نشرة كنيستي
نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.
الأحد 8 آب 2021
العدد 32
الأحد (7) بعد العنصرة
اللّحن 6- الإيوثينا 7
أعياد الأسبوع: 8: إِميليانوس المُعْتَرِف أسقف كيزيكوس *9: الرَّسول متِّيَّاس، البارّ بسويي *10: الشَّهيد لَفْرِنْدِيُوس رئيس الشَّمامسة *11: الشُّهيد آفْبُلُس الشَّمَّاس، نيفن بطريرك القسطنطينيَّة *12: الشَّهيدان فوتيوس وأَنِيكِيتُوس *13: وداع التَّجلِّي، نقل عظام القدّيس مكسيموس المُعترف، القدّيس دوروثاوس أسقف غزَّة وتلميذه دوسيثاوس، تيخن زادونسكي *14: تقدمة عيد رُقاد والدة الإله الفائقة القداسة، النَّبيُّ ميخا.
كلمة الرّاعي
إرضاء الله
”وَلكِنْ بِدُونِ إِيمَانٍ لاَ يُمْكِنُ إِرْضَاؤُهُ،
لأَنَّهُ يَجِبُ أَنَّ الَّذِي يَأْتِي إِلَى اللهِ يُؤْمِنُ بِأَنَّهُ مَوْجُودٌ،
وَأَنَّهُ يُجَازِي الَّذِينَ يَطْلُبُونَهُ“ (عبرانيين 11: 6)
من يطلب الله يؤمن أنّه موجود، ومن يؤمن بوجوده يطلب أن يعرفه ومن يعرفه يحبّه ومن يحبّه يريد إرضاءه لأنّ في رضاه فرحًا وحياةً أبديّة.
كيف يرضى الله علينا، حين نقبل كلمته حياةً لنا، ونرفض كلّ كلمة أخرى ليست منه.
ما هي كلمته لنا يا ترى؟ يجيبنا بولس في رسالته على أهل رومية قائلًا: ”يا إِخْوَةُ، يجبُ علينا نحنُ الأقوياءَ أنْ نَحْتَمِلَ وَهَنَ الضُّعَفاءِ ولا نُرضِيَ أَنْفُسَنَا. فليُرْضِ كلُّ واحدٍ مِنَّا قريبَهُ للخيرِ لأجلِ البُنيان“ (رومية 15: 1—2).
محبّتنا لله لا تنفصل عن محبّتنا للقريب. موقفنا من الآخَر، القريب، هو موقف انتقاد في أدنى حالاته، ودينونة بشكلٍ عام. حين نرى أخًا ضعيفًا، ما هو موقفنا منه يا ترى؟! هل نتفهّم ضعفه؟! هل نقبله؟! هل نتعاطف معه؟! هل نسعى لمساعدته على مواجهة أوجاعه وصعوباته؟! كيف نتصرّف بإزاء خطيئة الآخر وسقطته؟! محبّة الله، أي حفظ وصيّته، هي ما ينقّي علاقتنا بالآخَر لأنّ الكلمة الإلهيّة تطهِّر ضمائرنا ونوايانا وأفكارنا وأقوالنا وأعمالنا...
* * *
من هو القويّ؟! من هو الضَّعيف؟!
مقاييس الإيمان تتناقض مع الَّتي للعالم، ”لأَنِّي حِينَمَا أَنَا ضَعِيفٌ فَحِينَئِذٍ أَنَا قَوِيٌّ“ (2 كو 12: 10). قوّتنا في المسيح هي حرّيّتنا من كلّ ضرورة، لأنّنا نعرف أنّ حاجتنا هي فقط ”إلى الواحد“ (لوقا 10: 42). الضّعيف هو من يرى نفسه محتاجًا لغير الله. القويّ هو الَّذي يرى اللهَ كلّ حياته. لكنّ، مسيرتنا هي انتقال مستمرّ من ضعف إلى قوّة، بالتّوبة، بنعمة الرّوح القدس السّاكن والفاعل فينا.
يتقوّى الإنسان بالله في كلّ مرة يُرضي فيها الأخ للبُنيان في المسيح. من يُرضي نفسه يخسرها ومن يُرضي الله يربحها. ورضا الله هو أن نعضد الضّعيف ونبنيه في المسيح لينمو إلى ”ملء قامته“ (راجع أفسس 4: 13).
أنت لا تستطيع أن تسند أحدًا ما لم تتب، لأنّ التّوبة دخول إلى حقيقة البشريّة كلّها وفهم لمخاضها ومعرفة لأعماقها. فالإنسان هو الإنسان، وما في الأعماق واحد: خطايا وضعفات وعقد وأوجاع، وبرّ وقوّة وسلام وراحة. الأوّل من طبيعة سقوطنا، والثّاني من صورة خَلْقِنَا. كلّ إنسان فيه الجمال والبشاعة، والحقّ والباطل، والنّور والظّلمة.
* * *
”بَدْءُ الْحِكْمَةِ مَخَافَةُ الرَّبِّ، وَمَعْرِفَةُ الْقُدُّوسِ فَهْمٌ“ (أمثال 9: 10). من لم ينمو في مخافة الله لا يثبت لديه فهم الحياة أنّها زائلة وأنّ الرّبّ يريدها لنا أبديّة. العلاقة مع الله، كانت قديمًا، مبنيّة على الخوف بسبب النّاموس، أمّا مع المسيح فانتقلنا إلى علاقة مختلفة إلى بنوّة الله في ابنه، لنتحرَّر من خوفه بحبّه، ونسلك في مخافته ورهبة خسارة ودّه، كونه أظهر لنا في يسوع أنّنا أحبّاءه (يو 15: 15).
أن نطلب رضا الله خوفًا منه شيء، وأن نطلب رضاه حبًّا به شيء آخر. المهمّ أن يعرف الإنسان نفسه، ويفهم مكانة الله في حياته وبالنّسبة له، وأن لا يرى في نفسه أكثر أو غير ما هو عليه في حقيقته. هذا يتطلّب شفافيّة مؤلمة، لأنّ المعرفة صليب، والصّليب أداة خلاص إذا ما ارتبط بالمسيح في حياتنا.
* * *
أيها الأحبّاء، بالإيمان نرضي الله إذ نثق به ونسلّمه حياتنا بطاعة كلمته. لا معنى لحياتنا بدون الرّبّ، وحياتنا تأخذ قيمتها وتحقّق مغزاها في تشبّهنا بالمسيح الَّذي ”تَأَلَّمَ مَرَّةً وَاحِدَةً مِنْ أَجْلِ الْخَطَايَا، الْبَارُّ مِنْ أَجْلِ الأَثَمَةِ، لِكَيْ يُقَرِّبَنَا إِلَى اللهِ“ (1 بطرس 3: 18). غاية كلّ شيء أن نأتي إلى الآب، هذا يتمّ بالابن، ”أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي“ (يو 14: 6). هذا هو رضا الله الَّذي علينا أن نطلبه، أي هو يرضى علينا إذا ما حقَّقنا إنسانيّتنا وغاية وجودنا وهي أن نقتني الحياة الأبديّة، ”وَهذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الإِلهَ الْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ الْمَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ“ (يو 17: 3).
ما يرضي الله، يا أحبّة، هو أن نحيا. لهذا خَلَقَنَا وأَوْجَدَنَا. ”أَنَّكُمْ قَدْ مُتُّمْ وَحَيَاتُكُمْ مُسْتَتِرَةٌ مَعَ الْمَسِيحِ فِي اللهِ“ (كولوسي 3: 3). حين نموت عن العالم، نحيا في المسيح وبه نحيا في الله أي نشارك الله سرّ الوجود الَّذي يهبنا إيّاه بشركتنا في سرّ الحبّ الإلهيّ مع أقانيم الثّالوث القدّوس.
البداية هي محبّة الله بطاعة الوصيّة، وطاعة الوصيّة بمحبّة الإنسان... هذا هو الطّريق... فهل نريد أن نسلكه؟!...
ومن له أذنان للسّمع فليسمع.
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما
طروباريّة القيامة (باللَّحن السّادس)
إنَّ القوَّاتِ الملائِكِيَّةَ ظَهَرُوا على قبرِكَ الموَقَّر، والحرَّاسَ صاروا كالأموات، ومريمَ وَقَفَتْ عندَ القبرِ طالِبَةً جسدَكَ الطَّاهِر، فسَبَيْتَ الجحيمَ ولم تُجرَّبْ منها، وصَادَفْتَ البتولَ مانِحًا الحياة، فيا مَنْ قامَ من بين الأمواتِ، يا ربُّ المجدُ لك.
طروباريَّة التَّجَلِّي (باللَّحن السَّابِع)
لمَّا تَجَلَّيْتَ أَيُّهَا المسيحُ الإلهُ في الجبل، أَظْهَرْتَ مجدَك للتَّلاميذِ حسبَمَا ﭐسْتَطَاعُوا، فأَشْرِقْ لنا نحنُ الخَطَأَة نورَكَ الأزَلِي، بشفاعاتِ والدةِ الإله، يا مانِحَ النُّورِ المجدُ لك.
قنداق التَّجَلِّي (باللَّحن السَّابِع)
تَجَلَّيْتَ أيُّها المسيحُ الإلهُ في الجبل، وحَسْبَمَا وَسِعَ تلاميذُك شاهَدُوا مَجْدَك، حتَّى، عندما يُعَايِنُوكَ مَصْلُوبًا، يَفْطَنُوا أنَّ آلامَكَ طوعًا بـﭑختيارِك، ويَكْرِزُوا للعالم أنَّكَ أَنْتَ بالحقيقةِ شُعَاعُ الآب.
الرّسالة (رو 15: 1– 7)
خَلِّصْ يا رَبُّ شعبَكَ وبارِكْ ميراثَك
إليكَ يا رَبُّ أصرُخُ إلهي
يا إِخْوَةُ، يجبُ علينا نحنُ الأقوياءَ أنْ نَحْتَمِلَ وَهَنَ الضُّعَفاءِ ولا نُرضِيَ أَنْفُسَنَا. فليُرْضِ كلُّ واحدٍ مِنَّا قريبَهُ للخيرِ لأجلِ البُنيان. فإنَّ المسيحَ لم يُرضِ نفسَه، ولكن كما كُتِبَ تعييراتُ مُعَيِّريكَ وَقَعَتْ عَلَيَّ. لأنَّ كلَّ ما كُتِبَ من قَبْلُ إِنَّمَا كُتِبَ لتعلِيمِنَا، ليكونَ لنا الرَّجاءُ بالصَّبْرِ وبتعزيةِ الكُتب. وليُعْطِكُمْ إلهُ الصَّبْرِ والتَّعْزِيَةِ أن تكونوا متَّفِقِي الآراءِ في ما بينَكم بحسَبِ المسيحِ يسوع، حتَّى إنَّكُم بنفسٍ واحِدَةٍ وفمٍ واحِدٍ تُمَجِّدُون اللهَ أبا ربِّنَا يسوعَ المسيح. من أجلِ ذلك، فليَتَّخِذْ بعضُكُم بعضًا كما ﭐتَّخَذَكُم المسيحُ لمجدِ الله.
الإنجيل (مت 9: 27– 35)(متى 7)
في ذلك الزَّمان، فيما يسوعُ مُجْتَازٌ تَبِعَهُ أعمَيَانِ يَصِيحَانِ ويقولانِ ارحَمْنَا يا ابنَ داوُد. فلمَّا دخلَ البيتَ دنَا إليهِ الأعميانِ فقالَ لهما يسوع: هل تُؤْمِنَانِ أَنِّي أَقْدِرُ أَنْ أفعَلَ ذلك؟، فقالا لهُ: نعم يا رَبُّ، حينئذٍ لمسَ أعيُنَهُمَا قائِلًا: كإيمانِكُمَا فليَكُنْ لَكُمَا. فانْفَتَحَتْ أعينُهُمَا. فانْتَهَرَهُمَا يسوعُ قائلًا: أُنْظُرا لا يَعلَمْ أحدٌ. فلمَّا خرجَا شَهَرَاهُ في تلكِ الأرضِ كلِّها. وبعدَ خروجِهِمَا قَدَّمُوا إليهِ أخرسَ بهِ شيطانٌ، فلمَّا أُخْرِجَ الشَّيطانُ تكلَّمَ الأخرسُ. فتعجَّبَ الجموعُ قائِلينَ لَمْ يَظْهَرْ قَطُّ مِثْلُ هذا في إسرائيل. أمَّا الفَرِّيسِيُّونَ فقالُوا إنَّهُ برئيسِ الشَّياطينِ يُخْرِجُ الشَّياطين. وكان يسوعُ يَطُوفُ المُدُنَ كُلَّهَا والقُرَى يُعَلِّمُ في مجامِعِهِم ويَكْرِزُ ببشارَةِ الملكوتِ ويَشْفِي كلَّ مَرَضٍ وكلَّ ضُعْفٍ في الشَّعب.
حول الإنجيل
لقد أجرى الرَّبُّ يسوع في هذا الإنجيل عَجيبَتَيْن، أعاد البَصَر لأعميَيْن والنُّطقَ إلى أخرس فيه شيطان، ومِنْ بَعدها طاف في المدن والقرى يُعلِّم ويكرز ببشارة الملكوت ويشفي كلّ مَرَضٍ وضُعفٍ في الشَّعب.
العمى والبُكم آفّتان روحيّتان كبيرتان: فالأعمى الرّوحيّ لا يرى "نور العالم" أي الرَّبّ يسوع، بل يتحرّك في الظَّلام فلا يعود يرى انعكاس النّور الإلهيّ، ولا يعرف أو يستطيع أن يرى الخير في النّاس، وهنا خطورة هذا الموقف إذ أنّ كثيرًا ما تُرينا مخيّلتنا - إن لم تكن مُتطهِّرَة ومُستنيرة من الله- النّاس الآخَرين مُشوَّهين ببشاعة. وهكذا نحكم على أنفسنا من خلال حكمنا على الآخَرين إذ يقولُ الرَّبُّ "بالكَيْلِ الّذي تَكيلون به يُكال لكم" (مر 4 :24).
أمّا الأخرس روحيًّا لا يمكنه أن يتكلّم مع الآخَرين، ولا أن يُبَشِّر الآخَرين بالله، ولا يمكنه حتّى أن يُكلِّم الله، فالصَّلاة تُضايِقُهُ وتُزعِجُهُ، ومَن لا يقتبل الكلمة الّذي صار جسدًا مَحروم مِنْ كُلّ كلمة. في كِلتي الحالَتَيْن نحن بحاجة ماسّة إلى الرَّبِّ يسوع.
بعد شفاء الأعمَيَيْن والأخرس، انزعج الفَرِّيسيّون من الرَّبّ يسوع واتّهموه بأنه رئيس الشّياطين من أجل غلاظَةِ قلوبهم، لم يستطيعوا أن يَرَوْا الرَّبَّ يسوع على حقيقته وعظمته ومحبّته، ولكنّ الرَّبّ لم يتأثّر بخُبْثِهِم إنّما أكمَلَ فَيْضَ رحمَتِهِ على الشّعب ولم يُوَبِّخهم بل على العكس أكمل عمله، لأنّه ليس فقط يُخْرِجُ الشَّياطين ولكن يُنَقّي البرص، يُنهض الأموات، يهدّئ البحر، يغفر الخطايا، يكرز بملكوت السّماوات ويقود النّاس إلى الخلاص....
أمّا نحن فما هو موقفنا؟ نحن عُمْيٌ أم نُبْصِر من خلال الرَّبّ يسوع؟ نحن بُكْمٌ أم نتكلّم بكلمة الله؟
نحن كيف نتصرَّف مع الّذين ساعَدْناهُم ومِنْ ثَمّ يُسيئون إلينا أو ينتقدوننا، نقوم بإحساناتٍ أكبر أم نُقيم لهم حقدًا أكبر أم نتوقّف عن المساعدة؟
ليتنا نتعلّم من الرَّبِّ يسوع أن نَعْمَلَ انطلاقًا من حُسنِ النّيّة في عمل الخير، أن نعمل كلّ شيء لمجد الله، أن نقول مع يوحنّا المعمدان أنّ "للرَّبِّ أن يزيد ولنا أن ننقُص"، آمين.
"قُــــل الحَـــقَّ بِمحبَّة"
للمتروبوليت سابا (إسبر)
يكثر الكلام عن الحقّ في هذه الأيّام. فكلٌّ يتمسّك بحقّه، ويراه من وجهة نظره. يرى إليه في منفعته الشّخصيّة، أو مصلحة جماعته. أمّا الحقّ المُطلَق، أعني الله، فهو المَنسيّ الأكبر، في الوقت الّذي يستند فيه الجميع إليه، في تزكية حقّهم، وفي معركة الحصول عليه. ليس الحقّ، في إيماننا، قانونًا أو عُرفًا ما، بل الله نفسه. وفي هذا قال الرَّبّ في إنجيله المقدّس: "أنا الطّريق والحقّ والحياة" (يو14/6). هذا معناه أنّه هو الحقّ والطّريق إلى الحقّ في الوقت ذاته. أنت تتبعه، وتسير على هَدْي وصاياه، وتحبّه، وتتواضع، فيملؤك من حضوره، الّذي يقيك والّذين حولك، من خطر الضّلال، والسّقوط في الباطل.
"إذا ثبتم في كلامي، صرتم في الحقيقة تلاميذي: تعرفون الحقّ والحقّ يحرّركم" (يوحنا 8/32).
فإن كنت من أتباع المسيح فأنت للحقّ، لا جزئيًّا وإنّما بالكلّيّة. حضور المسيح فيك ينفي، منك، كلّ زغل وشائبة. لا يمكنك أن تكون له ولغيره، في الوقت ذاته. آنذاك أنت لغيره، وتتوهّم أنّك له. إمّا أن تفتح ذاتك بكلّيّتها للرّوح القدس، روح الحقّ (يوحنّا 14/17، 15/26)، أو أن تبقى تعرج على الجَنْبَيْن.
كيف تكون أمينًا له حتّى المُنتهى، والخطيئة ما تزال تجد لها موضعًا، أو أكثر، فيك؟ تكمن الأمانة في مَسْعاكَ المُخلص إليه، وفي تقفّي آثاره أينما وُجدتَ، وفي وَعْيِكَ لأن تسلك، على الدّوام، في الأمانة له. ستواجهك العقبات والعوائق المختلفة، هذه تأتي منك ومن غيرك. لا تَخَفْ. إبليس لا ينام. وهو "كأسَدٍ زائر، يجول ملتمسًا من يبتلعه" (1بط 5/8). فلا همّ إن سقطت مرّة أو أكثر، الأهمّ أن تقوم، فورًا، بعد سقطتك. أن تكون أمينًا للسّيّد، لا يعني أنّك لن تخطئ أبدًا. بل على العكس من ذلك، قد تخطئ، وتضلّ الطّريق، وتظنّ أنّ الصّحيح هنا، فتكتشف، في ما بعد، أنّه في مكان آخر. إن كانت ذاتك منفتحة على فعل روح الله، فلن تخشى تصحيح خطئك، وتقويمه.
كيف تخرج عن الحقّ، وربّك أرسل لك روحه. "وسأطلب من الآب أن يعطيكم معزّيًا آخر يبقى معكم إلى الأبد. هو روح الحقّ الّذي لا يقدر العالم أن يقبله، لأنّه لا يراه ولا يعرفه. أمّا أنتم فتعرفونه، لأنّه يُقيم معكم، ويكون فيكم" (يوحنّا 14/16-17). ألا يعني هذا الكلام الإلهيّ، بوضوح تامّ، أنَّ خروجَكَ عن الحَقّ يعني أنّ روح الله ليس فيك؟
يختلف البشر على ما يسّمونه "الحقّ"، لكنّهم غالبًا ما يتناسون أنّ الحقّ لا ينفصل عن المحبّة. إنْ كَسَرَ سَعْيَكَ، إلى الحقّ، المحبّةُ فيك، فأنت لست في الطّريق القويم، ولست على الحقّ. انتبه، آنذاك عليك أن تراجع ذاتك، وتفحصها، بدقّة، على ضوء إنجيل الرَّبّ وتعليمه.
في طلبك للحقّ قد تختلط الأمور عليك بين ما هو حقّ حقًّا، وبين ما يُزَيَّنُ لك أنّه كذلك. أهواؤك، وعدم نقاوتك، أكنت شخصًا أو جماعة، مؤسسة دنيويّة أو كنيسة في هذا العالم السّاقط، سوف تلعب دورًا رئيسًا في ضبابيّة الرّؤية لديك. تخيّل، على سبيل المثال لا الحصر، كم سيكون الضّلال عظيمًا حين تكون عرضة للتّأثير والضّغط من أصحابك أو من الّذين هم حولك!! ولك أن تتأمّل مدى الخطر على الحقّ، الّذي تتمسّك به وتدافع عنه، عندما يكون الأمر خاضعًا لتجاذبات المصالح وسياساتها، الّتي تفرضها صراعات النّفوذ والقوى، الّتي تسود هذا العالم. أنت تذوب لكي تبقى، فيه، على الحقّ والأمانة والاستقامة.
سيقدّم لك عكرك الرّوحيّ كمًّا كبير التّنوّع من التّبريرات، الّتي تلبس ثوب المنطق حينًا، والمصالح أو الذّكاء أو الفطنة في التّصرّف حينًا آخر. هذا كلّه لكي يجعلك تسلك في شطارة هذا العالم، فتحفظ نفسك ومكانتك، وتدعمهما بروح العالم، الّذي أنت لست منه إن كنت من تلاميذ المسيح. لا تكمن الأوّليّة، في منطق هذا العالم، في الشّهادة للحقّ، بقدر ما هي في الشّطارة القائمة على المفاهيم المضادّة للإنجيل. إغراء السّلطة والنّفوذ وحبّ التملّك يجعلك تبني عمارة منطقيّة لطموحك، توجِد فيها أهدافًا وغايات صالحة، تبرّر ما أنت فاعل، فيما الحقيقة قائمة في أنّك تغطّي، بهذه "الخيرات"، الشّرّ الّذي في داخلك، والأذى الّذي يسبّبه سلوكك.
لا تنسَ كلام الإنجيل عن الذّئاب الخاطفة الّتي تأتي بثياب الحملان (متى 7/15). هذا يصحّ عليك قبل غيرك. فقد يقودك الشّرّ إلى طلب شهواتك مغلّفة بالفضيلة. وتراثنا الشّعبيّ يعرف مقولة "السّمّ في العسل". انتبه لئلّا تكون، آنذاك، مطيّة للشّرّير، فيما اعتقادك أنّك تحاربه. ضع في ذهنك أنّ مسيحك قال: "أمّا أنا فلأني أقول الحقّ لستم تؤمنون بي" (يو 8/45).
اعوجاجك هذا يكون أشدّ مَضاضة عندما توجّهه ضدّ القريب. وقد قال السيّد في إنجيله: "أعداء الإنسان أهل بيته" (متى 10/36). فيما قال الشاعر العربي "وظلم ذوي القربى أشدّ مَضاضة". كذلك يزيد في وجعك أن تُصنَّف في جعبة هذا وذاك، لمجرّد أنّ الحقّ الّذي قلت به قد توافق مع هذه الجهة أو تلك. هذا جزء من صليبك، إن ثبتّ على التّمسّك بثوابت الإنجيل وتعليم كنيستك. لا تنتظر الجزاء إلّا من ربّك. كثيرون، من قبلك، وقفوا في وجه العالم كلّه، ودفعوا ثمنًا غاليًا، لكنّ الحقيقة، الّتي نادوا بها، هي الّتي انتصرت أخيرًا.
يؤلم الرَّبّ أنّ بعضًا من القيّمين على كنيسته أناس مهتمّون بما لم يطلبه قطّ، فيما أبناؤه جياع إلى كلمة حياة، وعطاش إلى ماء يروي ظمأ شقائهم ومعاناتهم. في الوقت الّذي تطلب خلائق الله الخلاص، تتوجّه الاهتمامات إلى تحقيق مآرب لا تمتّ إلى هذا الخلاص بِصِلَة، وتتركّز الجهود على صور شكليّة، لا تغني فقيرًا ولا تُشبع جائعًا. والأكثر إيلامًا، أنّ من يعي رسالته الإنجيليّة ومسؤوليّته الرّعويّة بدقّة ورهافة، يُضطرّ إلى أن يصرف وقته في التّصدّي للاعوجاج، بدلًا من الانصراف الكامل إلى بناء الاستقامة الحقّة، في نفوس أحبّة المسيح.
يبقى لك أن تثبت على الحقّ والمحبّة. قل ما تعتقده حقًّا لكن بمحبّة. واصمت حالما تشعر بأثر شرّير في داخلك، وتوجّه إلى ربّك، في مناجاة متواضعة، لعلّه يسكب كلمته على فمك، فتكون من الشّاهدين للحقّ. أمّا شهود الزّور فاتركهم لربّك، وحكم التّاريخ.