نشرة كنيستي
نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.
أحد 24 شباط 2019
العدد 8
أحد الابن الشّاطر
اللّحن 6 - الإيوثينا 6
أعياد الأسبوع: *24: ظهور هامة السّابق للمرّة الأولى والثّانية *25: طاراسيوس رئيس أساقفة القسطنطينيّة *26: بورفيريوس أسقف غزّة، فوتيني السّامريّة، البار ثيوكليتُس *27: بروكوبيوس البانياسيّ المُعترف، ثلالاوس السّوريّ *28: باسيليوس المُعترف، البارّ كاسيانوس الرّومانيّ، البارّتان كيرا ومارانّا *1: البارّة في الشّهيدات آفذوكيّا، البارّة دومنينا *2: الشّهيد إيسيخيوس.
كلمة الرّاعي
الشّبيبة في مواجهة الحرّيّة والشّهوة
شهوة الجسد هي التّجربة الأكبر للشّبيبة. اللَّذَّة موجودة عند الإنسان من بدء تكوينه، لكنّه يبدأ بإدراكها ووعيها في جسده في سنّ المُراهقة، حيث تشتدّ وطأتها عليه لأنَّها اكتشافٌ جديدٌ لذاته في خروجه من طفوليّته وامتداده إلى النّضج. كثيرون لا يعبرون سنّ المراهقة نفسيًّا ولو عبروه في عدد السّنين، وقد تمتدّ مراهقتهم طوال حياتهم.
* * *
المُراهق يشكو من أنّ والديه لا يفهمانه، ولذلك يحاول الانسلاخ عن مواقف وثوابت ورغبات الوالدين كوسيلة لتأكيد وإثبات تفرّده وتمايزه، وهذا يستلزم مُعارضة سلطة الأهل والتّحرُّر منها. هذا ما فعله الابن الشّاطر في المثل الإنجيليّ اليوم وأساس حرّيته أمران: (1) المال ليؤمّن استقلاليّته وكفايته ليعيش دون وصاية أبيه، و(2) الغربة ليبتعد عن السّلطة الأبويّة إذ يسكن في مكانٍ بعيد عن حضور أبيه الجسديّ.
* * *
هذان الدّافعان مُرتبطان ببعضهما البعض، فلكي يتمّم شهواته، كان على الابن الضّال أن يبتعد عن المسكن الأبويّ وأن يقتني المال الّذي يؤمّن له "كمال اللَّذة" في "الخلاعة". لذلك، "جَمَعَ الابنُ الأصغَرُ كلَّ شيءٍ لهُ وسافَرَ إلى بلدٍ بعيدٍ وبذَّر مالَه هناك عائِشاً في الخَلاعَة" (لوقا 15: 13).
ما هي الخلاعة يا ترى؟ إنّها التَّهَتُّكُ، الْمُجُونُ، فَسَادُ الأَخْلاَقِ، الإِغْرَاقُ فِي الْمَلَذَّاتِ، الْفُجُورُ، أن يخلع الإنسان عنه ثوب العفّة والنّقاوة وأن ينغمس في إشباع رغبات اللّحم والدّم طلبًا للَّذّة. ولذّة الأبدان إذا تعطاها الإنسان خارج الحبّ صارت إدمانًا لا يشبع وهوَّة جحيميَّة تغتذي على جسد الإنسان وأجساد المُستَهلَكين منه وله.
يزيِّن الشّيطان للشّبيبة الحرّيّة فرصة لإشباع أهواء الجسد، وهذا ما يحذّر منه بولس الرّسول قائلًا: "فَإِنَّكُمْ إِنَّمَا دُعِيتُمْ لِلْحُرِّيَّةِ أَيُّهَا الإِخْوَةُ. غَيْرَ أَنَّهُ لاَ تُصَيِّرُوا الْحُرِّيَّةَ فُرْصَةً لِلْجَسَدِ بَلْ بِالْمَحَبَّةِ اخْدِمُوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا ..." (غلاطية 5: 13).
* * *
منذ السّقوط صار الإنسان مُستعبدًا للأهواء والشّهوات النّفسيّة والجسديّة طلبًا للَّذّة. الله أعطانا كلّ شيء صالح وجميل ولذيذ، ولكن لمّا صارت الغاية هي فقط أن يرضي الإنسان نفسه وأن يستعمل كلّ شيء وكلّ شخص لأجل إطفاء نار شهواته، صارت اللَّذة جحيمًا والجمال وحشًا يقلقان ويشوّشان حياة الإنسان ويُخضعانه لطاعتهما دون ارتواء وشبع. هذا هو ألم إدمان "شهوة الجسد وشهوة العيون" (رسالة يوحنا الرسول الأولى 2: 16)، يصير الإنسان في حالة من الخنزيريّة الرّوحيّة، أي هو يتمرَّغ في أوحال وأوساخ أفكاره وأعماله المُرتبطة بوهم حرّيّته أي تحرُّره من كلّ سلطة عليه من خلال رغبته الجامحة بإشباع ذلك الكمّ الهائل من الرّغبة الجنسيّة الّتي تجعله يبحث عن الاقتراب إلى جسد آخر يلتحم معه ليطلب المتعة في بدنه ودغدغة مشاعره والوصول إلى النّشوة ظنًّا منه أنّه بهذه الطّريقة يحقِّق رجوليّته أي كونه ناضجًا مسؤولًا عن نفسه قادرًا أن يقرِّر أموره بذاته دون العودة إلى أحد.
* * *
هكذا يخدع الشّيطان الشّبيبة، بعامّة، ويحارب الشّبيبة المؤمنة، بشكلٍ خاصّ، لكي تَخضع لشهواتها ونزواتها فيُدخِل فيها النّفور من سلطة الأهل والرّغبة بالتَّفَلُّت من العلاقة مع الله بسبب الضّوابط الأخلاقيّة-الإيمانيّة.
يُدخل الشّيطان الشّبيبة في دوّامة البحث عن الذّات دون إمكانيّة للخروج من هذه الحلقة المفرَغَة إلّا بالعودة على الله، كما فعل الابن الشّاطِر. اللّذّة أدّت إلى الافتقار الكيانيّ لاحترام الذّات عند الشّاب والانغماس في أوحال خطيئة الجسد ما وضعه بإزاء ذاته مضرَّجة بالقذارة الخارجيّة والدّاخليّة وكبَّله بهذا كلّه جاعلًا إيَّاه يرى ذاته في العبوديّة والجوع الكيانيّ للحنان والأمان الأبويَّين. هذا الزّلزال الكيانيّ الوجوديّ أعاد الابن إلى صوابه إلى ذاته فعرف أنّ حرّيته ينالها من أبيه بالحبّ وفرحه بالحنان والأمان وأنّ كلّ ما كان يظنّه حول حرّيّته ولذّته وفرحه ونضجه ورجوليّته واستقلاله كان وهمًا لأنّ "دوّار الشّهوة يطيِّش العقل السّليم" (سفر الحكمة 4: 12)، فكم بالحَريّ من لم يختبِر الحياة بعد؟! ...
"أَكْتُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الأَحْدَاثُ، لأَنَّكُمْ قَدْ غَلَبْتُمُ الشِّرِّيرَ ..." (رسالة يوحنّا الرّسول الأولى 2: 13).
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما
طروباريّة القيامة (باللَّحن السّادس)
إِنَّ القوَّاتِ الملائِكِيَّة ظَهَرُوا على قبرِكَ الـمُوَقَّر، والحرَّاسَ صَارُوا كَالأَموات، ومريمَ وَقَفَتْ عندَ القَبْرِ طَالِبَةً جَسَدَكَ الطَّاهِر، فَسَبَيْتَ الجَحِيمَ ولَمْ تُجَرَّبْ مِنْهَا، وصَادَفْتَ البَتُولَ مَانِحًا الحَيَاة، فَيَا مَنْ قَامَ مِنْ بَيْنِ الأَمْوَاتِ، يَا رَبُّ المَجْدُ لَك.
طروباريّة وجود هامة يوحنّا السّابق المُكرّمَة (باللَّحن الرّابع)
لقد بَزَغَتْ من الأرضِ هامةُ السَّابق، فخلَقَتْ للمؤمنينَ أشعَّةَ الأشفِيَةِ العادمةَ الفسادِ، فهي تجمعُ من العُلُوِّ جماهيرَ الملائكة، وتستدعِي من أسفل أجناسَ البشر، ليوجِّهوا بأصواتٍ مُتَّفِقَةٍ مجداً للمسيحِ الإله.
قنداق الابن الشّاطر (باللَّحن الثّالث)
لمّا هَجَرْتُ مجدَكَ الأَبَوِيَّ عن جَهْلٍ وغَباوَة، بَدَّدْتُ في الشُّرورِ الغِنَى الَّذي أعطيتَنِي أيُّها الأَبُ الرَّؤوف. لذلكَ أَصرُخُ إِليكَ بصوتِ الابنِ الشَّاطِرِ هاتِفًا: خَطِئْتُ أمامَكَ، فاقَبلنِي تائِبًا، واجعلْنِي كأَحَدِ أُجَرائِكَ.
الرّسالة (2 كو 4: 6– 15 )
يَفْرَحُ الصِّدِّيقُ بالرَّبِّ
استمِعْ يا اللهُ لصوتي
يا إخوةُ، إنَّ اللهَ الَّذي أمرَ أن يُشرِقَ من ظُلمةٍ نُورٌ هو الَّذي أشرَقَ في قلوبِنا لإنارةِ معرفَةِ مجدِ اللهِ في وجهِ يسوعَ المسيح. ولنا هذا الكنزُ في آنيةٍ خَزَفيَّةٍ ليكونَ فضلُ القوَّةِ للهِ لا منَّا، مُتضايِقِينَ في كُلِّ شيءٍ ولكن غيرَ مُنحَصِرِين، ومُتحيِّرينَ ولكن غيرَ يائسين، ومُضطَّهَدِين ولكن غيرَ مَخذولين، ومَطروحينَ ولكن غيرَ هالِكين، حامِلين في الجسدِ كُلَّ حينٍ إماتَةَ الرَّبِّ يسوعَ لتَظْهَرَ حياةُ يسوعَ أيضًا في أجسادِنا. لأنَّا نحنُ الأحياءَ نُسَلَّمُ دائماً إلى الموتِ من أجلِ يسوعَ لتَظْهَرَ حياةُ المسيحِ أيضًا في أجسادِنا المائِتَة. فالموتُ إذَنْ يُجرَى فينا والحياةُ فيكم. فإذ فينا روحُ الإيمانِ بعيِنهِ على حَسَبِ ما كُتبَ إنِّي آمَنْتُ ولذلكَ تكلَّمتُ، فنحنُ أيضًا نؤمِنُ ولذلك نتكلَّم، عالـِمِينَ أنَّ الَّذي أقامَ الرَّبَّ يسوعَ سيُقيمُنَا نحن أيضًا بيسوعَ فننتصِبَ مَعَكم، لأنَّ كلَّ شيءٍ هو من أجلِكُم لكي تتكاثَرَ النِّعمةُ بشُكرِ الأَكثَرِين فتزدادَ لمجدِ الله.
الإنجيل )لو 15: 11– 32)
قالَ الرَّبُّ هذا المثَل: إِنسانٌ كان له إبنان. فقالَ أصغرُهُما لأبيه: يا أبتِ، أَعطِني النَّصيبَ الَّذي يَخُصُّني من المال. فَقَسَمَ بينهما معيشَتَه. وبعدَ أيَّامٍ غيرِ كثيرةٍ جَمَعَ الابنُ الأصغَرُ كلَّ شيءٍ لهُ وسافَرَ إلى بلدٍ بعيدٍ وبذَّر مالَه هناك عائِشاً في الخَلاعَة. فلمَّا أَنفقَ كلَّ شيءٍ، حَدَثَتْ في ذلك البلدِ مجاعَةٌ شديدة، فأَخَذَ في العَوَز. فذهبَ وانضوَى إلى واحدٍ من أهلِ ذلكَ البلدِ فأرسَلَه إلى حقولِه يرعى خنازير. وكان يشتهي أن يملأ بطنَه من الخُرْنُوب الَّذي كانت الخنازيرُ تأكلُهُ فلم يُعْطِهِ أحد. فرجع إلى نفسِه وقال: كم لأبي من أُجَرَاءَ يَفْضُلُ عنهم الخبزُ وأنا أهلِكُ جوعًا. أقومُ وأمضي إلى أبي وأقولُ له: يا أبتِ، قد أخطأْتُ إلى السَّماء وإليك، ولستُ مُستحقّاً بعدُ أن أُدْعَى لك ابناً، فاجعلني كأحَدِ أُجرائِك. فقامَ وجاءَ إلى أبيه. وفيما هو بعدُ غيرَ بعيدٍ، رآه أبوه فَتَحَنَّنَ عليه وأسرعَ وأَلْقَى بنفسِهِ على عُنُقِهِ وقَبَّلَه. فقالَ له الابنُ: يا أَبَتِ قد أخطأتُ إلى السَّماء وأمامَك ولستُ مُستَحِقّاً بعدُ أن أُدعى لك ابناً. فقالَ الأبُ لعبيده: هاتُوا الحُلَّةَ الأولى وأَلْبِسُوه، واجْعَلُوا خاتَماً في يدِهِ وحِذَاءً في رجلَيْه، وأْتُوا بالعِجل المُسَمَّن واذْبَحُوهُ فنأكلَ ونفرحَ، لأنَّ ابني هذا، كان مَيِّتاً فعاش، وكان ضالاً فوُجِد. فطَفِقُوا يَفرحُون. وكان ابنهُ الأكبرُ في الحقل. فلمَّا أَتَى وقَرُبَ من البيتِ سمعَ أصواتَ الغناءِ والرَّقْصِ. فدعا أحدَ الغِلْمَانِ وسأله: ما هذا؟ فقال له: قد قَدِمَ أخوكَ فذبحَ أبوكَ العجلَ المسمَّنَ لأنَّهُ لَقِيَهُ سالـِماً. فغضِبَ ولم يُرِدْ أن يدخُل. فخرجَ أبوه وطفقَ يتوسَّلُ إليه. فأجابَ وقال لأبيه: كم لي من السنين أخدُمُكَ ولم أَتَعَدَّ لكَ وصيَّة قطُّ وأنتَ لم تُعْطِنِي قَطُّ جِدْياً لأَفْرَحَ مع أصدقائي. ولمّا جاءَ ابنُكَ هذا الَّذي أكلَ معيشتَكَ مع الزواني ذبحتَ له العجلَ المسمَّنَ. فقالَ له: يا ابني، أنتَ معي في كلِّ حينٍ وكلُّ ما هو لي فهو لك. ولكن كان يَنبغِي أَنْ نفرَحَ ونُسَرَّ لأَنَّ أخاكَ هذا كان مَيِّتاً فعاشَ وكان ضالاًّ فوُجِدَ.
حول الإنجيل
"فغضِبَ ولم يُرِدْ أن يدخُل".
هذا ما صدر من الابن الأكبر كَرَدَّةِ فعلٍ عندما عَلِمَ سببَ الفرحِ والغناءِ والرَّقْصِ في بيت أبيه. هذا الجوّ الَّذي نَجَمَ عن الفرح برجوعِ الابنِ الأصغر الَّذي اتَّهَمَهُ أَخوه بأَنَّهُ بدَّدَ ثروةَ والده مع الزواني.
موقفُ قبولِ توبةِ الابنِ الَّذي جَسَّدَهُ الأبُ يبدو واضِحًا في قصَّةِ هذا المثل المعروف بـ "مثل الابن الشاطر (الضَّالّ)"، وهو عنوان هذا الأحد المبارَك. وكذلك موقفُ توبةِ الابنِ الَّذي عاد إلى أبيه نادِمًا ومعترِفًا بخطَئِه. غير أنَّ موقفَ الابنِ الأكبر، أي الموقف الغاضِب، قد حوَّلَ الأبَ من إنسانٍ يُصْدِرُ الأوامِرَ فرِحًا برجوعِ ابنِه الأصغر الضَّالّ، إلى إنسانٍ يتوسَّلُ ابنَه الأكبر الغاضِب لكي يعودَ عن غضبِه ويشارِكَه الفرحَ والسرورَ بقولِه له: "كانَ ينبغي أن نفرحَ ونُسَرَّ لأنّ أخاك هذا كان ميِّتًا فعاشَ وكان ضالاًّ فوُجِدَ"(لوقا 15: 32).
هذه الدَّعوَةُ إلى فرحٍ كهذا وُجِّهَتْ مرَّتَين، على لسانِ الرَّبِّ يسوع، مباشرةً قبل هذا المثل في إنجيل لوقا. المرَّة الأولى، في مثل "الخروف الضَّالّ"، حين يدعو صاحب هذا الخروف، الَّذي ترك التِّسعة والتِّسعين: "الأَصْدِقَاءَ وَالْجِيرَانَ قَائِلاً لَهُمُ: افْرَحُوا مَعِي، لأَنِّي وَجَدْتُ خَرُوفِي الضَّالَّ!" ويتابع الرَّبُّ حديثَه مُوضِحًا أهميّة هذا الفرح بقوله: "إِنَّهُ هكَذَا يَكُونُ فَرَحٌ فِي السَّمَاءِ بِخَاطِئٍ وَاحِدٍ يَتُوبُ" (لوقا 15: 7).
وفي المرَّة الثانية، عندما أَخْبَرَ عن المرأة التي فتَّشَت عن "الدِّرهمِ الضَّائع"، وعندما وجدَتْهُ دَعَتِ "الصَّدِيقَاتِ وَالْجَارَاتِ قَائِلَةً: افْرَحْنَ مَعِي لأَنِّي وَجَدْتُ الدِّرْهَمَ الَّذِي أَضَعْتُهُ". ويتابعُ الرَّبُّ حديثَهُ مُوضِحًا أهميّة هذا الفرح، كما في المثل السابق (الخروف الضَّالّ)، بقوله: "يَكُونُ فَرَحٌ قُدَّامَ مَلاَئِكَةِ اللهِ بِخَاطِئٍ وَاحِدٍ يَتُوبُ" (لوقا 15: 10).
أَمْثِلَةٌ ثلاثة، تكلّم بها الرَّبُّ يسوع، وهي على عمقِ معانيها وتعليمِها، تحمِلُ هذه الدَّعوةَ المميَّزَةَ والفريدَةَ من نوعِها في الكتاب المقدّس والَّتي تَحُثُّ على الفرح. وهذا الكلام كلّه في هذا الإصحاح الخامس عشر من إنجيل لوقا، موجَّهٌ ضدَّ تذمُّرِ الفرِّيسيِّين والكتبة بسبب مجالستِهِ العشَّارين والخطأة والأكل معهم (لوقا 15: 1 – 2).
مثلُ "الابنِ الضَّالّ"، مَثَلُ هذا اليوم، غَنِيٌّ بكلّ ما ورد فيه من مواقف وعِبَر، ويشكِّلُ نقلةً نوعيّة في تربية الرَّبِّ لشعبه، إذ يدعو إلى تجاوز حرفيَّةِ النَّاموسِ بمحدوديَّةِ وصاياه الَّتي كانت تدعو إلى "عينٍ بعينٍ وسنٍّ بسنٍّ" (تثنية 19: 21)... بالمقابل، يدعونا ربُّنا اليوم، عبر هذا الـمَثَل، "متوسِّلاً"، إلى الارتقاء إلى شعور أبناء السَّماء وملائكةِ الله بالفرح بتوبةِ الخاطِئ، لأنِّ هذا الفرحِ من شأنه أن يغيِّرَ وجهَ العالم، إذ يكون السبب المباشَر لإقصاءِ البُغض وما ينتج عنه من أمورٍ قاسية، قد تكون أحيانًا القتل؛ كما فعل قايين عندما أبغضَ أخاه...
هل سنَدَعْ ربَّنا يتوسَّلُنا أكثر لِتَلِينَ قلوبُنا؟ أَمْ سنُلَبِّي دعوتَه إلى الفرح بعودة كلِّ خاطئ؟
تلبيةُ هذه الدعوة، تُوصِلُنَا إلى أن نصيرَ مشارِكِي الملائكة في السَّماء، لأنَّـها تعني أَنَّنا نؤمنُ بأنَّ اللهَ يقبلُ توبتَنا ويُطَهِّرُ خطايانا، الَّتي وإن "كانت كالقرمز فإنّه يبيِّضُها كالثلج".
فلنَتُبْ، ولنَغْفِرْ بعضُنا لبعضٍ هفواتِنا وزلاتِنا، لكي نكونَ أبناءَ أبينا الّذي في السَّماوات، له المجدُ إلى أبدِ الدهور، آمين.
(من نشرة الكرمة، ٣ آذار ۲٠١٣)
الموت والرّجاء
المَوت هو على نوعين:
1- الموت الجسديّ وهو انفصال الرّوح عن الجسد، وهذا حدث يخضع له كلّ مولود من بني آدم.
2- الموت الرّوحيّ وهو انفصال الإنسان عن الله بالخطيئة. الله هو الحياة والانفصال عنه هو موت.
الموت حدثٌ طرأ على البشريّة بسبب السّقوط والخطيئة. هو لم يكن موجودًا من البدء، فالإنسان الأوّل كان قابلًا لعدم الفساد لو أطاع الله، وللفساد إذا لم يطع الله، وهذا ما حصل. الموت إذًا ثمرة خطيئة جدَّيْنا الأوّلَيْن. هو حدث لاحق ودخيل على حياة الإنسان. بالتّالي الله لم يصنع الموت ولكنّ الإنسان هو جلبه بخطيئته. الآباء القدّيسون يُجمِعون على حقيقة أنّ الموت دخل إلى العالم بسبب الإنسان لا بسبب الله. فالله سمح بالموت كعمل رحمة منه حتّى لا يكون الإنسان خالدًا في الخطيئة كما قال القدّيس غريغوريوس اللّاهوتيّ: "لئلّا يبقى الشّرّ عادم الزّوال". ولكن أما من رجاء؟ بلى، بالمسيح الّذي داس الموت بموته ليهب الحياة للبشريّة السّاقطة. احتاجت البشريّة إلى "ترياق ضدّ الموت" (القدّيس أغناطيوس الأنطاكيّ). الإنسان السّاقط احتاج إلى من يقيمه، ومن فقد نعمة الحياة احتاج إلى مانح حياة على حدّ قول القدّيس غريغوريوس النّيصصيّ. الرّجاء بالخلاص لم يكن ليتحقّق بغير المسيح: "لأنّه ليس اسم آخر تحت السّماء قد أعطي بين النّاس، به ينبغي أن نخلص" (أعمال 12:4). المسيح تَغلَّبَ على الحواجز الثّلاثة الّتي تفصل الإنسان عن خالقه: بتجسّده تغلّب على حاجز الطّبيعة البشريّة المَريضة بالخطيئة، فقدّسها بتجسّده واتّحادها بلاهوته؛ وتغلّب على حاجز الخطيئة بموته؛ وتغلّب على حاجز الموت بقيامته. تَجَسَّدَ المسيح وأخذ الطّبيعة البشريّة بكلّ جوانبها "ما لم يتّخذه لم يشف" (القدّيس غريغوريوس اللّاهوتّي). تجسّد ليُحرّرنا من سيطرة الخطيئة والموت. وحتّى يُعطينا حياةً أبديّة كان عليه أن يشارك موتنا. لم يمت المسيح لأنّه كان مضطرًّا إلى الموت: "لي نفس ليس أحد يأخذها منّي بل أضعها أنا من ذاتي. لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن آخذها أيضًا" (يوحنّا 18:10). لقد فعل كلّ شيء طوعًا باختياره. موت المسيح وقيامته أدَّيَا إلى: غفران الخطايا والمُصالَحَة مع الله، التّحرّر من سلطان الموت، تجديد العالم كلّه، القيامة العامّة، النّصر على الشّيطان، سَحْق الجحيم.