نشرة كنيستي
نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.
أُنقُر على الملف لتصفُّح نشرة كنيستي
كما يمكن قراءة النص الكامل في المقطع أدناه.
أحد الأجداد القدّيسين
العدد 50
الأحد 15 كانون الأوّل 2024
اللّحن 8- الإيوثينا 3
أعياد الأسبوع: *15: الشَّهيد في الكهنة آلافثاريوس وأمّه أنثينا *16: النَّبيّ حجِّي، القدّيسة ثيوفاني الملكة العجائبيّة *17: النّبيّ دانيال والفتية الثّلاثة القدّيسين، القدّيس ديونيسيوس أسقف آيينا *18: الشّهيد سابستيانوس ورفقته، القدِّيس موذستُس أسقُف أورشليم *19: الشّهيد بونيفاتيوس، القدّيسة أغليّة الرُّوميَّة *20: تقدمة عيد الميلاد، القدِّيس إغناطيوس المتوشّح بالله أسقف أنطاكية مدينة الله العظمى *21: السَّبت قبل الميلاد، الشّهيدة يولياني وثاميستو كلاوس.
كلمة الرّاعي
مُشتَهى الأمَم
"لأَنَّهُ هكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ: هِيَ مَرَّةٌ، بَعْدَ قَلِيلٍ، فَأُزَلْزِلُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَالْبَحْرَ وَالْيَابِسَةَ،
وَأُزَلْزِلُ كُلَّ الأُمَمِ. وَيَأْتِي مُشْتَهَى كُلِّ الأُمَمِ، فَأَمْلأُ هذَا الْبَيْتَ مَجْدًا، قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ" (حجي 2: 6 و7)
اِعتقد اليهود أنَّ المخلَّص – المسِّيَّا يأتي من نسلهم لأجلهم فقط وليجعلهم يسودون الأمم والعالم، وما زالوا. لكنَّ، الكتاب المقدَّس الَّذي يؤمنون به يقول عكس ذلك. فالمخلِّص هو "مُشتَهى كلّ الأمم" وليس مُشتَهى اليهود فقط، والمسّيّا هو مخلّص لكلِّ العالم وليس لفئةٍ منَ النَّاس (يو 4: 42). ففي هذا الأحد تُذَكِّرنا الكنيسة المقدَّسة بكلّ الَّذين انتظروا خلاص الله والَّذين تَلَقَّوْا وُعودَهُ مِن آدم إلى يسوع المسيح. فظهور الله بالجسد في عالمه لم يكن أمرًا مُفاجِئًا بل كان أمرًا ينتظره اليَهود والأمَم. فإنَّ الله "لَمْ يَتْرُكْ نَفْسَهُ بِلاَ شَاهِدٍ، وَهُوَ يَفْعَلُ خَيْرًا: يُعْطِينَا مِنَ السَّمَاءِ أَمْطَارًا وَأَزْمِنَةً مُثْمِرَةً، وَيَمْلأُ قُلُوبَنَا طَعَامًا وَسُرُورًا" (أع 14: 17). وفي هذا الإطار، يقول القدِّيس يوستينوس الفيلسوف: "المسيح هو بِكْرُ الخليقة، وهو كلمةُ الله الَّذي اشترك فيه الجنس البشريّ بأسره. فكلّ مَنْ عاشَ عيشةً تتّفِقُ والكلمة كان مَسيحيًا ولو دُعيَ وثنيًّا، كما جرى بين اليونانيّين أمثال سقراط وهيراقليطس وغيرهما".
* * *
هذا الأحد تُذَكِّرنا فيه الكنيسة المقدَّسَة بشموليّة عيد ميلاد ربِّنا يسوع المسيح بالجسد من البتول مريم، فهو يأتي لأجل كلّ عالمه هذا العالم الَّذي عرفه بطُرُقٍ مُختلفة. فبعد سقوط الإنسان ووعد الله بالخلاص، كشف الله للآباء والأنبياء في العهد القديم تحقيق الوَعد وتدبير التَّجسُّد والفِداء. النبوؤات تملأ العهد القديم وهي تُخبرُنا عن مَجيء المخَلِّص. الشُّعوب الأخرى أي الأمم الوَثنيَّة، أيضًا، انتظرتْ الإله الحقيقيّ، وما مجيء المجوس مِن بلاد فارس إلّا تأكيدٌ لهذا الأمر، وكذلك نجد فلاسفة متعطِّشين إلى الحكمة والسَّعادة والفرح، وبهذا فقد تكلَّمُوا عن المخلِّص واشتهوه دون أن يُسمّوه أو يعرفوه. وقد أبدع بولس الرَّسول بالرُّوح القدس حين لم يتردّد وسط آريوس باغوس عندما تكلَّم مع شُعَرائِها وفلاسفتها مُستَعِينًا بعبارة مقتبسة من الشَّاعر أبيمينيدس الَّذي نَصَح بإقامة تمثال لإلهٍ مَجهول ليُطبِّقَها على المسيح الإله بِقَوْلِه لهم: "لأَنَّنَا بِهِ نَحْيَا وَنَتَحَرَّكُ وَنُوجَدُ. كَمَا قَالَ بَعْضُ شُعَرَائِكُمْ أَيْضًا: لأَنَّنَا أَيْضًا ذُرِّيَّتُهُ" (أع ١٧: ٢٨). ونجد عند فيلسوف من القرن الأوّل قبل الميلاد وهو أثينادوروس عبارات سامية جدًّا كما في قوله: "إنَّ روحًا قدُّوسًا يقوم في أعماقنا. هو مُراقِب وحارِس لأفكارنا الصَّالحة والشِّرّيرة"، وهو نفسه يقول أيضًا في مَكانٍ آخَر: "اِعرَف أنّك إذا لم تجسر أن تطلب شيئًا من الله بحضور كلّ النَّاس فإنّك لم تتحرّر من أهوائك بعد. عِشْ مع البشر كأنّ الله يَراك وتكلّم مع الله كأنّ البشر يَسمَعُونَك".
* * *
أيُّها الأحِبَّة، الإنسان مَخلُوق على صورَةِ الله ولذلك فهو يَتوقُ إلى خالِقِه بشَكلٍ فطريّ لأنّه يبحث عن نفسه ونفسه لا يمكن أن يجدها خارج الله. لذلك، الصَّلاح من طبيعة الإنسان الأولى، ومهما تشوَّهَتْ هذه الطَّبيعة يبقى فيها أثر لصلاح الله، وهكذا إذا سمع الإنسان لضميره الطَّبيعيّ يَقودُه إلى الخالق لأنّ الجمال جوهر الإنسان وقمّة الجمال الحبّ النّقيّ. في داخله يتوق الإنسان إلى هذا الحبّ وإلى هذا الجمال، وإذا تجاوب مع ذبذبات الرُّوح القدس الَّتي يُرسِلُها الله إلى قلبه فسوف تقوده إلى المسيح-اللُّوغوس، وهذا ما يُخبِرنا عنه القدِّيس يوستينوس الشَّهيد: "المسيح كلمة الله يُنير العقول البشريّة منذ البَدء بزَرْعٍ إلهيٍّ، وأخصبتْ هذه العقول منه عند النَّاس الطَّيِّبين بذورًا (Sperma)، فعَرفتْ بعض الحقائق ولكنّ اهتداءَها لم يكن كاملًا".
البشريّة ما زالت تنتظر المخلّص، وأصحاب النَّوايا الصَّالِحَة في طلب الله تتحرَّك في قلوبهم وأذهانهم بذرة الكلمة لتثمر فيهم سعيًا إلى معرفة الله الحقّ. أمّا نحن الَّذين عرفنا الكلمة مُتَجَسِّدًا ودخلنا في سِرِّ الوَحدة معه فعلينا واجب البشارة باسمه لأجل خلاص العالم من الشَّرِّ والظُّلم والتَّسلُّط والألم عبر تجسيدنا لحضوره بالمحبّة الفاعلة في أعمال الخير والعَدْل والخدمة والتَّعزية، ليتذوّق العالم حلاوة يسوع ولذّة العيش معه فيطلبه عن معرفة. دورنا كمسيحيّين أن نحمل هذا الرّجاء الَّذي يجذب النّاس ويجعلهم يسألون عن "سِرِّ الرَّجاء الذّي فينا" فيكتشفوا الرَّبَّ ويَطلبُونَه (1 بط 3: 15).
مِنْ هُنا، في أحد الأجداد تذكُر الكنيسة كلُّ الَّذين كانوا قبل الشَّريعة وبعد الشَّريعة، وهذا ما نراه عند لوقا الإنجيليّ في نسب الرّبّ يسوع المسيح إذ يرجع من يوسف لآدم فيشمل المسكونة جمعاء، لتقول لنا أنَّ ميلاد المسيح هو لخلاص العالم أجمع الَّذي كان يشتهي أنْ يَراه ويعرفه...
ومن له أُذنان للسَّمع فليسمع...
+ أنطونيوس
متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما
طروباريّة القيامة (بِاللَّحْنِ الثّامن)
انْحَدَرْتَ مِنَ العُلوِّ يا مُتحنِّن. وقَبِلتَ الدَّفنَ ذا الثّلاثةِ الأيّام. لكي تُعتقَنا مِنَ الآلام، فيا حياتَنا وقيامتَنا يا رَبُّ المجدُ لك.
طروباريّة الشَّهيد في الكهنة آلافثاريوس (باللَّحن الرَّابع)
صِرتَ مُشابِهًا للرُّسلِ في أحوالِهم، وخليفةً في كراسيهم، فوجدتَ بالعَمَلِ المـِرقاةَ إلى الثّاوريّا، أيّها اللّاهِجُ بالله. لأجل ذلكَ تتبَّعْتَ كَلِمَةَ الحَقِّ باستقامةٍ، وجاهَدْتَ عن الإيمان حتّى الدَّم، أيُّها الشَّهيد في الكهنة آلافثاريوس. فتشفّع إلى المسيح الإله أن يُخلِّصَ نفوسَنا.
طروباريّة الأجداد (باللّحن الثّاني)
لقد زكّيتَ بالإيمان الآباءَ القُدَماءَ، وبِهِم سبقتَ فخطبتَ البيعة الّتي من الأمم. فلْيفتخرِ القدّيسون بالمجد، لأنْ مِن زَرْعهم أَيْنَعَ ثمرٌ حَسيبٌ، وهو الّتي ولدَتْك بغير زرعٍ. فبتوسُّلاتهم أيُّها المسيح الإله ارحمنا.
قنداق تقدمة الميلاد (باللّحن الثّالث)
اليومَ العذراءُ تأتي إلى المـَغارة لِتَلِدَ الكلمةَ الَّذي قبل الدُّهور وِلادةً لا تُفسَّر ولا يُنطق بها. فافرحي أيّتها المـَسكونةُ إذا سَمِعْتِ، ومَجِّدي مع الملائكةِ والرُّعاة الَّذي سَيَظْهَرُ بمشيئته طفلًا جديدًا، وهو إلهُنا قبلَ الدُّهور.
الرّسالة (كول 3: 4- 11)
مُبَارَكٌ أَنْتَ يَا رَبُّ إِلَهَ آبَائِنَا.
لَأَنَّكَ عَدْلٌ فِي كُلِّ مَا صَنَعْتَ بِنَا.
يَا إِخْوَةُ، مَتَى ظَهَرَ الـمَسِيحُ الَّذِي هُوَ حَيَاتُنَا، فَأَنْتُمْ أَيْضًا تَظْهَرُونَ حِينَئِذٍ مَعَهُ فِي الـمَجْدِ. فَأَمِيتُوا أَعْضَاءَكُمُ الَّتِي عَلَى الأَرْضِ الزِّنَى وَالنَّجَاسَةَ وَالـهَوَى وَالشَّهْوَةَ الرَّدِيئَةَ، وَالطَّمَعَ الَّذِي هُوَ عِبادَةُ وَثَنٍ. لِأَنَّهُ لِأَجْلِ هَذِهِ يَأْتِي غَضَبُ اللهِ عَلَى أَبْنَاءِ العِصْيَانِ. وَفِي هَذِهِ أَنْتُمْ أَيْضًا سَلَكْتُمْ حِينًا إِذْ كُنْتُمْ عَائِشِينَ فِيهَا. أَمَّا الآنَ فَأَنْتُمْ أَيْضًا اطْرَحُوا الكُلَّ، الغَضَبَ وَالسَّخْطَ وَالـخُبْثَ وَالتَّجْدِيفَ وَالكَلامَ القَبِيحَ مِنْ أَفْوَاهِكُمْ، وَلا يَكْذِبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، بَلِ اخْلَعُوا الإِنْسَانَ العَتِيقَ مَعَ أَعْمَالِهِ، وَالْبَسُوا الإِنْسَانَ الجَدِيدَ الَّذِي يَتَجَدَّدُ لِلْمَعْرِفَةِ عَلَى صُورَةِ خَالِقِهِ، حَيْثُ لَيْسَ يُونَانِيٌّ وَلا يَهُودِيٌّ، لا خِتَانٌ وَلا قَلَفٌ، لا بَرْبَرِيٌّ وَلا إِسْكِيثِيٌّ، لا عَبْدٌ وَلا حُرٌّ، بَلِ الـمَسِيحُ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ وَفِي الجَمِيعِ.
الإنجيل (لو 14: 16- 24) (لوقا 11)
قَالَ الرَّبُّ هَذَا الـمَثَلَ: إِنْسَانٌ صَنَعَ عَشَاءً عَظِيمًا وَدَعَا كَثِيرِينَ. فَأَرْسَلَ عَبْدَهُ فِي سَاعَةِ العَشَاءِ يَقُولُ لِلْمَدْعُوِّينَ: تَعَالَوْا فَإِنَّ كُلَّ شَيْءٍ قَدْ أُعِدَّ. فَطَفِقَ كُلُّهُمْ وَاحِدٌ فَوَاحِدٌ يَسْتَعْفُونَ. فَقَالَ لَهُ الأَوَّلُ: قَدِ اشْتَرَيْتُ حَقْلاً، وَلا بُدَّ لِي أَنْ أَخْرُجَ وَأَنْظُرَهُ، فَأَسْأَلُكَ أَنْ تُعْفِيَنِي. وَقَالَ الآخَرُ: قَدِ اشْتَرَيْتُ خَمْسَةَ فَدَادِينِ بَقَرٍ، وَأَنَا مَاضٍ لِأُجَرِّبَـهَا، فَأَسْأَلُكَ أَنْ تُعْفِيَنِي. وَقَالَ الآَخَرُ: قَدْ تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً، فَلِذَلِكَ لا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَجِيءَ. فَأَتَى العَبْدُ وَأَخْبَرَ سَيِّدَهُ بِذَلِكَ. فَحِينَئِذٍ غَضِبَ رَبُّ البَيْتِ وَقَالَ لِعَبْدِهِ: أُخْرُجْ سَرِيعًا إِلَى شَوَارِعِ الـمَدِينَةِ وَأَزِقَّتِهَا، وَأَدْخِلِ الـمَسَاكِينَ وَالجُدْعَ وَالعُمْيَانَ وَالعُرْجَ إِلَى هَهُنَا. فَقَالَ العَبْدُ: يَا سَيِّدُ، قَدْ قُضِيَ مَا أَمَرْتَ بِهِ، وَيَبْقَى أَيْضًا مَحَلٌّ. فَقَالَ السَّيِّدُ: أُخْرُجْ إِلَى الطُّرُقِ وَالأَسْيِجَةِ وَاضْطُرَّهُمْ إِلَى الدُّخُولِ حَتَّى يَمْتَلِئَ بَيْتِي. فَإِنِّي أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ لا يَذُوقُ عَشَائِي أَحَدٌ مِنْ أُولَئِكَ الرِّجَالِ الـمَدْعُوِّينَ، لِأَنَّ الـمَدْعُوِّينَ كَثِيرُونَ، وَالـمُخْتَارِينَ قَلِيلُونَ.
حول الرِّسالة
"فأميتوا أعضاءَكُم الَّتي على الأرض: الزِّنَى، النَّجاسَة، الهوَى، الشَّهْوَة الرَّديَّة، الطَّمَع الَّذي هو عِبادَةُ الأوثان". ليس المقصود بعبارة "أميتوا أعضاءكم الَّتي على الأرض" أن يؤذي الإنسان جسده، فالمشكلة ليست في الجسد كما تدّعي الفلسفة بقَوْلِها الجسد هو حَبْسٌ للرُّوح، ولا المشكلة بالرُّوح، فكلاهما صالحٌ لأنَّهما مِنْ خَلْقِ الله، والله خَلَقَ كلَّ شيء "حَسَن"، لكن تكمن المشكلة في إرادتي الحُـرَّة الَّتي تحرِّك الطَّبيعة البشريَّة المكوَّنَة من نَفْسٍ وجسد، هذه هي الَّتي يجب أن أنقِّيها. وعليه، يقول الكتاب أنَّ "الطَّمع هو عبادة الأوثان" ممّا يعني أنّ عبادة الأوثان ليست فقط بعبادة التِّمثال لكن كلّ رغبة في داخلي ليس الله محورها وموضوعها، هي عبادة أوثان لأنَّها تحلّ محل الله؛ الطَّمع يحرِّك المجد الباطل، لأنَّ الطَّمّاع لا يَرْضَى بما لديه، لا يَرْضَى بوضعه الاجتماعيّ أو بعائلته فيَشْكُر الله على ما لديه لكنَّه يَسعى إلى المزيد من المال من المناصب من الشُّهرة، في الأخير هو يبحث عن مجد العالم لكي يُرضي ذاته؛ يقول الذَّهبيّ الفم: "الطَّمع كالخميرة الفاسدة الَّتي تُفْسِدُ العَجين كلَّه". ويُعطي مثلًا عن زكَّا العشَّار الَّذي قال للرَّبّ أنَّه يُعطي نصف أمواله للمساكين وإنْ ظَلَم أحدًا يردّ أربعة أضعاف فأجاب الرَّبّ: "اليوم حصل الخلاص لهذا البيت"، ويعّلق الذهبي الفم أنه خير لك ألّا تعطي من أن تعطي قليلًا لأنَّك بهذا تُهين المسيح، هذا يعني ألّا تُعْطي من الفُتات الَّذي في الأصل أنت لا تحتاجه؛ ويُضيف مثلًا آخَر وهو تقدمة قايين للرَّبّ الَّذي، بنظره، لم يظلم أحدًا لكن الله رفض تقدمته بشدَّة لأنَّه كان طمّاعًا. فالطَّمّاع لا يرى النَّاس ناسًا ولا السَّماء سماءً إنَّما يرى كلَّ شيءٍ مالًا وشهرة ويقيس كلّ شيء بالمال والأمجاد العالميّة. وأخيرًا انظروا إلى يهوذا الإسخريوطيّ الَّذي كان مُعجَبًا بالمسيح ولكنّ طمعه أوصله ليُسلم المسيح الَّذي يحبُّه؛ طمعه أعمى قلبه وجعله يسرق الأموال من المسيح. فلنحترز من الطَّمع لأنَّه يُعمي بصيرتَنا، ولنشكر الله على كلِّ شيءٍ وفي كلِّ الأوقات، في الحزن والشِّدَّة وفي الفرح حتّى لا نكون في الوقت الَّذي نظنُّ فيه أنَّنا نفعل خيرًا، نكون كيهوذا نسلّم المسيح ونبتعد عنه أو بمعنى آخر نسلِّم أنفسنا للشَّيطان. آمين.
الصَّلاة النّقيَّة
الصَّلاة هي العبور إلى حضرة الله، وهي صلة بين الانسان والله، وفيها نجد راحة للرُّوح. ولكن حتّى في أوقات الصَّلاة، يُعاني الكثيرون من تشتُّتِ الأفكار الَّتي تُلْهيهم عن التَّركيز على الحديث مع الله. هذه المعركة الدَّاخليَّة بين القلب والعقل هي ما يُعيش صراعها المؤمن باستمرار، ولكنَّ الآباء القدِّيسين قدَّمُوا نَصائح ثمينة لمعالجة هذه الحالة.
القدِّيس اسحق السُّوريّ تحدَّث عن أهميَّة النَّقاء في الصَّلاة فقال: "الصَّلاة الحقيقيَّة هي الَّتي يُصَلِّيها القلب النَّقيّ، أمَّا القلب المشوَّش فحتّى لو نطق ألف صلاة، فلا تصل إلى الله".
أمَّا القدِّيس مكاريوس الكبير فيقول: "إنَّه عندما تأتي الأفكار المشتِّتة أثناء الصَّلاة، يجب على الإنسان أن يتذكَّر الرَّبَّ يسوع المسيح ويطلب منه أن يساعده في التَّغلُّب عليها. الصَّلاة هي سلاح المؤمن، والأفكار المشتِّتة هي أسلحة العَدُوّ، لكنَّ الله يُعطِينا القُوَّة للثَّبات". هنا يعكس القدِّيس مكاريوس فكرته حول الصِّراع الرُّوحيّ: الصَّلاة ليست مُجرَّد رفع كلمات إلى السَّماء، بل هي جهاد روحيّ ضِدَّ القِوَى الشِّرِّيرة الَّتي تحاول تشويش العلاقة بين الإنسان والله.
وقد يُشَجِّعُنا القدِّيس يوحنَّا الذَّهبيّ الفم على أن نتعلَّم كيف نُواجِه هذا التَّشتُّتْ قائلًا: "عندما تجد قلبك مشتَّتًا أثناء الصَّلاة، لا تيأس ولا تترُك الصَّلاة، بل استمرّ في الدُّعاء والتَّضرُّع إلى الله، فحتّى ولو كانت أفكارك بعيدة عن الله، فإنَّه لن يخذلك أبدًا".
ويأتي القدِّيس سلوان الآثوسيّ ليُعطينا سبعة دروس من أجلِ صلاةٍ نقيَّةٍ: كُنْ مُتواضعًا؛ مارِس ضبطَ النَّفْس؛ اعتَرِف بِصِدق؛ كُنْ مُطيعًا؛ كُنْ شاكِرًا على كُلِّ شيء؛ لا تحتَقِر قريبَك؛ أَحبِبْ عدُوَّك.
في النِّهاية، نَجِدُ أنَّ الصَّلاةَ النَّقِيَّة هي حالَة قَلْبِيَّة، وصِراع مُستَمِرّ مع تشتُّتْ الأفكار وحَرب ضدَّ الأهواء الدَّاخليَّة فينا. يُوصِي الآباء بِضَرُورَة التَّركيز على الله نفسه وعدم الاهتمام بالأفكار الَّتي تُزْعج الصَّلاة. يقول القدِّيس سيرافيم ساروف: "الصَّلاة النَّقِيَّة هي الَّتي لا توجد فيها إلَّا كلمة واحدة، هي اسم الله، وهذا الإسم يملأ القلب ويطهِّره". لذا، مِنْ خلال طلب نِعْمَةِ الله والتَّوْبَة المستَمِرَّة، يُمْكِن للمؤمن أنْ يُحَرِّرَ قلْبَهُ من الشَّوائب ويدخل في صلاةٍ عَميقَةٍ ومُقَدَّسَة.