نشرة كنيستي
نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.
الأحد 13 تشرين الثّاني 2022
العدد 46
الأحد (22) بعد العنصرة
اللّحن 5- الإيوثينا 11
أعياد الأسبوع: *13: يوحنّا الذّهبيّ الفم رئيس أساقفة القسطنطينيّة *14: الرّسول فيليبُّس، القدّيس غريغوريوس بالاماس*15: بدء صوم الميلاد، الشُّهداء غورياس وصاموناس وأفيفس *16: الرَّسول متّى الانجيليّ *17: القدّيس غريغوريوس العجائبيّ أسقف قيصريّة الجديدة *18: الشّهيدين بلاطن ورومانس *19: النّبي عوبديا، الشَّهيد برلعام.
كلمة الرّاعي
المَسير إلى الولادة في المسيح
تمنحُنا الكنيسة المُقَدَّسَة فُرَصًا عَديدَةً للتَّجدُّد الرُّوحيّ من خلال المَسيرة اللِّيتورجيَّة الَّتي قمّتها وجوهرها الفصح. لذلك، كما أنَّ التَّحضير للفصح يصير بالصِّيام الكبير كذلك وضعت الكنيسة من خلال خبرتها الطّويلة في التّقديس والقداسة أصوامًا عديدة ترفعنا بها في المعرفة الرُّوحيّة وتقودنا إلى خبرة القداسة من خلال الأعياد الَّتي حدَّدتْها.
عيد الميلاد القادم علينا هو عيدُ كَشْفِ سرّ التّجسُّد الإلهيّ للبشر، إذ استُعلن حضور الله طفلًا للنّاس حين ظهر الملائكة على الرُّعاة مُبَشِّرين إيّاهُم وقائلين: ”الْمَجْدُ للهِ فِي الأَعَالِي، وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ، وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ“ (لوقا 2: 14).
صوم الميلاد الَّذي يمتدّ على أربعين يومًا من الخامس عشـر من تشـرين الثَّاني إلى الخامس والعشرين ومن كانون الأوَّل هو رحلتنا نحو الولادة الجديدة بطفل المغارة وإله التّواضع الأقصى الَّذي ”أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ“ (فيليبي 2: 7) لكي يرفع النّاس إلى شبه الله.
* * *
قد يستثقل النّاس كثرة الصّيام في الكنيسة، ويعتبرون أنّ الصَّوم عبئٌ عليهم، لكن مَنْ عرف خبرة الصِّيام في عمقها الحقيقيّ يدخل في حقيقة أُخرى من تعاطيه الوجود، لأنّه ”بالصّليب قد أتى الفرح لكلّ العالم“، ومَنْ يهرب مِنَ الصَّليب الطَّوعيّ أي الجهاد الرّوحيّ بالصَّلاة والصَّوْم يتحمّل الصّليب القهريّ الَّذي تجلبه عليه الخطيئة.
من هنا، الصَّوْم مع الصَّلاة هما حاجة جوهريّة للمؤمن الجِدِّيّ في سعيه للحياة الأبديّة عبر تقديس حياته اليوميّة. إنْ لم تسعى لعيش القداسة في يوميّاتك فأنْتَ لَسْتَ طالِبًا لها. وما قيمة حياتك ومعناها إنْ لم تتقدَّس؟!...
أن نضبط أنفسنا في الأطعمة والأشربة، أن نتوقّف عن تناول مآكل معيّنة، أي الزَّفرَيْن، هذه كلّها وسائل مساعِدَة لنا في طلبنا للحرّيّة، حرّيّة أبناء الله (راجع رومية 8: 21)، ولا حرِّيّة إلَّا بروح الرَّبّ، ”وَحَيْثُ رُوحُ الرَّبِّ هُنَاكَ حُرِّيَّة“ (2 كورنثوس 3: 17).
* * *
القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفم الَّذي نعيّد له اليوم (13 ت1) عاش النُّسْك الكبير فتَخَلَّى حتّى عن علومه الدُّنيويّة الّتي كانت له أرقى ما تطلبه نفسه، لأنّه عاش قول الرَّسُول بولس: ”إِنِّي أَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ أَيْضًا خَسَارَةً مِنْ أَجْلِ فَضْلِ مَعْرِفَةِ الْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّي، الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ خَسِرْتُ كُلَّ الأَشْيَاءِ، وَأَنَا أَحْسِبُهَا نُفَايَةً لِكَيْ أَرْبَحَ الْمَسِيحَ، وَأُوجَدَ فِيهِ“ (فيليبي 3: 8—9).
هذه هي روح الصِّيام الحقيقيّة أن يكون الإنسان مستعدًّا أن يتخلّى عن كلّ شيء ليربح المسيح، أن يكون طالبَه في كلّ حركة نفس وفي كلّ عمل وفي كلّ هدف.
نحن لا نصوم لنُرضي الله، لأنّ رضى الله علينا لا يتأتّى من صومنا بل من موتنا عن عتاقتنا وولادتنا الجديدة فيه بالتّوبة. من هنا، لا صوم دون توبة كما أنّه لا صلاة دون توبة. التّوبة هي روح الصَّوْم وغايته لأنّها هي الولادة الجديدة بمعموديَّةِ غسل الدُّموع وتطهير ماء الرّوح المتنزّل على الإنسان في الصَّلاة الحارّة القلبيّة العميقة...
* * *
أيّها الأحبّاء، ها زمنُ توبةٍ ها زمنُ جهاد ها زمن فرح وها زمن سلام ومصالحة...
ليكن صومنا الاستعداديّ لميلاد ربّنا وإلهنا ومخلّصنا يسوع المسيح بالجسد زمن بركة لنا، بسعينا الحثيث لعِشْرَةِ الكلمة الإلهيّة وطرق أبواب قلوبنا بالصَّلوات اليَوْميّة وبالهذيذ باسم الرَّبِّ يسوع.
تعالَوا نتذوَّق حلاوة الرَّبّ، ”ذُوقُوا وَانْظُرُوا مَا أَطْيَبَ الرَّبَّ! طُوبَى لِلرَّجُلِ الْمُتَوَكِّلِ عَلَيْهِ“ (مز 33 (34): 8). الثّقة بالله تُنشِئُ سلامًا وطيدًا في القلب وراحة وفرحًا. ليكن هذا الزّمن زمن تأمّل في حياتنا وأهدافها، في طريقة عيشنا ومتطلّباتها، في علاقاتنا وصعوباتها المتولِّدة بسبب ضعفنا، في محبّتنا وترجمتها مع الله والآخَر...
يسوع صار إنسانًا ليأتينا في كلّ إنسان طالبًا حبّنا لكي يهبنا حبّه الإلهيّ... ”نَحْنُ نُحِبُّهُ لأَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا أَوَّلً“ (1 يوحنا 4: 19)، هو دائمًا المبادِر، هو من يطلبنا، هو من يبحث عنّا ليجدنا حين نفتح له قلوبنا.
لنبحث عنه في خليقته لأنّه دائمًا آتٍ ليُنيرَ طالبيه ويَهَبَهُم الوِلادة الجديدة في فرح براءة محبّة طفل المذود الإهيّ...
هل من عارف طالب الله؟!...
من له أذنان للسَّمع فليسمع...
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما
طروباريّة القيامة (باللَّحن الخامس)
لِنُسَبِّحْ نحنُ المُؤمنينَ ونسجُدْ للكلمة. المُساوي للآبِ والرُّوحِ في الأزَليّةِ وعدمِ الابتداء. المَوْلودِ مَنَ العذراء لِخلاصِنا. لأنّه سُرَّ أن يَعلُوَ بالجَسَدِ على الصَّليب. ويحتمِلَ المَوْت. ويُنهِضَ المَوْتى بقيامتِهِ المَجيدة.
طروباريّة القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفم (باللّحن الثّامن)
لقد أَشرَقَتْ النِّعمَةُ مِنْ فَمِكَ مثلَ النّار، فأنَرْتَ المَسكونةَ ووضعتَ للعالم كنوزَ عدم محبّةِ الفضّة، وأظهرتَ لنا سُموَّ الاتّضاع، فيا أيّها الأب المؤدِّب بأقوالك، يوحنّا الذّهبيّ الفم، تشفَّع إلى الكلمة المسيح الإله أن يخلِّص نفوسنا.
قنداق دخول السّيّدة إلى الهيكل (باللّحن الرّابع)
إنّ الهيكل الكُلّيّ النَّقاوة هيكل المُخلِّص. البتول الخدر الجزيل الثّمن. والكنز الطّاهر لمجد الله. اليوم تدخل إلى بيت الرّبّ. وتُدخِل معها النّعمة الّتّي بالرّوح الإلهيّ. فلتُسبّحها ملائكة الله. لأنّها هي المظلّة السّماويّة.
الرّسالة (عب 7: 26-28، 8: 1-2)
إنَّ فمي يتكلَّم بالحكمة
اسمعوا هذا يا جميعَ الأُمم
يا إخوةُ، إنَّا يُلائِمنا رئيسُ كهنةٍ مثلُ هذا بارٌّ بلا شرٍّ ولا دنَسٍ، مُتَنزَّهٌ عنِ الخطأةِ، قد صارَ أعلى منَ السَّماوات، لا حاجةَ لهُ أن يُقرِّبَ كلَّ يومٍ مثلَ رؤساءِ الكهنةِ ذبائحَ عن خطاياهُ أوَّلًا ثمَّ عن خطايا الشَّعب. لأنَّهُ قضى هذا مرَّةً واحدةً حينَ قرَّبَ نفسَهُ. فإنَّ النّاموسَ يُقيمُ أُناسًا بِهمِ الضُّعفُ رؤساءَ كهنةٍ. أمًّا كلِمَةُ القَسَمُ الَّتي بعدَ النّاموسِ فتُقيمُ الابنَ مكمَّلًا إلى الأبد. ورأسُ الكلام هو أنَّ لنا رئيسَ كهنةٍ مثلَ هذا قد جلسَ عن يمينِ عرشِ الجلالِ في السَّماوات، وهُوَ خادِمُ الأقداسِ والمَسْكِنُ الحقيقيُّ الَّذي نَصبَهُ الرَّبُّ لا إنسان.
الإنجيل(لو 10: 25-37)(لوقا 8)
في ذلك الزَّمان دنا إلى يسوعَ ناموسيٌّ وقال مجرّبًا لهُ: يا معلِّمُ، ماذا أعملُ لأرِثَ الحياةَ الأبديَّة؟ فقال لهُ: ماذا كُتِبَ في النّاموس؟ كيف تقرأُ ؟ فأجابَ وقال: أحبِبِ الرَّبَّ إلهَكَ من كلِّ قلبِك ومن كلّ نفسِك ومن كلّ قدرتِك ومن كلّ ذهنِك، وقريبَك كنفسِك. فقال لهُ: بالصَّواب أجبتَ. اِعمَلْ ذلك فتحيا. فأراد أن يُزَكِّيَ نفسَهُ فقال ليسوعَ: ومَن قريبي؟ فعاد يسوعُ وقال: كان إنسانٌ منحدِرًا من أورشليمَ إلى أريحا فوقع بين لصوصٍ، فعَرَّوهُ وجرَّحوهُ وتركوهُ بين حيّ وميتٍ. فاتَّفق أنَّ كاهنًا كان مُنحدِرًا في ذلك الطّريقِ، فأبصرَهُ وجاز من أمامهِ. وكذلك لاوِيٌّ أتى إلى المكانِ فأبصرَهُ وجازَ مِن أمامِه. ثمَّ إنَّ سامِريًّا مسافِرًا مرَّ بِه فلمَّا رآهُ تحنَّن، فدنا إليهِ وضَمَّدَ جراحاتهِ وصَبَّ عليها زيتًا وخمرًا وحملهُ على دابَّتهِ وأتى بهِ إلى فندقٍ واعتنى بأمرِهِ. وفي الغدِ فيما هو خارجٌ أخرَجَ دينارين وأعْطاهما لصاحِب الفندقِ وقالَ لهُ اعتَنِ بأمرهِ. ومهما تُنفق فوقَ هذا فأنا أدفَعُهُ لك عند عودتي. فأيُّ هؤُّلاءِ الثّلاثةِ تَحْسَبُ صار قريبًا للَّذي وقع بين اللُّصوص؟ قال: الَّذي صنعَ إليهِ الرَّحمة. فقال لهُ يسوع: امضِ فاصْنعَ أنتَ أيضًا كذلك.
حول الإنجيل
في جوابٍ على سؤال النّاموسيّ: ”مَاذَا أَعْمَلُ لأَرِثَ الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ؟“ يعطي الرَّبّ يسوع مثل السّامريّ الصّالح ويُنهي كلامه بقوله للسّائل: ”اذْهَبْ أَنْتَ أَيْضًا وَاصْنَعْ هكَذَا“ أي تمثّل ”بالَّذي صَنَعَ مَعَهُ الرَّحْمَةَ“. أي لا تكن لصًّا يعتدي على سواه أو مسافرًا لا يبالي بمن هو ملقى أمامه. كلّ منهما أعمته قساوة قلبه. أوّلهما خضع للطّمع فلجأ للعنف والثّاني تجاهل "لحمه"، كما يقول الكتاب، إذ أنّ العبادة الحقيقيّة هي "إِذَا رَأَيْتَ عُرْيَانًا أَنْ تَكْسُوهُ، وَأَنْ لاَ تَتَغَاضَى عَنْ لَحْمِكَ".
كأنّ لسان حال الكاهن الَّذي عبر أو اللّاوي: "أحارس أنا لأخي" لأتوقَّف وأساعده؟ ألم يخطر في بالهما أنّ الخدمة الَّتي يقدّمانها في الهيكل باطلة إذ أهملا أساس الشّريعة؟
إذا كان عمل الرّحمة جوهر حياتنا المسيحيّة فلمّا تقسو قلوبنا في كثير من الأحيان؟ نخلق الأعذار لإدانتنا للآخرين ونضع الحجج لتقاعسنا عن مبادرات محبّة تجاههم. كيف ندّعي حبّنا للرَّبّ ونلجأ بتبريرنا لأنفسنا للخدم الكنسيّة ممارسين إيّاها بروح النّاموسيّ المجرّب للرَّبّ وفي الوقت ذاته نتنصّل من مسؤوليّاتنا تجاه إخوة صغار كارهين النّظر إلى جراحهم؟
كيف نصلّي ونتقدّم في حياتنا الرّوحيّة مستلهمين الرُّوح القدس دون أن تتحوّل قلوبنا عن تحجّرها وانغلاقها لتصبح هيكلًا للرَّبّ يتسّع للمحبّة والرّأفة تجاه الخليقة بأسرها دون تمييزٍ أو بغضٍ دفين؟
"لأنّ رحمتك أفضل من الحياة" فالحياة بدونك يا ربّ درب سفرٍ مخيف مليء باللُّصوص وبأشخاص غير مبالين. أمّا السّامريّ المسافر والمتحنّن فهو أنت يا ربّي يسوع، يا من هو حقًا "رَئِيسُ كَهَنَةٍ ... قدّم نفسه". وأنت أيضًا الحاضر في المجروح الملقى على الطّريق المنتظر رحمةً وتحنّنًا.
أزمات هذا العالم أصابتنا بالجراح وغدونا كمن هو "بين حيّ وميت". دعوة إنجيل اليوم تبدأ بأن نعترف بجراحنا وبتلمّس رحمة الرَّبّ لننهض من سقطتنا. وكي نتعزّى بما يسكبه علينا كلّ يومٍ من نعمه فنشكره عليها ونحيا من جديد. وأن نصنع رحمة لمن نراه على درب سفرنا في هذه الحياة. علّنا نكون وسيلة كي يعي محبّة الله العظيمة نحوه ويلمس لمس اليدّ دفق الزّيت والخمر عليه.
شركة القدّيسين
المتروبوليت بولس (يازجي)
“ونحن إذ لنا مثل هذه السَّحابة من الشُّهود لِنُلْقِ عنّا كلّ ثِقَلٍ والخطيئة…”
... مَن هو القدّيس؟ لا شكّ أنّه بالطَّبيعة ما هو إلّا مُجَرَّد بشر! لا يختلف بذلك عن أيّ إنسان آخر شرّير! ما يختلف في القدّيس ليس طبيعته ولكن طَبْعَهُ، ليس خِلقته ولكن خلقه، ليس معيشته بل حياته، إنّه إنسانٌ يحيا حياةَ الله في جسده البشريّ. القدّيس هو مَن يَحْيَا بالرُّوح القدس الَّذي يحرّكه ويقوّيه ويقوده إلى الحَقّ، “فالبارّ بالإيمان يحيا”، وهذا يُدرَك ليس بشكلٍ أوتوماتيكيّ، ولا بمُجرَّد خَيار نظريّ، بل بجهاد ومحاولة لا تنقطع. إنّ تكوين القدّيس من طين، أي إعادة تكوين الجبلة البشريّة الَّتي هي مجرّد اللّحم والدَّم إلى خليقة ملائكيّة، يحتاج لمسيرة طويلة ويتطلَّب جهدًا ليس بقليل. لذلك إنّ تنشئة الكائن البشريّ إلى قدّيس تحتاج إلى معرفة روحيّة عميقة نسمّيها “الإيمان”، وإلى محاولة لا تهدأ نسمّيها “الجهاد” الرُّوحيّ. هذا هو القدّيس، مَنْ يَتَمَسَّك بالإيمان ويعمل حسبه دون ملل.
ما هي أشكال حياة القداسة؟ إنّها طرق عديدة ولا تُحصى! ولكنّ التّقليد الكَنَسيّ صنَّفها في مراتب. فالمثل البشريّ الأعلى والأوّل للقدِّيسين هو “العذراء مريم”، ويَليها شخصيّات أوّلها يوحنّا المعمدان، ثمّ تتوالى مراتب كالرُّسُل والأنبياء والمعلّمين، وبعدهم رؤساء الكهنة، وبعدهم الشُّهداء ثمّ الأبرار والمعترِفين. هؤلاء كلّهم عاشوا حياة الله في ظروفهم وطبيعتهم وأعمالهم وبلادهم وثقافاتهم وخدماتهم وأعمالهم المختلفة. القداسة غاية ممكنة للمرأة كما للرَّجل، للعبد كما للحُرّ، لإثنيّة كما لأخرى، في وسط العالم وخارجه، في شهادة دم وفي شهادة الضَّمير، وكما يلّخصها بولس الرَّسول “إنّنا نماتُ من أجلك اليوم كلّه”. هذه هي حركة ومسيرة القداسة، فهي في ظروف اضطهاد تنتهي بِسَكْبِ دم، وفي زمن السَّلام تنتهي بحياة البرّ، وفي خدمة رسوليّة تنتهي برؤساء كهنة ومعلّمين وخدّام رسل ومبدعين ورجال فكر… الدَّعوة للقداسة ليستْ حصْرًا على فئة أو طريقة حياة محدّدة بين النّاس. “كونوا قدّيسين كما أنّ أباكم السّماويّ قدّوس” (كاملين)، إنّها دعوة لا تستثني أحدًا، إنّها غاية الحياة البشريّة لكلّ إنسان ولكلّ طرق الحياة.
كيف نُكرم القدّيسين؟ لا شكّ أنّنا نكرم مَن نحبّ “ونضع السِّراج عاليًا لِيُضيءَ لجميع مَن في البيت”. لهذا ترانا نرسم إيقونات للقدِّيسين ونُزَيِّن بها منازلنا وكنائسنا، ونُحيي تذكاراتهم بالصَّلوات والطُّقوس… ونبني الكنائس والأديار على أسمائهم، ونتسمّى بأسمائهم، ونطلب شفاعتهم ونتّكل عليهم… وبكلمة مختصرة نشاركهم حياتنا وهمومنا وحاجاتنا. هذا أوّلًا.
الذَّهبيّ الفمّ يقول “إكرام القدِّيس هو الاقتداء بالقدِّيس”. هكذا ثانيًا إذن، لا نُشارِك القدِّيس همومَنا وحسب، بل نشاركه قداسته، ونشهد معه ونحيا مثله. إذن إكرام القدّيسين هو قبول دعوة مَن دعاهم ودعانا، فندخل في “شركة القدّيسين” ولا نُكرم جميع القدّيسين بالطَّلب أو الإكرامات وحسب.
لذلك يقول بولس الرَّسول في ختام المقطع من رسالته بعد أن عدّد ألقاب “جميع القدّيسين” وإنجازات إيمانهم:
“فنحن إذ يحدق بنا مثل هذه السّحابة من الشُّهود (الأمثلة الحيّة) فلنُلْقٍ عنّا كلَّ ثِقَلٍ والخطيئة المُحيطة بنا بسهولة”. نعم، وحدها الخطيئة تخرجنا من “شركة القدّيسين”! حياة القداسة لنا نحن حيث وكما نحن في أعمالنا وخدماتنا لكن بشرطَين، الَّذَين يذكرهما هنا بولس: أوّلًا أنْ نُلْقِ عنّا الخَطيئة وثانيًا أن نتسابق مع القدّيسين بالصَّبْر والجهاد الَّذي أمامَنا، “مُقتَدِين مثلهم وناظرِين، إلى رئيس الإيمان ومكمّله يسوع”، آمين.
(للمتروبوليت بولس (يازجي)، جزء من مقال ”شركة القدّيسين“، 6 تشرين الثّاني 2012)