الحضرة الإلهيّة والَّتي هي غاية حياة المسيحيّ على الأرض.
الملكوت يبدأ بالتَّواضع المقترن بالرّوحيّات أي العَيْش حسب الوصايا الإلهيّة الَّتي فيها نداوي ضعفنا بنعمة الله أي أنّنا نواجه الحياة بظروفها الصَّعبة كأيّوب النّبيّ، حيث أنَّ القدِّيس اسبيريدون مَرَّ بظروفٍ صعبةٍ منها موت زوجته وابنته باكرًا وهذا عند الكثير ألمٌ كبير. ولكنّ تسلُّحِه بالله أخمد نار الحزن. إنّ اتكالنا على الله هو الانتصار الحقيقيّ في كلّ شيء وليس بالأنا الَّتي هي سمة المتَّكلين على ذواتهم (مَت ٦:٢٦).
لقد تعلّم قدّيسنا من سفر المزامير الكثير، حيث رافقه في كلّ مرَّةٍ كان يأخذ فيها خرافه غير النّاطقة لترعى. لقد حفظ الوصيّة وعرف الله عبر ما قرأ وصلّى واختبر (لن نعرف الله في الكلام عنه) لا قلق عند المسيحيّ ولا همّ أكبر من ألّا يكون نصيبه في ملكوت السّماوات ولا زلزلة تؤثّر فيه إلّا زلزلة السّقوط في الجحيم. وبهذا تصبح كلّ شهوة كبيرة لا معنى لها أمام اكتساب الهدوء الَّذي مِنَ الله، وباب الدُّخول إلى الملكوت الأرضيّ وصية من اتَّضع ارتفع، بها تصير الأرض سماءً لمن سلك بحسب الوصايا الإلهيّة ولمن اقترب من سالكيها رغم كلّ مشقّات ومتطلّبات الحياة: لأنّ المتواضع هو بارّ في عينيّ الله وإيمانُه يُحييه (رو 1: 17).
الأحد 11 كانون الأوّل 2022
العدد 50
الأحد (26) بعد العنصرة
اللّحن 1- الإيوثينا 4
أعياد الأسبوع: *11: البارّ دانيال العاموديّ، القدّيس لوقا العاموديّ، الشّهيد برسابا *12: القدّيس اسبيريدُنس العجائبيّ أسقف تريميثوس *13: الشّهداء الخمسة أفستراتيوس ورفقته، الشّهيدة لوكيا البتول *14: الشّهداء ثيرسس ورفقته *15: الشّهيد في الكهنة آلفثاريوس وامَّه أنثيّا *16: النّبيّ حجّي، القدّيسة ثاوفانُس الملكة العجائبيّة *17: النّبي دانيال والفتية الثّلاثة، القدّيس ديونيسيوس أسقف أجينة.
الكلمة الإفتتاحيّة
روح الحَقّ وروح الخداع
"اَلْقَلْبُ أَخْدَعُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ نَجِيسٌ، مَنْ يَعْرِفُهُ؟" (إر17: 9). الخداع ينشأ في القلب، ويُصبح مع الزَّمن نمط حياةٍ، لا يَعِي الإنسان أنّه يعيشُه أصلًا. الحَيَّة استخدمتْ الخِداع مع حوَّاء وآدم، فأدخلت إليهما روح الكبرياء، وانفصلا عن الله وسقطا.
يقول الكتاب المقدَّس، "لأَنّ الشَّيْطَانَ نَفْسَهُ يُغَيِّرُ شَكْلَهُ إِلَى شِبْهِ مَلاَكِ نُورٍ!" (2 كور 11: 14). يستعمل الخداع ليُضِلَّ أبناء الله، وهم مخدوعين بأنَّه ملاك نورٍ، مرسَل من الله لمساعدتهم. ويقول أيضًا، "اِحْتَرِزُوا مِنَ الأَنْبِيَاءِ الْكَذَبَةِ الَّذِينَ يَأْتُونَكُمْ بِثِيَاب الْحُمْلاَنِ، وَلكِنَّهُمْ مِنْ دَاخِل ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ!" (مت7: 15). هؤلاء الأنبياء، أولاد الشَّيطان، يستخدمون الخداع، ويتظاهرون بالوداعة والمَسْكَنَة، ولكن في قلبهم نيّة شرّير لاختطاف أبناء الله إلى الهلاك.
لكن كيف لنا أن نميّز كلّ هذا؟ الجواب يأتينا من الرَّبِّ نفسه: "مِن ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ" (مت7: 16). فقط مَنْ كان فيه روح الرَّبّ، يستطيع أن يميّز ما هو من الشَّيطان وخداعه، وما هو من الرَّبّ.
من القلب تنبع كلُّ الشُّرور، وقلب المخادع نيّته ملتوية، لا استقامة فيه. يستخدم الكذب باحترافيّة ليصل إلى مبتغاه. وما مقصده في العمق إلّا أن يجتذب النّاس إلى ذاته المريضة. يقرأ الكتاب المقدّس ويتعاطاه بروح الخداع، بِنِيَّةٍ فاسدة، يستخدمه كأداة ليقتنص النّاس. يدّعي المعرفة، ولكنّه لا يعرف روح الكتاب، لأنّه لا يعرف روح الرَّبّ، لأنّه ليس ساكنًا فيه. السّاكن فيه هو أناه.
يُظهر للنَّاس الكلام الجميل المُتمَلِّق، ولكنَّ باطن قلبه مَكرٌ وظلمةٌ بشعة. يحاول أن يُظهر الصِّدق والتَّقوى والفضيلة والمحبَّة، ولكنّه في باطن قلبه كاذبٌ وممثّلٌ بارعٌ ومخادعٌ يضمر الكره والحسد. ولكن كيف لنا أن نتلمس كلّ هذا الخداع؟ ببساطة، مثل هذا الإنسان يلجأ إلى السُّخرية والتّشفّي من النَّاس الَّذين يُوقعهم في شباكه، وخاصّةً الَّذين يَحْيَوْن بروح الرَّبّ، ويقولون كلمة الحَقِّ في وجهه. يستخدم حينها السُّخرية والانتقاد، لا بَل يصل لإظهار حقده المُرَوِّع تجاههم، فيُعلّم النَّاس الآخرين ويُحَرِّضهم ويزرع فيهم الكراهية والسُّخرية تجاه أبناء الله الحقيقيّن. هذا الموقف هو موقف عداوة ومحاربة لله في أبنائه، إنْ وَعُوا أو لم يَعوا ذلك.
مثل هذا الإنسان هو مَخدوع من نفسه أوَّلًا، من كبريائه، يرى نفسه مِحْوَر الكَوْن، لهذا يسعى لجذب النّاس إلى دائرته، ليُصبحوا عبيدًا له، يُحرِّكُهم كَيْفما يشاء. هو يُهلك نفسه، ويُهلك مَنْ يخدعهم.
نحن في عصرنا الحاليّ، تفشّى الخداع بشكلٍ مُخيف في حياتنا، في ثقافتنا، في بيوتنا، وحتّى في كنائسنا. هذا بالضَّبط لأنّ ثقافة العَوْلمة تشدِّد على الفردانيّة، وأنّ الإنسان هو مِحْوَر الكَوْن والحياة. وهذا تسرّب إلى الكنيسة. ترى النّاس تتكلم عن الإيمان، ولكنّها لا تعرف روح الإيمان، والأخطر من ذلك، هي غير قادرة على عيش هذا الإيمان وترجمته حياةً. ترى إنسانًا فصيحًا مفوّها في مواضيع الإيمان، فتنخدع ظانًّا أنّه مؤمنٌ ملتزمٌ. ولكنّ حياته بعيدة كلّ البُعد عمّا يتكلَّم به أو يعلّمه. لأنّ عيش الإيمان يطلب منه جهادًا وخروجًا من نفسه، ومحاربةً لروح الكبرياء المُعشعشة فيه، وهذا يتطلّب اتّضاعًا ومخافةً للرَّبّ.
روح الرَّبّ يُعطينا أن نكون أبناءً للآب أحرارًا، وليس عبيدًا لأشخاص. يُعطينا أن تكون قلوبنا ونيّاتنا مُستقيمة. يُعطينا أن نُقرّ بخطيئتنا ونطلب المغفرة عنها والمسامحة، لا أنْ نبرِّرَها وننكرها أو نُلقيها على الآخَرين. روح الـرَّبّ يُعلِّمنا المَحبَّة والرَّحمة نحو الآخَرين، لا الانتقاد والتَّحريض والتَّحزُّب. روح الرَّبّ يُعلِّمنا قبول الآخَر المختلف، وليس الرَّفض وإلغاء من لا ينسجم مع توجُّهاتنا. روح الرَّبّ يُعطينا أن نتحسَّس آلام وضعفات ومُعاناة الآخَرين، ونهرع لمساعدتهم، لا لكي نكسبهم إلى جماعتنا، كلا، بل لكي نقدِّمهم للرَّبّ الَّذي صُلب من أجلهم، ومن أجل كلِّ واحدٍ منّا.
نحن لسنا لأنفسنا، بل للرَّبّ. ومَن كانت فيه نعمة الرَّبّ، لا يمكن إلّا أنْ يعيش في الاستقامة والأمانة للرَّبّ. لا يقبل شيئًا لنفسه، بل كلّ شيء يقدِّمه للرَّبّ، حتّى نفسه. ونحن لا نأتي إلى الرَّبّ إلّا بنعمة الرُّوح القدس. بدون مؤازرةِ النِّعمَة، ليس لنا قُوَّة على عَيْش كلّ هذا الكلام.
المُخادِع يَعيش في الكذب كلَّ حياتِه، لا ينمو في حياته الرُّوحيَّة، ولا يعرف الله حقيقة. بل يعيش القلق والخوف والإضطراب، يعيش في جحيم عدميّته، لا يعرف أن يُحب، ولا يقبل المحبَّة لا من الله ولا من النّاس، لأنّه أعمى. أمّا مَن يحيا بروح الرَّبّ، فهو دائما يتعلّم كيف يتّضع، لأنّ التّواضع لا يولد مع الإنسان، بل يتعلَّمه ويتدرَّب عليه. وهذا التَّواضع هو الَّذي يساعد على قبول المحبّة الإلهيّة في القلب، يُصبح القلب مسكنًا للرَّبّ، فيغيّر حضوره الكيان كلَّه. يصبح منبعًا للّطف والمحبّة وطول الأناة، يُعطى له أن يُميّز بين ما هو مِنَ الشّيطان وما هو مِنْ روح الرَّبّ.
"من لا يجمع معي فهو يُفرِّق" (مت12: 30).
طروباريّة القيامة (باللَّحن الأوّل)
إنَّ الحجرَ لما خُتِمَ مِنَ اليَهود. وجَسَدَكَ الطّاهِرَ حُفِظَ مِنَ الجُند. قُمتَ في اليومِ الثّالثِ أَيُّها المُخلِّص. مانِحًا العالمَ الحياة. لذلكَ قوّاتُ السّماوات. هتفوا إليكَ يا واهبَ الحياة. المجدُ لقيامتِكَ أَيُّها المسيح. المجدُ لِمُلكِكَ. المجدُ لتدبيرِكَ يا مُحبَّ البشرِ وحدك.
طروباريّة الأجداد (باللّحن الثّاني)
لقد زكّيتَ بالإيمان الآباءَ القُدَماءَ، وبِهِم سيقتَ فخطبتَ البيعة الّتي من الأمم. فلْيفتخرِ القدّيسون بالمجد، لأنْ مِن زَرْعهم أَيْنَعَ ثمرٌ حَسيبٌ، وهو الّتي ولدَتْك بغير زرعٍ. فبتوسُّلاتهم أيُّها المسيح الإله ارحمنا.
قنداق تقدمة الميلاد (باللّحن الثّالث)
اليومَ العذراءُ تأتي إلى المَغارة لِتَلِدَ الكلمةَ الَّذي قبل الدُّهور وِلادةً لا تُفسَّر ولا يُنطق بها. فافرحي أيّتها المَسكونةُ إذا سَمِعْتِ، ومَجِّدي مع الملائكةِ والرُّعاة الَّذي سَيَظْهَرُ بمشيئته طفلًا جديدًا، وهو إلهُنا قبلَ الدُّهور.
الرّسالة (كول 3: 4-11)
ما أعظم أعمالَكَ يا ربُّ. كلَّها بحكمةٍ صنعت
باركي يا نفسِي الرَّبَّ
يا إخوةُ، متى ظهرَ المسيحُ الَّذي هو حياتُنا فأنتم أيضًا تَظَهرون حينئذٍ معهُ في المجد. فأمِيتوا أعضاءَكم الَّتي على الأرضِ: الزِّنَى والنَّجاسةَ والهوى والشَّهوةَ الرَّديئةَ والطَّمعَ الَّذي هو عبادةُ وثَن، لأنَّهُ لأجلِ هذه يأتي غضبُ الله على أبناءِ العِصيان، وفي هذه أنتم أيضًا سلَكُتم حينًا إذ كنتمُ عائشينَ فيها. أمَّا الآن فأنتم أيضًا اطرَحوا الكُلَّ: الغضبَ والسُّخْطَ والخُبثَ والتَّجديفَ والكلامَ القبيحَ من أفواهِكم. ولا يكذِبَنَّ بعضُكم بعضًا، بل اخلَعوا الإنسانَ العتيقَ معَ أعمالِه، والبَسُوا الإنسانَ الجديد الَّذي يتجدَّدُ للمعرفةِ على صورةِ خالقِه، حيثُ ليس يونانيٌّ ولا يهوديٌّ، لا خِتانٌ ولا قَلَفٌ، لا بَربريٌّ ولا إسكِيثيٌّ، لا عبدٌ ولا حرٌّ، بلِ المسيحُ هو كلُّ شيءٍ وفي الجميع.
الإنجيل(لو 14: 16-24)(لوقا 11)
قال الرَّبُّ هذا المثل: إنسانٌ صنع عشاءً عظيمًا ودعا كثيرين. فأرسل عبدَهُ في ساعة العشاءِ يقول للمَدعوّيين: تعالَوا فإنَّ كلَّ شيءٍ قد أُعِدّ. فطفِق كلُّهم واحدًا فواحدًا يستَعفون. فقال لهُ الأوّل: قد اشتريتُ حقلًا ولا بدَّ لي أن أخرجَ وأنظرَهُ فأسألك أن تُعفِيَني. وقال الآخرَ: قدِ اشتريتُ خمسةَ فدادينِ بقرٍ وأنا ماضٍ لأجَرِّبَها فاسألك أن تُعفِيني. وقال الآخر: قد تزوَّجتُ امرأةً فلذلك لا أستطيع أن أجيء. فأتى العبدُ وأخبر سيدَهُ بذلك. فحينئذٍ غضِبَ ربُّ البيتِ وقال لعبدِه: أخرُجْ سريعًا إلى شوارع المدينةِ وأزقَّتِها وأَدخِلِ المساكينَ والجُدْعَ والعميانَ والعُرجَ إلى ههنا. فقال العبدُ: يا سيّدُ، قد قُضيَ ما أمرتَ بهِ ويبقى أيضًا محلٌّ. فقال السَّيّد للعبد: أخرُج إلى الطُّرق والأسيْجَةِ واضطَّرِرْهم إلى الدُّخول حتّى يمتلئَ بيتي. فإنّي أقول لكم إنَّه لا يذوقُ عشائي أحدٌ من أولئك الرِّجال المدعوّين، لأنَّ المدعُوّين كثيرون والمختارين قليلون.
حول الإنجيل
كان الرَّبُّ يسوع مَدعُوًّا إلى بيت أحد رؤساء الفرّيسيّين ( لوقا 14: 1) حين أعطى هذا المثل، وكان بعضٌ من النّاموسيّين والفَرّيسيّين بين الحضور. دُعي إلى مائدة الطّعام كما نقرأ في سياق الإصحاح، والمدعوّون الآخرون هم من "أعيان القَوْم"، ومن المعتبرين أكثر معرفةً بالنَّاموس آنذاك. ومع هذا كان كلام يسوع يُبيّن لهم أنّهم الأكثر بُعدًا عن ملكوت الله. لذا توبيخه لهم جاء تصحيحًا لفهمهم الخاطئ لله، وإنذارًا للتَّنبُّه من افتخارهم بمكانتهم، الأمر الَّذي سيؤدّي بهم لخسارة ما وعد به الله.
كانت العادة في الشّرق أن يدعو المُضيف مرّتين، مرّة عندما يوجّه الدَّعوة، ومرّة مباشرة قبل موعد الطّعام. الدَّعوة الثّانية هي ليس فقط من باب التَّذكير، بل بالأحرى من باب تكريم المُضيف للضَّيف. هذا يعني أنّ المدعوّين كانوا يعلمون بالدَّعوة قبلًا، ومع هذا عندما جاء موعد العشاء، بدأ كلّ واحدٍ منهم يستعفي. لا شكّ أنّ المدعوّين كانوا كثرًا، فالعشاء كان "عظيمًا" كما يذكُر النَّصّ، إلّا أنَّ الرَّبّ يذكرُ أنّ الدّاعي أرسل فقط عبدًا واحدًا ليذكّر المدعوّين. هذه إشارة واضحة إلى نفسه. فيسوع هو "خادم الله" يأتينا في آخر الأزمنة ليدعونا لمائدة لله. أمّا استعفاء المدعوّين فليس سوى انعكاسٍ لحالة سامعيه من الحاضرين، من فرّيسيّين وعلماء النّاموس. أولئك يدّعون أنّهم اِلتزموا دعوة الله ولكن مع مجيء يسوع واجهوه بالرَّفض.
لكنّ رفضَهم للدَّعوة لا يُثني الله عن إتمام تدبيره الخلاصيّ. دعوة الله لا تعود دون نتيجة كما يقول على لسان أشعيا النّبيّ: ”لأنّه كما ينزل المطرُ والثّلجُ من السّماء ولا يرجعان إلى هناك بل يُروَيان الأرض ويجعلانها تلد وتُنبتُ وتُعطي زرعًا للزّارع وخبزًا للأكل، هكذا تكونُ كلمتي الَّتي تخرجُ من فمي. لا ترجعُ إليَ فارغةً بل تعملُ ما سُررت به وتنجحُ فيما أرسلتُها له" (أشعيا 55: 10-11). هكذا سيتمُّ عشاءُ الرَّبّ بمدعويّن جُدُد. فقال لخادمِه: أُخرُجْ إلى الطُّرق والأسيجة واضطررهم إلى الدُّخول حتّى يمتلئَ بيتي. أقولُ لكُم: لن يذوقَ عشائي أحَدٌ مِنْ أولئِكَ المَدعُوِّينَ"، أي أنّ الله يُنذر اليهود أنّه سيدعو الوثنيّين الَّذين هم خارج أسوار "المدينة" ويُدخلهم إلى مائدته، فلا يفتخر اليهود إذًا بدعوته السّابقة لهم، فهم استعفوا من الدَّعوة.
اليوم يُكرّمنا الله مُجدّدًا بدعوتنا إلى وليمته، أي إلى كنيسته. الدَّعوة هي للجميع، ومن يقبلُ الدَّعوة عليه أن يُظهر احترامًا للدَّاعي بتركه كلّ شيءٍ ليكون على المائدة. هكذا يكون من مُختاري الله.
القدِّيس اسبيريدون العجائبيّ
عاش القدِّيس حياته ببساطة ونقاء القلب، إذ أحَبَّ الله متخلِّيًا عن كلِّ الأرضيّات لذا نَمَتْ فيه فضائل كثيرة منها استضافة الغرباء وحبِّ الهُدوء واحتقار الخطيئة. وبهذا أصبحت سيرته لا كلامًا عن اللَّاهوت بل تجسُّدًا للوَصايا الإلهيّة. وقد لَمَعَتْ سيرة القدِّيس اسبيريدون بين أبناء الرَّعيّة حتّى بانَ نجمُهُ وأصبح مَلاكًا أرضيًّا حاملًا الكلّ، الغريب والقريب.
تميّز القدِّيس ببساطة العَيْش وهي نتيجة التَّواضع، حيث أنَّ المتواضِع عند الله ينالُ نعمًا كثيرةً (1بط 5: 5، أم 3: 34، يع 4: 6)، وهذه وصيَّة الرَّبّ المتكرِّرة في الإنجيل سواء بحرفيَّتها أو كما جسّدها في مثلٍ لنعيشها بين النَّاس. التَّواضع هو رفض كلِّ مَجْدٍ أرضيّ زائل كالغِنى المادّيّ أو التَّكريم من النّاس أو السُّلطة الظَّالمة وغيرهم وهذا يعني أن نتحلّى ببساطة المعيشة دون تكاليف زائدة. فكلّ مجدٍ أرضيّ هي تكاليف أرضيّة ويجب أن تكون مرفوضة عند المسيحيّ الحَقّ، لأنّ الغني الصَّحيح هو مَن ملأ كلّ كيانه بالله أيّ أن يملأ الله كلّ حياة الإنسان منذ ولادته من جرن المعموديّة بالجسد الجديد الرُّوحيّ حتّى انتقالنا إلى الحضرة الإلهيّة والَّتي هي غاية حياة المسيحيّ على الأرض.
الملكوت يبدأ بالتَّواضع المقترن بالرّوحيّات أي العَيْش حسب الوصايا الإلهيّة الَّتي فيها نداوي ضعفنا بنعمة الله أي أنّنا نواجه الحياة بظروفها الصَّعبة كأيّوب النّبيّ، حيث أنَّ القدِّيس اسبيريدون مَرَّ بظروفٍ صعبةٍ منها موت زوجته وابنته باكرًا وهذا عند الكثير ألمٌ كبير. ولكنّ تسلُّحِه بالله أخمد نار الحزن. إنّ اتكالنا على الله هو الانتصار الحقيقيّ في كلّ شيء وليس بالأنا الَّتي هي سمة المتَّكلين على ذواتهم (مَت ٦:٢٦).
لقد تعلّم قدّيسنا من سفر المزامير الكثير، حيث رافقه في كلّ مرَّةٍ كان يأخذ فيها خرافه غير النّاطقة لترعى. لقد حفظ الوصيّة وعرف الله عبر ما قرأ وصلّى واختبر (لن نعرف الله في الكلام عنه) لا قلق عند المسيحيّ ولا همّ أكبر من ألّا يكون نصيبه في ملكوت السّماوات ولا زلزلة تؤثّر فيه إلّا زلزلة السّقوط في الجحيم. وبهذا تصبح كلّ شهوة كبيرة لا معنى لها أمام اكتساب الهدوء الَّذي مِنَ الله، وباب الدُّخول إلى الملكوت الأرضيّ وصية من اتَّضع ارتفع، بها تصير الأرض سماءً لمن سلك بحسب الوصايا الإلهيّة ولمن اقترب من سالكيها رغم كلّ مشقّات ومتطلّبات الحياة: لأنّ المتواضع هو بارّ في عينيّ الله وإيمانُه يُحييه (رو 1: 17).