نشرة كنيستي
نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.
الأحد 17 شباط 2019
العدد 7
أحد الفرّيسيّ والعشّار
اللّحن 5 - الإيوثينا 5
أعياد الأسبوع: *17: العظيم في الشّهداء ثاوذورُس التّيرونيّ *18: لاون بابا رومية، أغابيتوس السّينائيّ *19: الرّسول أرخيبّس، البارّة فيلوثاي الأثينائيّة *20: لاون أسقف قطاني، الأب بيساريون *21: البارّ تيموثاوس، أفستاثيوس الأنطاكيّ *22: وجود عظام الشّهداء في أماكن أفجانيوس *23: بوليكربس أسقف أزمير، القدّيسة غورغوني أخت القدّيس غريغوريوس اللّاهوتيّ.
كلمة الراعي
بدء الجهاد الرّوحيّ
الانسحاق والتّواضع
خَتَمَ الرَّبُّ يسوع المسيح مثل الفرّيسيّ والعشّار بقوله: "كلَّ من رفعَ نفسَه اتَّضَع، ومن وضعَ نفسَه ارتفَع" (لوقا 18: 14). هذه قاعدة الحياة الرّوحيّة الأساسيّة، أي الاتِّضاع. لا يقوم جهاد روحيّ ولا يستقيم ما لم يبدأ بطأطأة (إحناء) النّفس ويكتمل بالتّواضع. الإنسان يغصب نفسه على الاتّضاع أوَّلًا لأنَّ طينة البشر صارت ميَّالة للتّكبُّر بسبب حبُّ الأنا الَّذي تملَّك فيها منذ السُّقوط ... الكبرياء شرّ وهوى والتّواضع بِرٌّ وفضيلة. الأوّل يأتي منّا والثّاني من الله، لذلك من يضع نفسه يُرفَع ...
قبل التّواضع الانسحاق وقبل التَّهشُّم الكبرياء. الانسحاق يأتي من ألم إدراك بشاعة الخطيئة واحتقار الأنا السّاقط وإدانة الذّات، والكبرياء يأتي من تلذُّذ الإنسان بخطيئته وانتفاخ الأنا وإدانة الآخرين ...
ما هو الشّرّ يا تُرى؟! إنّه ليس، بالضّرورة، القتل والسّرقة والزّنى الفعليّين إلخ. بل كلّ نيَّة أو فكر أو قول أو عمل نتيجتها تشويه صورة الله في الإنسان، بكلمات أخرى هي أفعال إشباع هُوَّةِ الأنا الجحيميَّة الّتي في قلب كيان الإنسان ... لذلك، المؤمن يحيا حربًا بكلّ ما للكلمة من معنى تدور رحاها في كيانه الدَّاخليّ المحجوب عن أعين النّاس وحتّى، في أحيان كثيرة، عن عينَي قلب الإنسان نفسه لأنّه يتعاطى ذاته جسدًا ولذَّةً ...
* * *
"وَلكِنْ لاِنْسِحَاقِ نُفُوسِنَا وَتَوَاضُعِ أَرْوَاحِنَا اقْبَلْنَا" (سفر دانيال). لا يريد الله أن يسحقنا لنتواضع ولكن حالة الإنسان المرضيَّة هذا هو دواؤها الّذي يشفي الإنسان من كبريائه وأنانيّته. ولا يأتي الانسحاق ما لم تَسْحَقِ الخطيئةُ الإنسانَ أي ما لم تطحنه، وتدقّه أشدّ الدّقِّ حتّى تحوّله إلى دقائق صغيرة، ليدرك أنّ ثمرة الخطيئة تمحق (تهلك وتبيد) الطّبيعة الحقيقيّة للنّفس البشريّة الّتي هي حرَّة لأنّها على صورة الله. من أدرك هذه الدَّرَكات (أي المنازل أو المواقع السُّفلى) من التّحطُّم بسبب تشامخ الكبرياء الوضيعة يتواضع بالرّوح أي يعترف بلاشيئيّته أمام الله ولا يعود يعتبر ذاته مصدر وجودها الخاص أو مصدرًا لآخَرين لأنّ الخراب الّذي تسبّبه الخطيئة، المتملِّكة بالهوى على الإنسان، يعيده إلى نقطة بدء الوجود حيث "كَانَتِ الأَرْضُ خَرِبَةً وَخَالِيَةً، وَعَلَى وَجْهِ الْغَمْرِ ظُلْمَةٌ، وَرُوحُ اللهِ يَرِفُّ عَلَى وَجْهِ الْمِيَاهِ ..." (تكوين 1: 2). حينها يصير عمل الله لتجديد الإنسان ممكنًا، لأنّ الله يخلقه كلّه من جديد بحسب مشيئة الرَّبّ الخالق بالكلمة الإلهيّة المنطوقة بالرّوح القدس.
* * *
الفرّيسيّ كانت لديه كلمة الله ولكنه استخدمها ليستكبر على البشر المرضى بالخطيئة كالعشّار، واعتبر ذاته قادرًا أن يدين خطايا النّاس لأنّه متمسِّكٌ بحرف الشّريعة، مع أنّ الكتب المقدّسة تقول: "حَيٌّ أَنَا، يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ، إِنِّي لاَ أُسَرُّ بِمَوْتِ الشِّرِّيرِ، بَلْ بِأَنْ يَرْجعَ الشِّرِّيرُ عَنْ طَرِيقِهِ وَيَحْيَا ..." (سفر حزقيال 33: 11). الكبرياء يحرِّف روح الشّريعة بما يناسب انتفاخ الإنسان واعتداده بنفسه ليزيده من التّمسُّك باعتبار نفسه محور كلّ شيء، وبالتّالي يوصله إلى عدم الحِسّ وموت الضّمير، أي عدم القدرة على سماع أنّات الرّحمة الإلهيّة تجاه البشر.
العشّار، في المُقابل، كان يعيش ضدّ الشّريعة، لا بل كان يحتال على الشّريعة في ضميره ليلتذّ بجمع مال الظّلم والسُّلْطَة. لكن، خطيئته وآلام النّاس الّتي كان يسبّبها، أصوات المقهورين والموجوعين من استبداده بهم وبلقمة عيشهم كان يتردَّد صداها في لاوعيه حتّى كادت أن تقتله ... هؤلاء كان ينخسون (يطعنون) ضميره كلّ الوقت، وهذا ما دفعه أخيرًا، وبسبب صورة الله الّتي فيه وإن كانت حُجِبَت باللّذّة، هذا دفعه للعودة إلى الله لأنّ ألم قلبه صار أكثر من لذّته. هكذا، لا يتوب الإنسان، للأسف، ما لم تصل به خطيئته إلى الألم الأكبر ... الألم جعل العشّار يندم ويتوب لأنّ ألمه كان ظاهرًا في آلام الّذين ظلمهم. أمّا الفرّيسي، فقد مات حسّ الألم عنده لأنّ الضمير مات بسبب كثرة المديح الذّاتيّ والخارجيّ وقياس رضى الله عليه بحكم النّاس ودقّة وحرفيّة تطبيقه لأحكام الشّريعة والمغالاة فيها.
جوهر شريعة الله المحبّة والرّحمة والحنان، وهذه لا تُحدُّ بأحكام لأنّها عمل روح الرَّبّ في الإنسان. وغاية ناموس الرَّبّ التّشبّه بالله في طاعة الكلمة الإلهيّة بالرّوح لنصير على صورة يسوع المسيح ابن الله "الَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ لأَجْلِنَا، لِكَيْ يَفْدِيَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ، وَيُطَهِّرَ لِنَفْسِهِ شَعْبًا خَاصًّا غَيُورًا فِي أَعْمَال حَسَنَةٍ ..." (تيطس 2: 14).
من يحبّ يتواضع ومن يتواضع هو محبّ، وما عدا ذلك تعب بلا ثمر ...
ومن استطاع أن يقبل فليقبل ...
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما
طروباريّة القيامة (باللَّحن الخامس)
لِنُسَبِّحْ نحنُ المُؤمنينَ ونسجُدْ للكلمة. المساوي للآبِ والرُّوحِ في الأزليّةِ وعدمِ الابتداء. المولودِ مَنَ العذراء لِخلاصِنا. لأنّه سُرَّ أن يَعلُوَ بالجسدِ على الصليب. ويحتمِلَ الموت. ويُنهِضَ الموتى بقيامتِهِ المجيدة.
قنداق الفرّيسيّ والعَشّار(باللَّحن الرّابع)
لِنَهرُبَنَّ من كَلامِ الفِرّيسيّ المُتشامِخ، ونتعلَّم تواضُعَ العَشَّار، هاتِفينَ بالتَّنَهُّداتِ إلى المُخَلِّص: اِرحمنا أيُّها الحَسَنُ المُصالَـحَةِ وحدَك.
الرّسالة (2 تي 3: 10– 15)
صلُّوا وأَوْفُوا الرَّبَّ إلهَنا
الله معروفٌ في أرضِ يهوذا
يا ولدي تيموثاوس، إنّك قد استقرأت تعليمي وسيرتي وقصدي وإيماني وأناتي ومحبّتي وصبري واضطهاداتي وآلامي، وما أصابني في أَنطاكية وإيقونية ولِستَرة، وأيّةَ اضطهاداتٍ احتملتُ، وقد أنقذني الرَّبُّ مِن جميعها. وجميعُ الّذين يريدون أن يعيشوا بالتّقوى في المسيح يسوعَ يُضطهَدون. أمّا الأشرارُ والمُغوُونَ من النّاس فيزدادون شرًّا مُضِلِّين وضالّين.. فاستمِرَّ أنتَ على ما تعلّمتَه وأيقنتَ به، مِمَّن تعلّمتَ، وأنّك منذ الطّفوليّةِ تعرف الكتبَ المقدّسة القادرةَ أن تُصَيِّرَك حكيمًا للخلاص بالإيمان بالمسيح يسوع.
الإنجيل )لو 18: 10- 14)
قالَ الرَّبُّ هذا المَثَل: إنسانان صَعِدا إلى الهيكلِ ليُصَلِّيَا، أحدُهُما فرِّيسيٌّ والآخَرُ عشَّار. فكانَ الفرِّيسيُّ واقِفًا يُصَلِّي في نفسِه هكذا: اللَّهم أَشْكُرُكَ لأنِّي لستُ كسائرِ النَّاسِ الخَطَفَةِ الظَّالِمين الفاسِقِين، ولا مثل هذا العشَّار. فإنِّي أصومُ في الأسبوعِ مرَّتَين وأُعَشِّرُ كلَّ ما هو لي. أمَّا العَشَّار فوقفَ عن بُعْدٍ ولم يُرِدْ أن يرفعَ عينيه إلى السَّماء، بل كان يَقرَعُ صدرَه قائلاً: "اللَّهم ارحمني أنا الخاطِئ". أقولُ لكم إنَّ هذا نَزَلَ إلى بيتِه مُبَرَّراً دون ذاك، لأنَّ كلَّ من رفعَ نفسَه اتَّضَع، ومن وضعَ نفسَه ارتفَع.
حول الإنجيل
إنّ هذا الزّمن خشوعيٍّ بامتياز، يرجع فيه الإنسان إلى نفسه وإلى الله ليقوم خليقةً جديدةً إن تاب توبةً صادقة. إنّه زمن تطّهير الذّات وصرخة "يا الله ارحمني أنا عبدك الخاطئ" الّتي لفظها العشّار من كلّ أعماقه ومن كلّ كيانه محاولًا أن يوصل طلب الرّحمة والتّوبة إلى الرَّبِّ يسوع، وحقًّا استجاب الرَّبّ يسوع إذ أرسله مبرّرًا عكس صلاة الفرّيسيّ الّذي نشبهه في أوقات لا بأس بها من حياتنا.
اليوم، يا أحِبَّة، تبدأ فترة التّريودي. كلمة "تريودي" يونانيّة وتعني ثلاث أودية أي ثلاث تسابيح، فكلمة "أودية" ωδή تعني "تسبيح"، وهي من فعل αείδώ "أغنّي".
يتميّز التّريودي بثلاث طروباريّات ترتّل في صلاة السّحر كلّ آحاد الصّوم بعد تلاوة المزمور الخمسين بعد إنجيل السّحر. هذه الطّروباريّات تشكّل وحدة ليتورجيّة مُترابِطَة نستَوْحي مَعناها من المزمور الخمسين المَعروف بمزمور التّوبة، وهي:
١- "افتح لي أبواب التّوبة..."
۲- "سهّلي لي مَناهج الخلاص..."
٣- "إذا تصوّرتُ كثرة أفعالي الرّديئة..."
وسنكسار اليوم الأوّل "يا مُبدِعَ كلّ شيء سماويًّا كان أم أرضيًّا إِقْبَلْ أمّا من الملائكة فتسبيحًا ثالوثيًّا، وأمّا من البشر فتريوديون شريفًا خشوعيًّا". يطلب من السّيّد أن يقبل هذه الصّلوات التّحضيريّة للتّوبة الصّادقة.
لمّا سُئِل القدّيس مكاريوس: أيّ الفضائل أعظم؟ أجاب: "كما أنّ التكّبر أسقط ملاكًا من علوّه وأسقط الإنسان الأوّل، كذلك الاتّضاع يرفع صاحبه من الأعماق"، ويقول القدّيس إسحق السّوريّ عن التّواضع "الّذي يتنّهد كلّ يوم على نفسه بسبب خطاياه، خيرٌ من أن يقيم الموتى. والّذي استحقّ أن يبصر خطاياه، خير له من أن يبصر ملائكة".
لقد أرادت الكنيسة من خلال اختيارها هذا الإنجيل من هذه الفترة، أن تحثّنا على مشابهة العشّار بالتوبة، وأن نقترب من الله مقرّين ومعترفين بضعفنا، وظلمتنا وكثرة خطايانا بروح انسحاق وتوبة وتواضع لكي تكون مقبولة ومردودة ببركات أضعاف جهدنا الّذي ليس شيئا مقابل محبّة وطول أناة الرَّبّ يسوع.
ولعلّنا نأخذ من صلاة الشّيخ يوسف الهدوئيّ- في إحدى رسائله وهو يتكلّم عن محبّة الرَّبّ يسوع وعن التّواضع والتّوبة اللّذين يجب أن يتحلّى بهما المؤمن- صلاة توبة وشكر نرفعها في هذه الفترة فنقول: "يا يسوعي العذب المحبوب، لو كنت ابذل دمي لأجلك فلن يكون في طاقتي أن أشكرك بما فيه الكفاية.
أيّها السّيّد ربّنا العذب يسوع المسيح أرسل إليّ نعمتك وأعتقني من قيود الخطيئة، أنر ظلمة نفسي لأدرك رحمتك ومحبّتك الفائقة وأشكرك عن استحقاق، يا مخلّصي العذب المُستأهِل كلّ المحبّة والشّكران.
أنا أدرك ربّاه ثقل آثامي لكنّني عارف أيضًا برحمتك التّي لا تقاس، فإنّي أُعايِن ظلمة نفسي العادمة الإحساس، لكنَّ لي رجاءً صالحًا وأنتظر استنارتك الإلهيّة والخلاص من أهوائي الكريهة المدمّرة، بشفاعة أمّك العذبة، سيّدتنا والدة الإله الدّائمة البتوليّة مريم، مع جميع القدّيسين، آمين".
التّوبة ومعموديّة الدّموع
الخطيئة، بحسب المفهوم المسيحيّ، هي قوّة تسيطر على الإنسان، تعمل بعكس مشيئة الله وعكس الإيمان. فهي من جهة قوّة الشّرّ الّتي تسيطر على الإنسان، ومن جهة أخرى هي العمل ضد المشيئة الإلهّية. الخطيئة، في البدء، لم تكن موجودة، فكلّ شيء كان حسنًا جدًّا (تك 1: 31). لكن بسقوط الإنسان الأوّل ظهرت الخطيئة في العالم. أي أنّها حالة مَرَضيّة فاسِدَة ومُميتة تشمل كلّ البشر. فالموت والفساد صارا كنتيجة للخطيئة، فالابتعاد عن ينبوع الخير والصّلاح والحياة يسبّب طبيعيًّا الموت والشّرّ. لكنّ الرَّبّ الّذي دبّر خلاصنا بتجسّده الإلهيّ، عاد فولدنا ولادة ثانية، وألبسنا الإنسان الجديد، ماحيًا بذلك كلّ خطايانا، ومُعطيًا إيّانا إمكانيّة العودة إليه وأن تتقدّم إليه بتوبة. أي “أن الدّرجة الأولى في العودة إلى الله” هي التّوبة، الّتي صارت ولادةً متجدّدة يُعطينا الله إيّاها بعد المعموديّة. “الأسرار هي أبواب النّعمة والخلاص، ورحمة الله الّتي لا تُحَدّ وصلاحه غير المُتناهي هما اللّذان فتحاها لندخلها” (القدّيس نيقولا كاباسيلاس). إنّ تدبير الله الخلاصيّ وسرّ محبّته الفائقة يتجلّيان في الأسرار، والكنيسة الأرثوذكسيّة تقرّ، بأنّ كلّ عمل في الرّوح القدس، يُنَمّي ويَبني الجماعة، هو سرّ مُقدّس. وانطلاقًا من حاجة الإنسان للإشتراك بسرّ المسيح، تأتي الأسرار “بمثابة أبواب السّماء”، الّتي إذا ما ولجناها، ننتقل إلى المسيح معشقنا. فالمعموديّة تلدنا، والإفخارستيّا تغذّينا وتتحدنا بالرَّبّ، والميرون يُعطينا التّثبيت وعربون الرّوح، في حين يأتي سرّ التّوبة والاعتراف ليُصالح الإنسان مع الله من جديد من بعد المعموديّة، إذا ما ابتعد عنه، وأمّا بقيّة الأسرار فتخدم الهدف نفسه ألا وهو الاتّحاد بالرَّبّ.
واذ وضعنا نصب أعيننا سرّ التّوبة والاعتراف، لأهميّة هذا السّرّ في العودة المُستمرّة نحو الله، وبالتّالي الاتّحاد به. فهو في التّعريف لغويًّا، metaniaالتّغيير الكيانيّ والتّحوّل الأوّل للمؤمن نحو الله، بحيث يصبح الله هو المحور في حياته. وهذا حتّى يتحقّق، لا بدّ أن يكون مبنيًّا على أُسس قويّة واستعداد صحيح لتقبّل النّعمة الإلهيّة.
استنادا على الكتاب المقدّس، نجد أحداثًا لأشخاص يعترفون بخطاياهم، ويقدّمون توبة صادقة. فعلى سبيل المِثال، يعترف لامَكُ لامْرَأَتَيه بأنّه قد قتل رجلًا (تك 4: 23)، وداود يعترف لناثان النّبيّ بإثمه الّذي اقترفه بحقّ أوريا (2 صم 12: 13)، ويصرخ إلى الرَّبّ: قد خطئت إلى الرَّبّ” (2 صم11: 2) "تعبتُ في تنهُّدي، أُحِمُّ في كلّ ليلة سريري، بدموعي أُعَوِّم فراشي" هكذا تجذّرت التّوبة في العهد القديم، حتّى باتت نقطة جوهريّة في بشارة الأنبياء وحياة الجماعة التّقيّة. فقد فهم الأنبياء التّوبة على أنّها الطّريق الوحيد لعودة الوِصال مع الله. وفي مُستهلّ العهد الجديد أوّل دعوة توجّه إلى الشّعب، كانت “توبوا فقد اقترب ملكوت السّماوات” (مت 4: 17) هذه الصّرخة أطلقها في البدء من كان يهدي كثيرين من بني إسرائيل إلى الله ربّهم (لو 1: 16 – 17)، أي يوحنّا المعمدان، والمسيح ذاته يكرّر عبارة يوحنّا المعمدان، فيدعو النّاس إلى التّوبة لأنّ ملكوت الله بات وَشيك التّحقّق، لكنّه “لا يكتفي فقط بإعلان اقتراب ملكوت الله، بل يحقّقه بقدرته”. فالمسيح إنّما جاء ليدعو الخاطئين إلى التّوبة (لو 5: 23)، ولكي يردّ الخروف الضّال إلى الحَظيرة (لو15: 4 – 7).
فالكنيسة الرّسوليّة لا تقوم على الكتاب المُقدّس وحده بل على التّقليد، أو التّسليم، كما نعلم من (1 كو15: 3-5, 2تس3: 6 , في4: 9 … ). وقد أكّد آباء الكنيسة أنّ الرّوح القدس الّذي يعمل في الكنيسة هو الّذي يصفح ويبرر المُعترف، وما الكهنة سوى خدّام للسّرّ المُقَدّس. أدركت الكنيسة منذ عهدها الأوّل، أهميّة سرّ التّوبة والإعتراف. فقد استلمته من الرّسل الّذين بدورهم استلموه من الله مباشرة، حين نفخ فيهم قائلًا: “إقبلوا الرّوح القدس. من غفرتم خطاياه تُغفر له، ومن أمسكتم خطاياه أُمسِكَت” (يو20: 22 – 32). فالآباء الرّسوليّون حثّوا على الاعتراف بالخطايا، وضرورة الاعتراف قبل المناولة، وطلب الغفران عن كلّ الخطايا والسّقطات. ونلاحظ في سير الآباء القدّيسين ما يسمّى بتوبة الدّموع فإنّ دموع التّوبة تغسل، إنّها معموديّة ثانية بعد المعموديّة بالماء والرّوح. "مجاري المياه لوقت الحريق، ومجاري الدّموع لزمن التّجربة"، يقول القدّيس أفرام السّريانيّ. لقد لخّص الآباء القدّيسون كلّ نشاط الرّاهب في كلمة "حياة البكاء" (الأسقف أغناطيوس بريانتشانينوف). ولقد طوّب يسوع الباكين لأنّهم سيضحكون. هذه هي قوّة الدّموع.