نشرة كنيستي
نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.
الأحد 4 أيلول 2022
العدد 36
الأحد (12) بعد العنصرة
اللّحن 3- الإيوثينا 1
أعياد الأسبوع: *4: النّبيّ موسى مُعاين الله، الشَّهيد بابيلا أسقف أنطاكية وتلاميذه الثَّلاثة *5: النّبيّ زخريّا والد السّابق *6: تذكار أعجوبة رئيس المَلائكة ميخائيل في كولوسي *7: تقدمة ميلاد السَّيِّدة، الشَّهيد صوزن، البارَّة كاسياني *8: ميلاد سيَّدتِنا والدة الإله الفائقة القداسة *9: تذكار جامع لِجَدَّي الإله يُواكيم وحنَّة، الشَّهيد سفريانوس *10: الشَّهيدات مينوذورة وميتروذورة ونيمفوذورة.
كلمة الرّاعي
ميلاد والدة الإله وأمّ النّور
”إنَّ المَسكونَةَ، بمولدِكِ المُوَقَّر، تتزَّين عقليًّا بزينة
الرُّوح غير الهَيُولي“ (قنداق تقدمة عيد ميلاد السّيّدة)
عيد ميلاد والدة الإله نشأ في أورشليم أواسط القرن الخامس الميلاديّ حينما كُرّست كنيسة على اسم والدة الإله مريم قرب البركة الغنميّة أي بركة بيت حسدا حيث شَفى الرّبّ المخلع من ثماني وثلاثين سنة كما يرد في الإنجيل.
لاحقًا، انتقل الاحتفال بعيد ميلاد العذراء في القرن السّادس إلى القسطنطينيّة. وقد وضع القدّيس رومانوس المرنّم التّراتيل الخاصّة بهذا العيد وما زلنا نصلّي بعضها في طقوسنا.
من ثَمَّ انتقل العيد إلى الغرب في عهد البابا سيرجيوس الأوّل (687-701 ) الأنطاكيّ الأصل.
* * *
يقول القدّيس نيقولاس كاباسيلاس (نحو ١٣٢٠- ١٣٦٣): ”نظر الله من العلى إلى الأرض فرأى إنسانة طاهرة نقيّة متواضعة، فلم يستطع إلّا أن يتجسّد منها“. الله يرتاح في المتواضعين الأطهار، هم مسكن قدسه وهيكل مجده.
بالحقيقة، يصحُّ في العذراء ما قاله الرّبّ لإرمياء النّبيّ: ”قَبْلَمَا صَوَّرْتُكَ فِي الْبَطْنِ عَرَفْتُكَ“ (إر 1: 5). فمريم ابنة يواكيم وحنّة هي ابنة الوعد الإلهيّ وسابق علم الله في سرّ تدبيره الإلهيّ لخلاص البشر.
ميلاد والدة الإله مريم نعرف تفاصيله من التّسليم الكنسيّ الشّريف. حيث يرد أنّ يواكيم، والد مريم، كان من سبط يهوذا من نسل داود، وتربّى في عائلة تقيّة ملتزمة بالشَّريعة وفرائضها كافّة. حتّى إنّ والده الَّذي كان غنيًّا جدًّا اعتاد أن يقدّم القرابين لله وهو يُردِّد في سرّه: "لتكن خيراتي للشَّعب كلّه، من أجل مغفرة خطاياي لدى الله، ليشفق الرَّبّ عليّ".
أمّا حنّة والدة العذراء مريم فهي ابنة الكاهن متّان من سلالة هارون وسبط لاوي. عاشت حزينة بسبب عقرها، إذ هذا الأمر عند اليهود عارًا ولعنة من الله، بينما المرأة المخصبة الولّادة فهي تفتخر بالرَّبِّ كونه المسيح المنتظر قد يأتي منها أو من نسلها.
يواكيم وحَنَّة صَلَّيا ليمنحهما الرَّبُّ نسلًا ويزيل عارهما. ورفعت أحشاء قلبها إلى الرَّبّ قائلةً: "يا إله آبائي، باركني واستجبْ صلاتي، كما باركتَ أحشاء سارة ورزقتها إسحق ابنًا". فيستجيبها ملاك الرَّبّ قائلًا لها: "يا حنّة، إنّ الله سمع صلاتك؛ سوف تحبلين وتلدين، ويكون نسلك مشهورًا في العالم بأسره". فأجابته بفرح لا يوصف قائلة: "ليَحْيَ الرَّبّ إلهي؛ سواء كان صبيًّا أم بنتًا ما ألده، فسوف أقدّمه للرَّبّ، وسوف يكرّس حياته للخدمة الإلهيّة". وحبلت حنّة من يواكيم، وفي الشَّهر التَّاسِع وَلَدَتْ بِنْتًا، وسَمَّتها مريم ورفعت الشُّكران والحَمْد لله بفرحٍ قائلة: "نفسي ابتهجت هذه السّاعة".
* * *
أيّها الأحبّاء، العيد الحاضر هو عيد الرَّجاء واستباق الخلاص بالمسيح في الّتي اصطفاها ليأتي منها في ”مِلْء الزَّمان“. يواكيم وحنّة بالنّاموس كانا مُدانَيْن بسبب العُقْر، لكنّهما لم يكونا عَقِيمَيْن في الرُّوح بل مُخْصِبَيْن. وحين وصلَا إلى التّواضع الأقصى المُمْكن أسْلَما ذاتَيْهما بالكلّيّة إلى المشيئة الإلهيّة ووثقا ثقةً كاملة بالَّذي هو صادقٌ وأمينٌ أن يرفع قرن مُحِبِّيه والمُتّكِلين عليه، هو ” الإِلهُ الأَمِينُ، الْحَافِظُ الْعَهْدَ وَالإِحْسَانَ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ وَيَحْفَظُونَ وَصَايَاهُ إِلَى أَلْفِ جِيل“ (تثنية 7: 9).
هكذا، الله الَّذي أنشا من الموت حياة ومن العقر خصوبة، هو في مريم يُنشِئُ من كنيسة العهد العتيق المرموز لها بيواكيم وحنَّة كنيسة العهد الجديد المرموز لها بمريم صورة العالم الجديد المُخصِب بالطّاعة والاتّضاع. لأنّ الكنيسة هي جسد الرّبّ وقد صار للرَّبّ جسد بعد أن تجسَّد من الرُّوح القدس ومن مريم العذراء.
صارت مريم باكورة الخليقة الجديدة الّتي بالمسيح، شعب الله الوارث للموعد الأبويّ والأبديّ والَّذي تحقَّق في يسوع المسيح وبه.
نحن اليوم نعيِّد هذا العيد الَّذي هو برعم الحياة الجديدة الّتي بالمسيح يسوع ابن الله الوحيد، وفرحنا بولادة مريم العذراء يتأتّى من معرفتنا للسّرّ الآتي بها وتبنّينا من الله بابنه الوحيد المتجسّد الَّذي سيولد منها. مريم أضحت أمّ الحياة بالرّوح القدس وصارت أمّ النور، ”النُّورُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي يُنِيرُ كُلَّ إِنْسَانٍ آتِيًا إِلَى الْعَالَمِ“ (يوحنّا 1: 9) والّتي بها اهتدينا إلى ”الأَلِفُ وَالْيَاءُ، الْبِدَايَةُ وَالنِّهَايَةُ. أَنَا أُعْطِي الْعَطْشَانَ مِنْ يَنْبُوعِ مَاءِ الْحَيَاةِ مَجَّانًا“ (رؤيا 21: 6) وهو الَّذي صارت الكنيسة جسده ينبوع الحياة لكلّ إنسان طالبٍ الخلاص والغلبة على الموت والشّرّير والخطيئة...
اليوم، تدعونا الكنيسة المقدَّسة إلى التّأمُّل في سرّ الله الَّذي يُشرق من الظُّلمة نورًا ومن الضّعف يُنشئ قوّة، لكي نثبت في الرّجاء والاتّكال عليه واثقين أنّه لا يترك شعبه وأحبّائه إذا ما ترسَّخوا في التّواضع والتّقوى وسلكوا في البّرّ الَّذي هو طاعة الوصيّة الإلهيَّة حبًّا بالَّذي كشف لنا عن سرّ حبّه للبشريّة باختيار فتاة الله مريم لتكون أمًّا لابنه الوحيد.
لا نخافنّ الغد بل فلنثق بأن الله أمين أن يحوّل كلّ الأمور لخير محبّيه وخائفيه...
هلّموا خذوا نورًا من النُّور الَّذي لا يعروه مساء، الَّذي أتانا بولادته من الَّتي وَلَدَها في سابق علمه بروحه لتكون له مَسْكِنًا ... وأمًّا لنا جميعًا ...
ومن استطاع أن يقبل فليقبل...
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما
طروباريّة القيامة (باللَّحن الثّالث)
لِتفرحِ السَّماوِيَّات. ولتَبتَهِجِ الأرضِيَّات. لأنَّ الرَّبَّ صنعَ عِزًّا بساعِدهِ. ووَطِئَ المَوْتَ بالمَوْت. وصارَ بِكرَ الأموات. وأنقذَنا من جَوفِ الجحيم. ومَنَحَ العالمَ الرَّحمةَ العُظمى.
طروباريّة للنّبيّ موسى (باللَّحن الثّاني)
إنّنا مُعَيِّدون لتَذكار نَبِيّكَ موسى، وبه نبتهل إليكَ يا ربّ، فخَلِّص نفوسنا.
طروباريّة الشّهيد بابيلا(اللّحن الرّابع)
لقد شاركتَ الرُّسُل في الطّرائق، وخلفتهم في سدَّةِ الرِّئاسة، يا متألِّه اللُّبِّ بابيلا الشّهيد في الكهنة. فوجَدْتَ بالعمل المصعد إلى النّظر وجاهدتَ عن الإيمان حتّى الدَّم، فتشفّع إلى المسيحِ الإله في خلاصِ نفوسنا.
قنداق ميلاد السَّيِّدَة (باللَّحن الرَّابِع)
إنَّ يُواكِيمَ وحنَّةَ قد أُطْلِقَا من عارِ ﭐلعُقْر، وآدمَ وحوَّاءَ قد أُعْتِقَا من فسادِ ﭐلموت، بمولِدِكِ ﭐلمُقَدَّس أيَّتها الطَّاهِرَة، فله أيضًا يُعَيِّدُ شعبُكِ إذ قد تَخلَّصَ من وَصْمَةِ الزَّلَّات، صارِخًا نحوكِ، العاقِرُ تَلِدُ والدةَ ﭐلإله ﭐلمُغَذِّيَة حياتَنَا.
الرّسالة(1 كو 15: 1-11)
رتّلوا لإلهنا رتّلوا
يا جميع الأممِ صفِّقوا بالأيادي
يا إخوةُ، أعرّفكُم بالإنجيل الَّذي
بشَّرتُكم بهِ وقَبِلتُموهُ وأنتمُ قائمون فيهِ وبهِ أيضًا تخلُصون بأيّ كلامٍ بشَّرتُكم بهِ إن كنتم تذكرون إِلَّا أن تكونوا قد آمنتُم باطلًا. فإنّي قد سلَّمتُ إليكم أوّلًا ما تَسلَّمتُهُ هو أنَّ المسيحَ مات من أجل خطايانا على ما في الكُتب وأنَّهُ قُبِرَ وأنَّهُ قامَ في اليوم الثّالثِ على ما في الكُتب، وأنَّهُ تراءى لِصَفا ثمَّ للاثني عَشَر، ثمَّ تراءَى لأكثر من خمسِ مئةِ أخٍ دفعَةً واحدةً أكثرهُم باقٍ إلى الآنَ وبعضُهم قد رقدوا، ثمَّ تَراءَى ليعقوبَ ثمَّ لجميع الرُّسُل، وآخِرَ الكلِّ تَراءى لي أنا أيضًا كأنَّهُ للسِّقْطِ، لأنّي أنا أصغَرُ الرُّسُل ولستُ أهلًا لأنْ أُسمَّى رسولًا لأنّي اضطهدتُ كنيسة الله، لكنّي بنعمةِ الله أنا ما أنا. ونعمتُهُ المُعطاةُ لي لم تكن باطلةً بل تعبتُ أكثرَ من جميعِهِم. ولكن لا أنا بل نعمةُ اللهِ الَّتي معي. فسَواءٌ أنا أم أولئك هكذا نكرِزُ وهكذا آمنتُم.
الإنجيل(متّى 19: 16-24)(متّى 12)
في ذلك الزَّمان دنا إلى يسوعَ شابٌّ وجثا لهُ قائلًا: أيُّها المعلّمُ الصّالحُ ماذا أعملُ مِنَ الصَّلاح لتكونَ لي الحياةُ الأبديّة؟ فقال لهُ: لماذا تدعوني صالحًا وما صالحٌ إلَّا واحدٌ وهُوَ الله. ولكِنْ إنْ كنت تريد أن تدخُلَ الحياةَ فاحْفَظِ الوصايا. فقال لهُ: أيَّةَ وصايا. قال يسوع: لا تقتُلْ. لا تزنِ. لا تسرِقْ. لا تشَهدْ بالزُّور. أكرِم أباك وأمَّك. أحبِبْ قريبَك كنفسِك. قال لهُ الشّابُّ: كلُّ هذا قد حفِظتُهُ منذ صبائي فماذا يَنقْصُنُي بعدُ؟ قال لهُ يسوعُ: إنْ كنتَ تريد أنْ تكونَ كامِلًا فاذْهبْ وبِعْ كلَّ شيءٍ لك وأعْطِهِ للمساكينِ فيكونَ لك كنزٌ في السَّماءِ وتعالَ اتبعني. فلَّما سمع الشَّابُّ هذا الكلامَ مضى حزينًا لأنَّهُ كان ذا مالٍ كثير. فقال يسوع لتلاميذه: الحقَّ أقول لكم إنَّهُ يعسُرُ على الغَنيّ دخولُ ملكوتِ السَّماوت. وأيضًا أقول لكم: إنَّ مُرورَ الجَمَلِ من ثِقبِ الإبرةِ لأسْهلُ من دخولِ غنيٍّ ملكوتَ السَّماوات.
فلَّما سمع تلاميذهُ بُهتوا جدًّا وقالوا من يستطيع إذَن أن يخلُصَ؟! فنظر يسوعُ إليهم وقال لهم أمَّا عندَ النّاسِ فلا يُستطاع هذا وأمَّا عند اللهِ فكلُّ شيءٍ مُستطاع.
حول الإنجيل
شاب حافظٌ الوصايا ساعيًا إلى الكمال سائلًا باحثًا عن كمالٍ فوق الوصايا، بادر بسؤالٍ عن الحياة الأبديّة نحو الرَّبّ يسوع، وسؤاله مقرونًا بمَديحٍ اجتماعيّ وبلقبٍ كان يُطلق على معلّمي النّاموس.
الاشتهاء الرّوحيّ دفع شاب للبحث عنه فكان عند المسيح الجواب الأوّل، ”لماذا تدعوني صالحًا“ ولم يقل له لا تَدْعُني صالحًا، وهو الرَّبُّ الَّذي قال عن نفسه: "أنا هو الرّاعي الصّالح" (يوحنّا ١٠).
المسيح لا ينخدع بإطلاق الألقاب عليه، والَّتي يقولها اللّسان، إنّما يطلب شيئًا واحدًا وهو الإيمان. الرَّبُّ يطلب إيمانَ القلب من هذا الشّاب وهذا الإيمان أساسه الاعتراف بأنّ المسيح هو الله وأنّه مصدر الصَّلاح وهو الصَّالح وحده (من منكم يبكِّتني على خطيئة). والشّاب يطلب الكمال الَّذي فوق النّاموس ولا أحد فوق النّاموس إلّا يسوع المسيح وحده. فالمسيح مشى مع الشَّاب السّاعي إلى الكمال خطوة بخطوة .
الخطوة الأولى، أن يقوده إلى الإيمان به أنّه هو الله وبدون هذا الإيمان لا يمكنه أن يحفظ الوصايا ولا يمكنه أن يرث ملكوت الله أو الحياة الأبديّة، ولكن إذا حفظها فكيف يصير كاملًا؟!... أمّا الخطوة الثّانية، هي التَّخَلّي عن الثّقة بما يملكه وأن يضع ثقته بالمسيح، لذلك قال له الرَّبُّ: "اذهب وبِعْ كلَّ ما تملك ووزِّع على الفقراء ..." .
أن يبيع الشَّخص ما يملك أي أن يفقد اهتمامه بالأشياء الَّتي يعتمد عليها ويفقد ثقته بها ويوجِّه هذه الثِّقة نحو المسيح لأنَّ المسيح قال للشاب: "... وتعال اتبعني". باتّباع المسيح يأخذ العطاءُ بُعْدَه الحقيقيّ، لأنّك حينئذ تعطي بلا خوف من المستقبل لأن المسيح يدبِّر المستقبل وهو الضَّمانة وليس الثّروة .
بهذا يدخل الغني ملكوت السّماوات إذا استطاع الدُّخول من الباب الضَّيِّق. لتحقيق هذا الأمر يلزمه التَّواضع والشُّعور بعدم قيمة أمواله مندفعًا بنعمةِ الله دفعًا كاملًا. هكذا يتحقّق في الإنسان القول ”كلّ شيء مُستطاع عند الله“ لأنّ نعمة الله تُفرِّغ قلب الغنيّ من حبّ أموالِهِ وتُلْهِبُ قلبَه بحبِّ الكنز السّماوي.
مضى الشّاب حزينًا لأنّه وُضِع أمام تحدٍّ صعب جدًّا بين محبّة الأموال والكمال، فمُغريات العالم كبيرة ومن الصُّعوبة أن تتركها إلّا إذا أتَتْكَ المساعدة مِنَ الرَّبّ بقوَّة نعمته، فلا يمكنك أن تجمع بين حُبِّ الله وحُبِّ المال، ”فمحبّة المال هي عداوةٌ لله وأصل كلِّ الشّرور“ ولا يمكن أن ننتصر عليها ونرتقي نحو الحياة الرُّوحيّة ونعيش فوق النَّاموس إلّا بنعمةِ المَسيح ”لأنّ النّاموس بموسى أُعْطِيَ أمّا النِّعمة والحَقّ بالمَسيح حَصَلا“ .
قَبْلَمَا صَوَّرْتُكَ...عَرَفْتُكَ، وَقَبْلَمَا خَرَجْتَ... قَدَّسْتُكَ..!!
"قَبْلَمَا صَوَّرْتُكَ فِي الْبَطْنِ عَرَفْتُكَ، وَقَبْلَمَا خَرَجْتَ مِنَ الرَّحِمِ قَدَّسْتُكَ. جَعَلْتُكَ نَبِيًّا لِلشُّعُوبِ" (إر1: 5).
هذه الكلام كان موجّهًا من الرَّبّ مباشرةً لولدٍ من العهد القديم، نبيّ يدعى إرمياء. الرَّبّ دخل في حوارٍ شخصيّ مع إرمياء، وإرمياء يتحدّث معه بصداقة ودالّة قويّة. لقد حصل إرمياء على عطيّة خاصّة من الرَّبّ: "قَبْلَمَا صَوَّرْتُكَ فِي الْبَطْنِ عَرَفْتُكَ، وَقَبْلَمَا خَرَجْتَ مِنَ الرَّحِمِ قَدَّسْتُكَ"(إر1: 5)، إذ إنّنا لا نجد مثل هذا الكلام موجّهًا لأيّ نبيّ من أنبياء العهد القديم. هذا الاختيار لم يأتِ لصفاته النّبويّة أو الرَّسوليّة، ولكن لسيرته وأمانته، ولنقاوة قلبه الَّتي سيكون عليها أمام الله وأمام الشَّعب كلّه.
كلمة "صوَّرتُك" تذكّرنا بخلق الله للإنسان، حين خلقه على صورته: "وَقَال اللهُ: نَعْمَلُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا" (تك1: 26). يستخدم الرَّبّ العبارة نفسها ليذكّرنا أنّه هو الخالق دائمًا وهو مُعْتنٍ بهذه الصُّورة، وخاصّة بجبلته الَّتي سيكونها "إرمياء" في بطن أمّه. لم يكتفِ فقط بهذا، ولكنّه عرفه أيضًا، أي عرف قلبه وعرف سيرته. وكلمة "عرف" في المفهوم الكتابيّ، أي أقام معه علاقة شخصيّة، علاقة محبّة. والرَّبّ الإله يعرف خاصَّته، يــــــــــــعــــــــــــرف الأبرار: "يَعْلَمُ الرَّبّ الَّذِينَ هُمْ لَهُ" (2 تي 2: 19). أمّا الَّذين لا يعرفهم، أي الَّذين يرفضونه ولا يريدونه مخلّصًا لهم، غير المستحقّين أن يكونوا له أولادًا، فيقول لهم: "إِنِّي لَمْ أَعْرِفْكُمْ قَطُّ! اذْهَبُوا عَنِّي يَا فَاعِلِي الإِثْمِ!" (مت7: 23).
وما هو رائع وفريد في حالة إرمياء، أنّه قبل خروجه من رحم أمّه تقدّس. ولكن كلّ الأنبياء والقدّيسين تقدّسوا بعد ولادتهم، أي بعد مسيرة طويلة في هذه الحياة. تقدَّس قبل ولادته، لأنّ له خدمةً عظيمة عليه إتمامها في حياته. لقد جعله نبيًّا ليس لشعبه فقط "اليهود"، بل لكلِّ الشُّعوب. وهذا ما أخاف إرمياء عندما سمع الكلام مباشرةً من الرَّبّ، فقال له: "آهِ، يَا سَيِّدُ الرَّبّ، إِنِّي لاَ أَعْرِفُ أَنْ أَتَكَلَّمَ لأَنِّي وَلَدٌ" (إر1: 6). هذه المعرفة الَّتي مِنَ الله لإرمياء جعلته يكون قريبًا منه دومًا ليعلّمه ماذا يقول ومتى يتكلّم. هي الَّتي أعطته القوّة للوقوف تُجاه أيّ شخصٍ وأيّ اضطهادٍ أو مخاطر. هي الَّتي أعطته تلك اللَّمسة الحانية لفمه لكي ينطق ويتكلَّم من دون خوفٍ أو وجل بكلام الرَّبّ في وجه أيّ إنسانٍ يُرسله الرَّبّ إليه.
لم يكن أمام إرمياء خيارًا في الرَّفض أو القبول، ليس لأنّه بلا حرّيّة، إطلاقًا، بل لأنّه أمام محبّة الرَّبّ الفائقة له لا يستطيع رفض أي طلبٍ منه، حتّى ولو كلّفه ذلك حياته. الرَّبّ عرف استعداده، وعرف محبَّته. والخدمة الَّتي أوكلها إليه تتطلّب أن يكون راسخًا، مؤمنًا، شجاعًا، نشيطًا، حكيمًا، مُحبًّا، حنونًا. هذه كلّها استقاها من الَّذي قدّسه قبل خروجه من الرَّحم. رغم أنّه كانً ولدًا بالجسد، لكنّه أعطاه نعمة ليكون حكيمًا، وناقلًا للكلمة النّبويّة بكلِّ شجاعة وبدون تردُّد.
"عرف" الله إرمياء، "قدّسه"، "أقامه" للخدمة. سرّ هذا الامتياز الفريد، هو أنّ إرمياء كان يرمز للسّيّد المسيح، فإنّه قبل تجسِّده منذ الأزل "يعرف" الآب ابنه الوحيد، وقد قدّسه بمعنى دفع إليه العمل الخلاصيّ من جهة الإنسان. لم يكن السّيّد المسيح بحاجة إلى تقديس خارجيّ، لأنّه "هو القدُّوس"، لكن بمعنى أنّه قدّم ذاته للآب طاعةً ليهبنا الخلاص، لهذا قال: "لأجلهم أقَدِّس أنا ذاتي ليكونوا هم مقدَّسين في الحقّ" (يو 17: 19).