نشرة كنيستي
نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.
الأحد 10 تمّوز 2022
العدد 28
الأحد (4) بعد العنصرة
اللّحن 3- الإيوثينا 4
أعياد الأسبوع: *10:القدّيس يوسف الدّمشقيّ، الشُّهداء ال /45/ المستشهدون في أرمينية *11: آفيميّة المعظَّمة في الشّهيدات (لمّا ثبّتت حدّ الإيمان)، القدّيس صفروني الآثوسيّ، القدِّيسة الملكة أولغا المُعادِلَة الرُّسُل *12: القدّيس باييسيوس الآثوسيّ، الشّهيدين بروكلس وإيلاريوس، القدّيسة فيرونيكي نازفة الدَّمّ *13: تذكار جامع لجبرائيل رئيس الملائكة، القدّيس استفانوس السّاباوي، الشّهيدة مريم، البارّة سارة *14: تذكار الرَّسُول أكيلا، القدّيس نيقوديموس الآثوسيّ، القدّيس يوسف رئيس أساقفة تسالونيك *15: الشّهيدين كيريكس وأمّه يولّيطة *16: الشّهيد في الكهنة أثينوجانس ورفقته.
كلمة الرّاعي
القداسة في زمن تشريع النّجاسة
”فإنَّكم كما جعَلتُم أعضاءَكم عبيدًا للنَّجاسَةِ
والإثم للإثم، كذلك الآن اجعَلوا أعضاءكم
عبيدًا للبِرّ للقداسة“ (رو 6: 19)
في القرن العشرين، بين نهاية السّتّينيّات وبداية السّبعينيّات، بدأت حركات التّحرّر الجنسيّ بالانطلاق والتّطوّر لنشر فكرة ”الثّورة الجنسيّة“. خلال السّتّينيّات بدأت تحدث تغييرات واسعة في المجتمعات الغربيّة بخصوص نظرة المجتمع إلى الجنس، هَدَفَت إلى ”تحرير“ الجنس من الضّوابط الدّينيّة والاجتماعيّة والأخلاقيّة السّائدة، وأدّت إلى وضع تشريعات جديدة بشأن السّلوك الجنسيّ للفرد في المجتمع، لا يزال العديد منها يُعمل به في الوقت الحاضر.
أدّت هذه الحركات والتّشريعات إلى أمور وتوجّهات شتَّى عند المجتمعات، منها: حرّيّة الجنس سواءً كان المرء متزوجًا أم لا، منع الحمل وحبوب منع الحمل، العري العلني، حركة تحرير المثليّين الجنسيّين، الدّعوة إلى تحرير الرّغبة بالإجهاض، حقوق المرأة وحركة تحرير المرأة أو الأنثويّة وغيرها... تمّ استغلال ما شُرِّع ورُوِّج له من حرّيّات جنسيّة جديدة عبر استثمارات ماليّة وتجاريّة كبيرة تتطلّع إلى استغلال المجتمع للرّبح المادّيّ ونشر الأفكار الّتي تتعلّق بالثّورة الجنسيّة، وتَمَثَّلَ هذا ببدء ظهور المواد الإباحيَّة والفاضحة علنًا. ومع التّطوّر في وسائل الإعلام ووسائل التّواصل الاجتماعيّ صار كلّ ما يتعلّق بالجنس مُسْتَغَلًّا للمزيد من التّجارة والرّبح المادّيّ، والأهمّ والأخطر أنّه صار سهل التّسويق والإيصال عبر استعمال التّكنولوجيا الحديثة كالهواتف الذَّكيّة وغيرها...
* * *
ما يسمَّى بالـ ”حضارة“، اليوم، مبنيَّة على ما يُسمَّى ”حقوق الإنسان“ الَّتي تُشرِّع الفساد والإفساد الأخلاقيَّين بإزاء الوصيّة الإلهيَّة، فهي في الكثير من بلدان العالم أَدْخَلَتْ تشريعات جديدة تسمح بالمثليّة الجنسيّة وبالإجهاض وبالعلاقات الجنسيّة خارج الزَّواج ... هذا كلّه انطلاقًا من الاعتقاد بحقّ الإنسان أن يفعل ما يريد إذ إنّ كلّ شيء نسبيّ، وهو له أن يحيا كما يريد على المستوى الشّخصيّ ولا أحد له أية سلطة عليه بما يختصّ بخياراته الفرديَّة إذ إنّ جسده ملك له... هكذا يتحجَّجون...
هذه التَّشريعات ليست سوى عودة الإنسان إلى الوثنيَّة والخضوع للطّبيعة الحيوانيّة الغرائزيَّة الّتي لم يكن لها ضوابط قبل النّاموس. الشّيطان مُسَيْطِر على العالم بالشّهوة (المال والسّلطة والجنس)، والطّامة الكبرى الّتي تدمِّر الإنسانيّة باسم الإنسانيّة هي إباحة خضوع الإنسان للشّهوة المُفسِدة لصورة الله الّتي فيه باسم حرّيّة إرادته، هذه الشّهوة الّتي يستطيع الإنسان أن ”يتفنَّن“ بتضخيمها والتّلذُّذ بها إلى درجات لا حدود لها إلّا انهيار الإنسان بسبب كونه كائنًا عقليًّا ذا مشيئة حرَّة. فالله لا يقمع حرّيّة الإنسان حتّى ولو سلك في الضَّلال أو الخطيئة أو الجريمة لأنّه سيَدينه على ما يقوم به انطلاقًا من إيمانه الَّتي يعتنقه ومن حقّ المحبَّة ودم ابن الله المبذول لأجل حياة العالم، ولأنّه بالحبّ يريدنا أن نأتي إليه إذ عرفناه. الإنسان يُحدِّد علاقته مع الله، إمّا هو إنسان يريد أن يكون ابنًا وبالتّالي يعود بالتّوبة إلى أبيه المحبّ والشّفوق، وإمّا أن يصير تحت حكم النّاموس كونه يَحيا رافضًا مسيح الرّبّ...
* * *
أيّها الأحبَّة، لا تنغرُّوا أو تنبهروا بأنوار ”الحقِّ الكاذب“ الّتي يسوِّقها إبليس باسم العقل والحرّيّة والرّقيّ والتّحضُّر والثّقافة... هذه أنوار كاذبة ما لم تحمل في طيّاتها نور الحقّ ونور المسيح الَّذي كشف لنا من هو الله ومن هو الإنسان الحقَّ. كلّ ما يُبعِدُ الإنسان عمّا كشفه لنا الرّبّ يسوع المسيح حول ماهيّة الإنسان هو من الشّرّير، ولا خلطة بين النُّور والظّلمة، والنُّور يَدين الظّلمة، و ”هَذِهِ هِيَ الدَّيْنُونَةُ: إِنَّ النُّورَ قَدْ جَاءَ إِلَى الْعَالَمِ، وَأَحَبَّ النَّاسُ الظُّلْمَةَ أَكْثَرَ مِنَ النُّورِ، لأَنَّ أَعْمَالَهُمْ كَانَتْ شِرِّيرَةً“ (يو 3: 19).
لا تصدّقوهم للَّذين يوهمونكم باسم الحرّيّة أنّ شرائع النّجاسة هي من حقوق الإنسان، كلّ ما يشوّه صورة الله في الإنسان ويحقِّرها نجسٌ هو. الجنس نجس ما لم يكن في البركة والنّعمة بالحبّ المكرَّس من الله في الزّواج بين الرّجل والمرأة، إذ حينها فقط يصير وصالًا للوَحدة ولغة للتّخاطب في الرّوح بين الحبيبَين وعطاءً مشتركًا للذّات في إطار مسيرة حياة متكاملة في السّرّاء والضّرّاء نحو القداسة.
كلّ علاقة بين أصحاب الجنس الواحد هي خطيئة مدمِّرة لكيان الإنسان الرّوحيّ والنّفسيّ والجسديّ لأنّها تكشف خضوع الإنسان للغريزة والشّيطان المفسِد العقول والنّفوس والمدمِّر القلوب. من ثلاثين سنة وما قبل كان علم النّفس، بعامّة، يعتبر المثليّين مرضى نفسيّين، أمّا اليوم فقد انقلبت المفاهيم في علم النّفس انطلاقًا من القوانين الَّتي تشرّع كلّ فساد، فاليوم بواسطة التّربية في المدارس يُدخلون إلى أذهان الأطفال مبدأ الانحراف إذ يعطون من لم تتعدّى أعمارهم عدد أصابع اليدين حرّية اختيار جنسهم والعيش بمقتضى ذلك دون أن يكون للأهل حقّ التّعاطي في هذا الشّأن تحت طائلة المحاسبة القانونيّة، وهذه هي ”مسخرة الحرّيّة الكبرى“ في ما يُسمّى بـ ”العالم المتحضِّر“ الَّذي بقوننته لهكذا شذوذ صار عالَمًا مُحتَضِّرًا ولا بدّ من التّأديب لا بل العقاب الإلهيّ كما حدث لصَدُوم وعمورة، والغد لناظره لقريب... ما لم ترجع البشريّة بالتّوبة إلى حقيقتها المكتوبة في طبيعتها بالخلق وإلى صورة الله فيها إذ الكلّ مدعوّ للقداسة...
ومن له أذنان للسّمع فليسمع...
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما
طروباريّة القيامة (باللَّحن الثّالث)
لِتفرحِ السَّماوِيَّات. ولتَبتَهِجِ الأرضِيَّات. لأنَّ الرَّبَّ صنعَ عِزًّا بساعِدهِ. ووَطِئَ المَوْتَ بالمَوْت. وصارَ بِكرَ الأموات. وأنقذَنا من جَوفِ الجحيم. ومَنَحَ العالمَ الرَّحمةَ العُظمى.
طروباريّة القدّيس يوسف الدِّمشقيّ (اللّحن الخامس)
هَلُمُّوا يا مؤمنون نُكَرِّم شَهِيدَ المسيح كاهِنَ بيعة أنطاكية يوسف الدِّمشقيّ، الَّذي عَمَّد أرضّ الشَّام وكنائسَها وشعبَها بكلمة الكلمة ودمائه مع رفقته، لأنَّه منذ الطّفوليّة اصطبغ بِنُورِ الإنجيل، فَعَمِلَ وعَلَّمَ وحَفظَ كنيسة المسيح وخرافَها. فيا يوسفَ الدِّمشقيّ كن لنا قُدَوَةً وحافِظًا وشفيعًا حارًّا لدى المُخَلِّص.
القنداق (باللَّحن الثّاني)
يا شفيعَةَ المَسيحيّين غَيْرَ الخازية، الوَسيطةَ لدى الخالِق غيْرَ المرْدودةِ، لا تُعْرضي عَنْ أصواتِ طلباتِنا نَحْنُ الخَطأة، بَلْ تدارَكينا بالمعونةِ بما أنَّكِ صالِحَة، نَحنُ الصّارخينَ اليكِ بإيمان: بادِري إلى الشَّفاعَةِ وأسَرعي في الطّلْبَةِ يا والدَة الإلهِ، المُتشَفِّعَةَ دائمًا بمكرِّميك.
الرّسالة (رو 6: 18-23)
رتّلوا لإلهِنا رتّلوا
يا جميع الأممِ صفّقوا بالأيادي
يا إخوةُ، بعد أن أُعتِقُتم من الخطيئَةِ أصبحتُم عبيدًا للبِرّ. أقولُ كلامًا بشريًّا من أجل ضُعفِ أجسادِكم. فإنَّكم كما جعَلتُم أعضاءَكم عبيدًا للنَّجاسَةِ والإثم للإثم، كذلك الآن اجعَلوا أعضاءكم عبيدًا للبِرّ للقداسة. لأنَّكم حينَ كنتُم عبيدًا للخطيئة كنتمُ أحرارًا منَ البِرّ. فأيُّ ثمرٍ حصَل لكم من الأمورِ الَّتي تستَحيُونَ منها الآن. فإنَّما عاقِبَتُها الموت. وأمَّا الآن، فإذ قد أُعتِقُتم من الخطيئَةِ واستُعبِدتُم لله، فإنَّ لكم ثمرَكم للقداسة. والعاقبِةُ هي الحياةُ الأبديَّة، لأنَّ أجرةَ الخطيئةِ موتٌ وموهبةُ اللهِ حياةٌ أبديَّةٌ في المسيحِ يسوعَ ربِّنا.
الإنجيل(متّى 8: 8-13)(متّى 4)
في ذلك الزَّمان دخل يسوع كفرناحومَ، فدنا إليهِ قائدُ مئَةٍ وطلب إليهِ قائلًا: يا ربُّ، إنَّ فتايَ مُلقىً في البيت مُخلَّعٌ يُعَذَّبُ بعذابٍ شديد. فقال لهُ يسوع: أنا آتي وأَشْفيهِ. فأجاب قائدُ المئَةِ قائلًا: يا ربُّ، لستُ مستحِقًّا أن تدخُلَ تحتَ سقفي، ولكنْ قُلْ كلِمةً لا غيرَ فيبرأ فتايَ، فانّي أنا إنسانٌ تحت سلطانٍ ولي جندٌ تحت يديَّ، أقولُ لهذا اذهبْ فيذهَبُ وللآخر ائْتِ فيأتي ولعَبْدي اِعمَل هذا فيعْملُ. فلَّما سمع يسوعُ تعجَّب وقال للذَّين يتبعونهُ: الحقَّ أقول لكم، إنّي لم أجِدْ إيمانًا بمقدارِ هذا ولا في إسرائيل. أقول لكم إنَّ كثيرين سيأتون مِنَ المشارقِ والمغاربِ ويتَّكِئون معَ ابراهيمَ واسحقَ ويعقوبَ في ملكوت السّماوات، وأمَّا بنو الملكوت فيُلقَون في الظُّلمةٍ البَرَّانيَّةِ. هناك يكونُ البكاءُ وصَريفُ الأسنان، ثمَّ قال يسوع لقائد المئَة: اذهَبْ وليكُنْ لك كما آمنتَ. فشُفيَ فتاهُ في تلك السَّاعة.
حول الإنجيل
قائد المئة والإيمان (مت 8، 5-13)
تكشف حادثة قائد المئة وطلبه شفاء غلامه دور الإيمان في مسيرة الخلاص بالمسيح. ما هو هذا الإيمان بالمسيح؟ الإيمان هو أوّلًا الثّقة المُطلَقَة والرَّجاء المُطْلَق بالإله الّذي نؤمن به. وهذا يجعل الإيمان مسيرة تسليم، يُخلي فيها الإنسان ذاته عبر التَّخَلّي عن مشيئته وقناعاته الخاصّة، ويُسلّمها لله، بروح خالية من أيّ شكّ أو تذمّر. وهذا ليس بالأمر البسيط؛ إنّه يحتاج إلى إنكار كبير لمحبّة الإنسان لذاته ومقاومة كلّ ما يُغذّي أنانيّته. الله هو الّذي بادر أوّلًا وأخلى ذاته، هو الّذي أعطى ذاته أوّلًا، كشف ذاته للإنسان، ليستطيع الإنسان، بواسطة الإيمان، بلوغ معرفة الله، ومعاينة ما كشفه عن سرّ وجوده وسرّ خليقته. الله يعطي ذاته للَّذين يفتحون قلوبهم بالإيمان ويستجيبوا بإرادتهم الحُرَّة لعطائه. الَّذين يُهْمِلون الإيمان ويتَّكِلون على أعمالهم الحسنة فقط ليعرفوا الله، معرفة هؤلاء ستكون بشريّة كُلِّيًّا، يعرفون شيئًا عقليًّا عن الله لكن لن يعرفوه أبدًا كما هو. أعمال الإنسان ليس لها مكافأة في ذاتها، إنّما تكتسب معنى وتُرضي الله حين تُتمّم عبر قوّة الإيمان المستقيم به.
كلّ شيء يبدأ بالإيمان، الإيمان الحَقيقيّ يكشف الله وكلّ الحقيقة المتعلّقة به. هذه حقيقة لا يمكن أن يفهمها إلّا الَّذي امتلك هذا النَّوْع من الإيمان. يقول الذَّهبيّ الفَمْ، "حتّى الإيمان ليس منّا بل هو عطيّة من الله، هو الَّذي يضع الإيمان فينا ويعطينا نقطة الانطلاق". نقطة الانطلاق هي على صعيدَيْن: الصَّعيد الشَّخصيّ، من خلال جهاد الإنسان للنّموّ في الإيمان؛ فالإيمان يحتاج إلى نسك وتعب روحيّ ليتنقّى من أنانيّة الإنسان. والصَّعيد العام، من خلال تجسيد هذا الإيمان مع إخوتنا البشر الآخَرين. فالله أخذ طبيعتنا، وربط نفسه في الإنجيل بكلّ واحد من أفراد جنسنا.
الإيمان الكامل ليس فقط أن يؤمن الإنسان بحقيقة وجود الله، وأنّه قادر على كلِّ شيء، إنّما أنّه قادر أن يطلب منه كلّ شيء. هكذا كان إيمان قائد المئة. فثقته، وهو غريب عن كلّ المواعيد الخلاصيّة الَّتي وعد الله بها شعبه، بأنّ المسيح بكلمة فقط يُبرأ الغلام، أظهر إيمانًا عظيمًا لم يجده المسيح لدى الشَّعب العبرانيّ نفسه؛ هذا الشَّعب الّذي تعب معه ابن الله هذه القرون الكثيرة، من ابراهيم إلى زمنه، مع عجائب وآيات لا تُحصى صنعها معه، ورغم هذا لم يلقَ منه سوى الشَّكّ والارتداد.
لقد اعتبر قائد المئة نفسه إنسان سيّد، كالمسيح الرَّبّ والسّيّد، حين قال له: "لأنّي أنا أيضًا إنسان تحت سلطان، لي جند تحت يديّ..."، لكنّه كان يعرف نفسه جيّدًا أنّه سيّد بسلطة أرضيّة، ليست قادرة أن تحرّك أيّ شيء يفوق محدوديّة الطّبيعة المخلوقة؛ وعرف أيضًا أنّ المسيح بسلطان إلهيّ، أسمى بكثير من سلطانه البشريّ، قادر أن يشفي ويُقيم الموتى ويُحرّك الجبال.
إنّ قوّة إيمان قائد المئة بالمسيح، كان سرّها التّواضع. التّواضع هو الّذي جعله يعتبر نفسه غير مستحقّ لدخول المسيح حتّى إلى بيته الأرضيّ. تواضعه هو الَّذي دفعه لينكر ذاته ومكانته وسلطته، ويأتي كعبد يطلب الشِّفاء لغلام في بيته. التّواضع هو الّذي حرّك إنسانيّته ومَلأها نعمة خاصّة لتتألّم مع المتألّمين وتفرح مع الفرحين. نقاوة الإيمان تحتاج إلى تواضع كثير. التّواضع يُعطي الإيمان قوّة لتتّكل النَّفْس على الله أكثر من ذاتها. التّواضع يجعل تسليم الإنسان لذاته بالإيمان للمسيح مُستطاعًا. مثل هذا يستحقّ أن يدخل المسيح لا فقط إلى بيته الماديّ، إنّما أيضًا إلى بيت قلبه الدّاخليّ، ويُحقّق له حاجاته من الخيرات الماديّة والرُّوحيّة.
كثيرون من الغرباء عن المواعيد والأنبياء، سيأتون من المَشارق والمَغارب، ويتّكئون مع ابراهيم واسحق ويعقوب في ملكوت السّماوات، وهم الّذين آمنوا بالمسيح من كلّ الأمم، تاركين كابراهيم، اعتقاداتهم القديمة ومشيئتهم، إلى أرض تدرّ نعمةً وحقًّا. كلّ إنسان في هذا العالم له إيمانه الخاصّ. وأكثرهم، رغم أنّهم في الظّاهر يؤمنون بإله ما، لكن في الواقع يؤمنون بذواتهم، بأفكارهم وحكمتهم ومشيئتهم. هناك إيمان واحد حقيقيّ في هذا العالم، وحده يمكن أن يُسمّى إيمانًا، يقود إلى الإله الحقيقيّ الواحد، إيمان ابن الله. إيمان يُنكر فيه الإنسان حكمته ومشيئته بالكليّة، ليصل إلى الحقيقة الوحيدة، الَّتي حصرًا تنزل من عند الله. النَّفْس الَّتي لا تحمل إيمانًا مُعطى لها من فوق، هي نفس إيمانها ليس بإيمان؛ أو بالأحرى إيمانًا يولد ميّتًا، لأنّها تستمدّه من ذاتها ومن قناعاتها العقليّة ومن روح هذا العالم، الّذي هدفه أن يجعل من كلّ إنسان إلهًا، إلهًا من ذاته وليس من الإله الحقيقيّ.
لكلّ شيءٍ تحت السّماء وقت
”لكلّ شيءٍ زمان ولكلِّ أمرٍ تحت
السَّماوات وقت“ (جا ١: ٣)
لكلّ شيءٍ وقت، للفرح وقت، للحزن وقت، للبكاء وقت، للطَّعام وقت، للرّاحة وقت، للعمل وقت... لذلك ينبغي أن يضع كلّ مؤمن وقتًا يخصِّصه يوميًّا للرَّبّ. عندنا وقت لكلِّ شيء، فهلّا وجدنا وقتًا للشّركة مع الله خالق الكلّ، خالق السّماء والأرض؟ هلّا وجدنا وقتًا لنتأمَل في مشيئة الله الصَالحة ومقاصِدِه الطّيِّبة من جهتنا؟ إنّ الله الطَّيِّب، ربّ المحبَّة وربّ القداسة يستحقُّ بكلِّ تأكيد أن يأخذ أفخر أوقاتنا، بل يستحقّ أن نكرِّس له كلّ أوقات حياتنا. ينبغي أن نعيش في شركة معه. لكن يلزم أن نخصِّص و نكرِّس وقتًا في كلّ يوم لنختلي بالرَّبِّ منفردين.
نحتاج إلى هذه الفرصة اليوميّة للشّركة السّرّيّة مع الرَّبّ، فرصة فيها ننفض عن أنفسنا مشاغل الحياة، لنفحص قلوبنا في نور حضرته، فرصة لندرس كلمته بخشوع وفي تقوى. فرصة فيها نلتمس وجهه الكريم ونسأله لكي يُعلن ذاته لنا. نحتاج وقتًا كافيًا فيه نتحقَّق أنّه له المجد يرانا ويسمعنا ويضمِّد جراحنا ويبلسم آلامنا ويسمع تنهّداتنا الَّتي تخرج من أعماق قلوبنا. إنّنا نحتاج إلى وقت يُعمَل فيه للرَّبّ (صلاة التّهيئة للقدّاس الإلهيّ).
وما أعوزنا إلى وقتٍ نخصّصه دائمًا وفي كلّ يومٍ للرَّبّ لكي من خلال هذا الوقت يشرق بنوره في قلوبنا وفيها ويملأنا من روحه القدّوس.
أيّها الأخوات و الإخوة، هل يمكننا أن نكرَّس ولو نصف ساعة كلّ يوم لأجل هذا الغرض؟ إن لم تكن لك إرادة لتنظيم وقتك على هذا النَّحو، فلا تستغرب إذا ضعفت حياتك الرُّوحيّة وصارت بلا فاعليّة. إنّ ساعة الشّركة مع الرَّبّ ينبغي أن تكون لها الأولويّة على مشاغل واهتمامات هذه الحياة، وإذا أنت رتَّبتَ حياتك على هذا الأساس، فسوف تصبح فرصة الشَّركة اليوميّة مع الله غالية جدًّا على قلبك، و سوف تشعر بعد وقتٍ قصير ببركة الرَّبّ على باقي أوقاتك.
إنّ كلّ شيءٍ على هذه الأرض يحتاج إلى "الوقت" تأمَّل السّاعات الطَّويلة الَّتي يقضيها التِّلميذ في المدرسة لتحصيل المعارف، لكي يتفهَّم أمور هذه الحياة، فكم نحن نحتاج بالحَرِيّ إلى وقتٍ أطْوَل لنتعلَّم من الله أمور الحياة الأبديّة؟!...
أيّها المؤمن قدِّم للرَّبّ إله كلّ نعمة ما تستطيع أن تعطيه من وقت، إلى أن تمتلئ من نوره وحياته ومحبَّته. وهكذا تثبت في الرَّبّ يسوع المسيح وفي محبَّته عن طريق الكلمة، وعن طريق الصَّلاة.