نشرة كنيستي
نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.
الأحد 8 أيّار 2022
العدد 19
الأحد (2) بعد الفصح (حاملات الطّيب)
اللّحن 2- الإيوثينا 4
أعياد الأسبوع: *8: تذكار النّسوة حاملات الطّيب القدّيسات، يوسف الرّامي ونيقوديموس، يوحنّا اللّاهوتيّ الإنجيليّ، القدّيس أرسانيوس الكبير *9: النّبيّ أشعياء الكبير، الشّهيد خريستوفروس *10: الرّسول سمعان الغَيُّور، البارّ لافرنديوس، البارّة أوليمبيّا * 11: تذكار إنشاء القسطنطينيّة، الشّهيد موكيوس، كيرلُلس ومثوذيوس المعادلا الرُّسُل *12: إبيفانيوس أسقف قبرص، جرمانوس رئيس أساقفة القسطنطنيّة *13: الشّهيدة غليكاريّة ولاوذيسيوس *14: إيسيذورس المستشهد في خيو، ثارابوندُس أسقف قبرص.
كلمة الرّاعي
الأُمَنَاءُ للمسيح
حاملات الطّيب ويوسف ونيقوديمُس
البُشرى السّارّة هي ”أنَّ الله نورٌ وليسَ فيه ظلمةٌ البَتَّة“ (1 يو 1: 5). النّسوة حاملات الطّيب إذ بَكَّرْنَ إلى القبر وَجَدْنَ الحجر مدحرجًا ”فلمّا دخلْنَ القبر رأين شابًّا جالسًا عن اليمين لابسًا حُلَّةً بيضاءَ فانذهلن. فقال لهنّ: لا تنذهلن. أنتنّ تطلبنَ يسوع النّاصريّ المصلوب، قد قام، ليس هو ههنا“ (مر 16: 5—6). يوسف الرّاميّ ”اجترأ ودخل على بيلاطس وطلب جسد يسوع“ (مر 15: 43)... نور الحقيقة الإلهيّة سطع بالكامل في قيامة الرّبّ من بين الأموات. نور سرمديّة الله شَعَّ على الخليقة كلّها في يسوع المسيح النّاهِض من الرّمس. ما كان ظلالًا وغير مفهوم وغير معلوم صار ظاهرًا وملموسًا للمؤمنين. رجاءُ القيامةِ هو من الإيمان بسيادة الله المُطلَقَة. هذا الرّجاء صار يقينًا بقيامة المسيح بعد أن تألّم ومات وقُبِر. يوسف الرّاميّ ونيقودمُس والنِّسوة حاملات الطّيب، كان لديهم ترقُّب لانجلاء واستعلان سرّ يسوع الَّذي شفى المرضى وطرد الشّياطين وأقام الموتى لا بل خلق إنسانًا من جديد حين أقام لعازر ذي الأربعة أيّام. كانوا يتساءلون: من هو هذا الإنسان؟ كيف لمن عَمِلَ عَمَلَ الله أن يتركه الله للموت؟!... أمانتهم له لم تتوقَّف حتّى بعد خذلانهم من واقعيّة الموت، فساروا معه الدّرب حتّى النّهاية البشريّة الظّاهرة أي إلى القبر. لكن يبقى التّسآل في قلوبهم وأشواقهم إليه، كيف يمكن للَّذي قال: ”أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا“ (يو 11: 25) وللَّذي برهن عن سلطانه على الحياة والموت أن يخضع لسلطان الموت؟!...
* * *
حاملات الطّيب اجترأنِ أن يُرافقن يسوع في مسيرة آلامه حتّى إلى الصّليب والقبر غير هيَّابات ما يمكن أن يلحقهُنَّ من اليهود أو الرُّومان لأجل هذا، أمّا التّلاميذ فقد هربوا جميعًا وعلى رأسهم بطرس الصَّخرة ما عدا التّلميذ الَّذي كان يسوع يحبّه إذ رافق المعلّم حتّى إلى الصّليب. يوسف ونيقودمُس بالخفية أخذا جسد يسوع ليُطَيِّبانه وليدفناه، وهذه جرأة كبرى لما لهما من مكانة عند اليهود. ربّما لم تكن النّسوة أو يوسف ونيقودمُس أو التّلميذ الحبيب على استعداد كامل للموت لأجل يسوع ولكنّ جرأتهم جميعًا كانت تدلّ على غلبة محبّة يسوع في قلوبهم بإزاء الخوف من النّاس.
لا أمانة دون شجاعة، ولا شجاعة دون إقدام، ولا إقدام دون مغامرة ومخاطرة، ولا مغامرة ومخاطرة دون ثقة بالله واتّكال عليه أي دون محبّته فوق كلّ شيّ وقبل كلّ أحد...
هؤلاء أحبّوا يسوع في السّرّاء والضّرّاء، ورافقوه في كلْتَي الحالتَين. لكنّ المحبّة الكاملة وُهبَت لهم إذ كشف الرّبّ أوَّلًا للنّسوة حاملات الطّيب سرّ قيامته من الموت وغلبته عليه، كما سلّمَهُنَّ خدمة الكرازة بالقيامة للرّسل أوَّلًا، فكُنَّ أوّل رسل للمسيح النّاهض من القبر قبل الرُّسل أنفسهم. هكذا، كشف يسوع أنّه فيه ليس ذكر ولا أنثى إذا الكلّ واحد فيه (راجع غلا 3: 28)...
* * *
أيُّها الأحبّاء، من كان للمسيح فلا يمكن إلّا أن يكون أمينًا له في كلّ ظرف ومهما اشتدَّت رياح التّجارب ومهما تدفَّقت عليه ملذّات الدُّنيا، لأنّ الشّدّة والهموم كما الملذّات والشّهوات تخنق زرع الكلمة في قلب الإنسان. سرّ القيامة يُستَعْلَن للأمناء في اتّباع يسوع وفي حمل صليبهم وراءه. من لا يريد أن يحمل الصّليب أي من ليس مستعدًّا للبذل الكلّيّ للذّات والإخلاء الكامل للقلب من كلّ تعلُّقٍ لا يستطيع أن يختبر قوّة القيامة والحياة الجديدة. طبعًا، الإنسان يتدرَّج في مسيرته وفي طاعته للوصيّة الإلهيّة، لكنّ هذا لا يكون دون جرأة وشجاعة واستعداد لمواجهة العالم بأسره لأجل المسيح.
أتريد أن تبرأ؟ يسأل الرّبّ يسوع كلّ منّا. بناء على جوابنا تكون النّعمة المُعطاة لنا. "الْمُتَوَكِّلُونَ عَلَيْهِ سَيَفْهَمُونَ الْحَقَّ، وَالأُمَنَاءُ فِي الْمَحَبَّةِ سَيُلاَزِمُونَهُ، لأَنَّ النِّعْمَةَ وَالرَّحْمَةَ لِمُخْتَارِيهِ" (حك 3: 9).
حاملات الطّيب مع يوسف ونيقودمُس نماذج تشجّعنا وتحثّنا على الأمانة للمسيح والالتصاق به، لأنّ من يتّكل عليه لا يخزى ومن يتبعه لا يخسر، ومن يطلبه يُعطى له من لدنه الغلبة على الخطيئة والموت والشّرّ... ومن أحبّ الرّبّ فوق الكلّ صار له تلميذًا حبيبًا ويمنحه أن يتّكئ على صدره ليسمع أسرار الحبّ الإلهيّ...
ومن له أذنان للسّمع فليسمع...
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما
طروباريّة القيامة (باللّحن الثّاني)
عندما انحدرتَ إلى الموت، أيُّها الحياةُ الَّذي لا يموت، حينئذٍ أمتَّ الجحيمَ بِبَرْقِ لاهوتك. وعندما أقمتَ الأمواتَ من تحتِ الثَّرى، صرخَ نحوكَ جميعُ القوَّاتِ السَّماويِّين: أيُّها المسيحُ الإله، مُعطي الحياةِ، المجدُ لك.
طروبارية يوسف الرّامي (باللَّحن الثّاني)
إنّ يوسفَ المُتَّقي أحدَرَ جسدكَ الطّاهر من العود. ولَفَّهُ بالسَّباني النّقيّة وحنّطَهُ بالطّيب، وأضجعهُ في قبرٍ جديد ووضعهُ فيه. لكنّك قُمتَ لثلاثة أيّام يا ربّ مانحًا العالم عظيم الرَّحمة.
طروباريّة الرَّسول يوحنّا اللّاهوتيّ (باللّحن الثّاني)
أيّها الرَّسُول المُتكلِّم باللَّاهوت حبيبُ المسيح الإله، أسرِعْ وأنقذ شعبًا عادم الحجَّة، لأنّ الَّذي تنازل أنْ تتَّكِئَ على صدرهِ يقبلك متوسّلًا. فإليه ابتهل أن يبدّد سحابة الأمم المُعانِدَة، طالبًا لنا السَّلامَةَ والرَّحْمَةَ العُظمى.
طروباريّة أحد حاملات الطّيب (باللَّحن الثّاني)
إنّ الملاك قد حَضَرَ عند القبر قائلًا للنّسوة حاملات الطّيب. أمّا الطّيب فهو لائقٌ بالأموات، وأمّا المسيح فقد ظهر غريبًا من الفساد. لكن اصرخنَ قائلاتٍ، قد قام الرَّبُّ مانحًا العالم عظيم الرّحمة.
قنداق الفصح (باللَّحن الثّامن)
ولئن كنتَ نزلتَ إلى قبرٍ يا من لا يموت، إلّا أنَّكَ درستَ قوّة الجحيم، وقمتَ غالبًا أيّها المسيحُ الإله. وللنِّسْوَةِ الحاملاتِ الطِّيبِ قُلتَ: افرحنَ. ووهبتَ رُسُلكَ السَّلام، يا مانحَ الواقِعين القيام.
الرِّسالة (1 يو1: 1-7)
إلى كلِّ الأرض خرَج صوُته
السَّماوات تُذيع مجدَ الله
الَّذي كان من البدءِ، الَّذي سمعناه الَّذي رأيناهُ بعيوننا، الَّذي شاهدناه ولمستهُ أيدينا من جهةِ كلمة الحياة (لأنَّ الحياة قد ظهرت ورأيناها ونشهَدُ ونبشِّرُكم بالحياة الأبديَّةِ الَّتي كانت عندَ الآبِ فظهرت لنا)، الَّذي رأيناهُ وسمعناهُ بهِ نبشِّرُكم لتكونَ لكم أيضًا شركةٌ معنا. وشِركتُنا إنَّما هيَ معَ الآبِ ومعَ ابنهِ يسوعَ المسيح. ونكتُبُ إليكم بهذا ليكونَ فرحُكم كامِلًا. وهذه هي البُشرى الَّتي سمِعناها منهُ ونبشِّركم بها أنَّ الله نورٌ وليسَ فيه ظلمةٌ البَتَّة. فإن قُلْنا إنَّ لنا شركةً معهُ وسَلَكْنا في الظُّلمة نكذب ولا نعمَلُ بالحَقّ. ولكن إنْ سَلَكْنا في النُّور كما أنَّهُ هو في النُّور فلنا شِركةٌ لبعضنا مع بعضٍ، ودمُ يسوعَ المسيحِ ابنهِ يُطهِّرُنا من كلِّ خطيئةٍ.
الإنجيل (مر 15: 43-47، 16: 8)
في ذلك الزَّمان، جاء يوسفُ الَّذي من الرَّامَة، مشيرٌ تقيٌّ، وكان هو أيضًا منتظرًا ملكوت الله. فاجترأ ودخل على بيلاطس وطلب جسد يسوع. فاستغرب بيلاطسُ أنَّه قد مات هكذا سريعًا، واستدعى قائد المئة وسأله: هل له زمانٌ قد مات؟ ولمّا عرف من القائد، وَهَبَ الجسد ليوسف. فاشترى كتّانًا وأنزله ولَفَّهُ في الكتّان، ووضعه في قبرٍ كان منحوتًا في صخرةٍ، ودَحْرَجَ حجرًا على باب القبر. وكانت مريمُ المجدليّة ومريمُ أمُّ يوسي تنظران أين وُضع. ولمّا انقضى السَّبتُ، اشترت مريمُ المجدليّةُ ومريمُ أمُّ يعقوب وسالومةُ حَنوطًا ليأتِين ويدهنَّه. وبكّرنَ جدًّا في أوّل الأسبوع وأتينَ القبر وقد طلعتِ الشَّمس، وكُنَّ يَقُلنَ في ما بينهنّ: من يدحرجُ لنا الحجرَ عن بابِ القبر؟ فتطلّعن فرَأَيْنَ الحجر قد دُحرج لأنّه كان عظيمًا جدًّا. فلمّا دخلن القبر رأين شابًّا جالسًا عن اليمين لابسًا حُلَّةً بيضاءَ فانذهلن. فقال لهنّ: لا تنذهلن. أنتنّ تطلبنَ يسوع النّاصريّ المصلوب، قد قام، ليس هو ههنا. هوذا الموضعُ الَّذي وضعوه فيه. فاذهبن وقُلْنَ لتلاميذه ولبطرس إنّه يسبقُكم إلى الجليل، هناك تَرونه كما قال لكم. فخرجن سريعًا وفرَرْنَ من القبر وقد أخذتهنَّ الرِّعدة والدَّهَشْ. ولم يَقُلنَ لأحدٍ شيئًا، لأنّهُنَّ كُنَّ خائفات.
حول الإنجيل
نتذكَّر اليوم النِّسوة الحاملات الطِّيب، ويوسف الرّامي ونيقوديموس، أناسٌ بالكاد ذُكِروا في سياق الإنجيل. لكنَّهم، عندما بدا كأنّ المسيح قد غُلب وأنَّ الموت والرّفض والإهانة والكراهية قد انتصرت، تحلَّوْا بالأمانة والشَّجاعة: الأمانة من القلب والشَّجاعة المتولِّدة فقط من الحبّ. في لحظة الصَّلْب، كلّ التّلاميذ هربوا عدا واحد وهو يوحنّا الَّذي وقف عند أقدام الصَّليب مع والدة الإله. كلّ الآخَرون تخلَّوْا عن المسيح عدا مجموعة صغيرة من النِّسوة اللَّواتي وقَفْنَ على مَسافَةٍ قَصيرَة من الصَّليب. وعندما مات يسوع أتين ليدهن جسده الَّذي قد طلبه من بيلاطس يوسفُ الرَّامي غير خائفٍ من أن يُعرفَ كَتِلْميذٍ له، لأنّه سِواءَ في الحياة أو في الموت، المحبّة والأمانة قد انتصرتا.
مَنْ يُدَحْرِجُ لَنَا ٱلْحَجَرَ عَنْ بَابِ ٱلْقَبْرِ؟ كلمات النِّسوة القدّيسات هذه لها مِعناها السِّرّي الخاصّ. إنّها كلمات مُقَدِّسة لدرجة أنّ محبّتنا للقريب ورغبتنا بمنفعته الرُّوحيَّة لا تَسمحان أن نبقى صامتين أمامها.
في إنجيل اليوم القبر هو قلبُنا. القلب كان هيكلًا في وقتٍ ما، لكنّه أصبح قبرًا. يدخل فيه المسيح بواسطة سِرِّ المعموديّة كي يسكن ويعمل فينا. حينئذٍ، يُكَرَّس القلب كهيكلٍ لله. الحجر هو مرض النَّفس الَّذي بسببه تبقى سائر الأمراض الرُّوحيّة الأخرى بلا شفاء، والَّذي يُسَمّيه الآباء القدّيسون اللّاحِسّ. كلُّ مَن أراد تَفَحُّص حالة نفسه جَدِّيًّا وبدون تَحَيُّز، سوف يرى مرض اللّاحِسّ في ذاته؛ سوف يرى أهمّيتَه الكبيرة وعِبْأه ونتائجه، ويجب أن يعترف أنّه ظاهرة وشهادة فُتور نفسه.
يدعونا الإنجيل اليوم لنفكّر بأنفسنا ليس بالنّسبة للمسيح فقط بل بالنّسبة لبعضنا البعض، لأنّ المسيح قد قال أنّه مهما فعلنا لبعضنا البعض وللأصغر والأقلّ أهميّة نكون قد فعلناه له. دعونا نسأل أنفسنا كيف نتصرَّف تجاه شخص قد رُفض، قد استُهزئ به، قد رُفض من جماعته، قد أدين من النّاس أو من أناسٍ يعنون لنا. هل نبقى أمناء له؟ وهل عندنا الشَّجاعة لنقول: هو كان وسيبقى صديقنا إن قبلتَه أو رفضتَه؟ ليست هناك من أمانةٍ أعظم من الأمانة والإخلاص الَّتي تتجلّى عند الهزيمة. دعونا نعتبر ذلك لأنّنا كلُّنا منهزمون بطريقةٍ ما. لكنّنا نُجاهِد بما عندنا من طاقة صغيرة أو كبيرة لنكون كما يجب أن نكون، ونحن منهزمون في كلّ لحظة. يجب ألّا ننظر إلى الآخر بعطفٍ فقط بل بأمانة الأصدقاء المستعدِّين للوقوف إلى جانب الشَّخص الَّذي يسقط، يسقط بعيدًا عن النِّعمة، يسقط بعيدًا عن مثاله، ويخيّب كلَّ الآمال والتَّوقُّعات الَّتي قد وضعناها عليه. حينئذٍ دعونا ندعمه ونقف إلى جانبه، دعونا نكون أمناء ونبرهن أن حبَّنا ليس مشروطًا بأمل النَّصر لكنّه عطيّة قلبيّة مجّانيّة عظيمة ومغبوطة. آمين.
تفسير القدّاس الإلهيّ (الجزء الثّامن)
نتابع تفسير الأنافورا، ونصل إلى "لنجعل قلوبنا فوق - هي لنا عند الرَّبّ": في ضوء ما سبق، نرى في هذا الإعلان تأكيدًا على أنّ سرّ الإفخارستيّا لا يُتَمَّم على الأرض بل في السّماء" (شميمن 253). يقول الرَّبّ في سفر الأمثال: "يا ابني أعطني قلبك" (أمثال 23: 26)، والكاهن يدعونا إلى الارتفاع حيث يجب أن يكون قلبنا. يقول القدِّيس يوحنّا الذَّهبيّ الفَم "لنَخْشَ البقاء على هذه الأرض". نحن أحرار في البقاء أسفل، وفي ألّا نُبالي البتّة بالتَّوثُّب صعودًا، وفي عدم تجشّم عناء هذا الصُّعود الصَّعب بالفعل. لكن من يبقى على هذه الأرض يفقد مكانه حول المائدة الإفخارستيّة. وعندما يجيب الجوق "هي لنا عند الرَّبّ" يعني أنّنا اتّجهنا صعودًا وأنّنا من أفواهنا أُدِنّا. فكيف يمكن أن يرفع قلبه، في هذه اللَّحظة فقط، من لم يتّجه صَوْبَ السَّماء طوال حياته، ومن لم يرَ قطّ أشياء هذه الأرض من مِنظارٍ سماويّ؟
"لنَشْكُرَنَّ الرَّبّ - إنّه لحقٌّ وواجبٌ": بهذه الكلمات تُستَهلّ صلاة الشُّكر اليهوديّة التَّقليديّة. وقد تفوّه الرَّبّ بها عندما استهلّ الصَّلاة القديمة، الشُّكر الجديد الَّذي سيرفع الإنسان إلى الله وينقذ العالم. وعملًا بالعادة المتَّبَعة، أجابه الرّسل "إنّه لحقّ وواجب". ففي كلّ مرّة تقيم الكنيسة ذكر هذا الامتنان للرَّبِّ إنّما تفعل ذلك درجًا على عادة الرُّسُل ومعهم. فنحن نشكر الله على عطاياه الإلهيّة، وسرّ الشُّكر نفسه هو عطيّة جديدة من الله. أمّا جواب الشَّعب، بحسب الذَّهبيّ الفم، فهو يعبّر عن وحدة جسد المسيح. كما يُشير القدِّيس نيقولاوس كاباسيلاس: "إنّه عندما يتّفق المؤمنون كلّهم ويهتفون "لحقّ وواجب"، عندها يقدّم الكاهن الشُّكر الإلهيّ".
إفشين "واجب وحقّ..." والإعلان "بتسبيح الظَّفَر مترنّمين وهاتفين وصارخين وقائلين...": يتلو الكاهن هذا الإفشين باسم الشَّعب. فيه نشكر الله لأنّه أخرجنا من العَدَم إلى الوجود، ورغم سقوطنا بالخطيئة منحنا الخلاص. كما نشكره على كلّ إحساناته إلينا الظّاهرة وغير الظّاهرة، فالإنسان المسيحيّ هو العبد الشَّكور الَّذي يؤمن بأنّ الله يريد خيره، وإنْ كان يجهل كيف يعمل الله، ويؤمن بأنّ كلّ عطيَّةٍ صالحة هي من لَدُنِ الله. وفي نهاية الإفشين، يشكر الكاهن الله لأنّه قَبِل ذبيحتنا مع أنّه يقف حوله ألوف من الملائكة "بتسبيح الظَّفَر مترنّمين وهاتفين وصارخين وقائلين..."
نشيد الظَّفَر: يجمع نشيد الظَّفَر "قدّوس، قدّوس، قدّوس..." من جهة بين نشيد الملائكة المثلّث التّقديس الَّذي سمعه أشعياء النّبيّ عندما دعاه الله إلى الاستحقاق النّبويّ، ومن جهة أخرى بين النّشيد الَّذي به استقبل الشَّعب في المدينة المقدّسة الإلهَ-الإنسان "المقبل إلى آلامه طوعًا". ونحن عند ترتيلنا هذا النّشيد في القدّاس الإلهيّ، فإنّنا نتشبّه بالملائكة وبالشَّعب المتواجد في المدينة المقدّسة بآن، فنسبّح السِّيادة المثلّثة الشّموس ونمجّدها ونستقبل في اجتماعنا المقدّس "ملك الملوك الَّذي يوافي ليُذبَح ويُعطَى مأكلًا للمؤمنين". (يتبع)