نشرة كنيستي
نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.
الأحد 18 تمّوز 2021
العدد 29
الأحد (4) بعد العنصرة (آباء المجمع المسكوني الرّابع)
اللّحن 3- الإيوثينا 4
أعياد الأسبوع: *18: الشَّهيد إميليانوس، البارّ بمفو *19: البارّة مكرينا أخت باسيليوس الكبير، البارّ ذِيُّس *20: النَّبيّ إيلياس التَّسبيتيّ *21: البارَّان سمعان المُتبالِه ويوحنَّا رفيقه في النُّسك *22: مريم المجدليَّة الحاملة الطّيب المُعادِلَة الرُّسُل، الشَّهيدة في العذارى مركيلَّا *23: نقل عظام الشَّهيد في الكهنة فوقا أسقف سينوبي، النَّبيّ حزقيال *24: االعظيمة في الشَّهيدات خريستينا.
كلمة الرّاعي
العمل والمعرفة
"وأمَّا الّذي يعمَلُ ويُعلِّمُ فهذا يُدْعَى عظيمًا
في ملكوت السّماوات" (متّى 5: 19)
ما الَّذي يسبق: العمل أم المعرفة؟َ!... بدون معرفة كيف نصنع ما يجب أن يكون، وكيف نقول ما يجب أن يُعرَف؟!... في الحياة العمليّة العلم يسبق العمل، إذ يدرس الإنسان الطّبّ ليمارسه وكذا الهندسة ... أمّا في الحياة الرّوحيّة فالقداسة لا تُدَرَّس بل تُعلَّم بالقدوة. الإيمان لا يُعلَّم بل يُنظَر ويُرَى ويُنقل بالمِثال، وبعدها يأتي العلم والمعرفة، لأنَّ معرفة الله خبرة شخصيّة بشكلٍ جوهريّ وليست هي مسألة عموميَّة تخصُّ شعبًا أو أمّة وحسب، لأنّ الله هو أوَّلًا إلهٌ شخصيّ، "أَنَا إِلهُ أَبِيكَ، إِلهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِلهُ إِسْحَاقَ وَإِلهُ يَعْقُوبَ" (خروج 3: 6).
أن نعرف الله هي غاية وجودنا. لكنّ، المعرفة المقصودة ليست هي معرفة عقليّة تحليليَّة بل هي وحدة تامّة مع الخالق. هي، في آن معًا، معرفة مُعطاة ومطلوب اقتناؤها؛ هي موجودة ومخفيَّة، هي ملموسة وغير محدودة، هي اقتناء حياة الرَّبّ أي سُكناه فينا وسكنانا فيه، هذا لأنَّ الله حيّ (راجع مثلًا: 2 صموئيل 2: 27 وأيوب 27: 2 و1 ملوك 18: 15).
* * *
آباء المجمع المسكونيّ الرّابع المنعَقد سنة 451 في خلقيدونية، الَّذين نعيّد لهم اليوم، كشفوا لنا سرّ الخلاص الَّذي أتمّه الرّبّ في ابنه المتجسِّد، ومعنى اتّحاد الله بالإنسان واتّحاد الإنسان بالله، إذ أكَّدوا على وحدة أقنوم المسيح الإله واتّحاد الطّبيعة الإلهيّة والبشريّة فيه بدون أن تخسر أيَة طبيعة شيئًا من خصائصها إذ "يجب الاعتراف به في طبيعتين متّحدتين دون اختلاط ولا تحوّل ولا انقسام ولا انفصال. وهو لم ينقسم ولم ينفصل إلى شخصين، بل واحدٌ هو، وهو نفسه الابن الوحيد، الإله الكلمة، الرَّبّ يسوع المسيح".
بحسب هذا الإيمان، صار البشر، في المسيح، يشتركون بما للألوهة من صفات، أي قوى إلهيَّة، بالرّوح القدس الَّذي يحلّ عليهم في الأسرار (sacraments) أي صاروا يعرفون الله من خلال سكناه فيهم بالنّعمة واتّحادهم به. ممّا لا شكّ فيه، أنّه حتّى يصل الإنسان إلى إدراك هذه الحقيقة، أي عيشها، أمامه مسيرة جِدِّيَّة من الجهاد والمشقّات، في مُحاربة الطّبيعة الأهوائيّة الَّتي تسيطر عليه، من خلال الصّلاة والصّوم وعِشْرَةِ الكلمة الإلهيّة والخدمة، من جهة، وبواسطة عيش الطّاعة الإنجيليّة، من جهة أخرى. من يرفض أن يطيع وصيّة الرَّبّ لا يقدر أن يتَّضع ولا أن يتعلّم محبّة الله والقريب، ولا ينفتح كيانه لاستقبال النّعمة الإلهيّة المنيرة للشّخص في جسده ونفسه وروحه، بل يصير له علمه فخًّا وسببًا للانتفاخ ...
* * *
من عرف الله عاش معه وفيه وله وبه، وصار حضور الرّبّ ظاهرًا في أعماله وأفكاره. ليست المعرفة سوى خبرة القداسة أي الانفراز عن العالم لمشابهة الله، لتحويل ذواتنا إلى عالم للرّبّ أي ملكوتًا له، يشعُّ نوره من خلالنا حين يرى النّاس أعمالنا "الصَّالحة" فيمجّدون أبانا الَّذي في السّماوات.
المعرفة الإلهيّة تُنقَل بالكلمة وتُعطى بالانبثاث من خلال حركة الحبّ الإلهيّة الّتي يعيش فيها المؤمن مع الله ويمدُّها في الكون من خلال شخصه وفي حياته اليوميّة. النّورُ الإلهيّ وَصِفَاتُ النّعمة تظهر جليَّة على من أَسْلَمُوا ذواتهم للرّبّ بالطّاعة الكاملة، لأنّه حين يُخلي الإنسان نفسه إذ يتبع المعلّم حاملًا صليبه بكلّ أمانة، يصير مسكنًا لله ونورًا يضيءُ ظلمة طالبي الحقّ. الرَّبّ يريد له أنوارًا من نوره ليضعها على المنارة لتضيء العالم، ليعرف العالم أنّ الله أحبّه حتّى المنتهي إذ أرسل ابنه الوحيد ليشاركنا ما لنا في إنسانيّتنا حتّى يهبنا ما هو له في ألوهيّته، محرِّرًا إيّانا من إنساننا العتيق بالموت والقيامة في حياة التّوبة بالنّعمة الإلهيّة.
هكذا تجلَّى آباء المجمع المسكونيّ الرّابع أنوارًا مشعَّة بـ"النّور الَّذي لا يغرب" نور الحقّ والطَّريق إلى الحياة الأبديّة، وثبّتوا لنا الإيمان القويم الَّذي به نحيا في استقامة العقيدة الَّتي تكشف لنا محبّة الله اللّامتناهية تجاهنا، إذ يريدنا أن نحيا به ونتحرَّك وننوجد...
ومن له أذنان للسّمع فليسمع...
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما
طروباريّة القيامة (باللَّحن الثّالث)
لِتفرحِ السَّماوِيَّات. ولتَبتَهِجِ الأرضِيَّات. لأنَّ الرَّبَّ صنعَ عِزًّا بساعِدهِ. ووَطِئَ المَوْتَ بالمَوْت. وصارَ بِكرَ الأموات. وأنقذَنا من جَوفِ الجحيم. ومَنَحَ العالمَ الرَّحمةَ العُظمى.
طروبارية الآباء (باللَّحن الثّامن)
أنتَ أيّها المَسيحُ إلهنا الفائق التّسبيح، يا مَن أسّستَ آباءَنا القدّيسين على الأرض كواكب لامعة، وبهم هَدَيتنا جميعًا إلى الإيمان الحقيقيّ، يا جزيل الرّحمة المجد لك.
قنداق (باللَّحن الثّاني)
يا شفيعَةَ المَسيحيّين غَيْرَ الخازية، الوَسيطةَ لدى الخالِق غيْرَ المرْدودةِ، لا تُعْرضي عَنْ أصواتِ طلباتِنا نَحْنُ الخَطأة، بَلْ تدارَكينا بالمعونةِ بما أنَّكِ صالِحَة، نَحنُ الصّارخينَ اليكِ بإيمان: بادِري إلى الشَّفاعَةِ وأسَرعي في الطّلْبَةِ يا والدَة الإلهِ، المُتشَفِّعَةَ دائمًا بمكرِّميك.
الرّسالة (تي 3: 8– 15)
افرَحوا أيّها الصِّدّيقون بالرَّبّ وابتهجوا
طوبى للّذين غُفرَتْ آثامهم
يا ولدي تيطُسُ صادقةٌ هي الكَلِمةُ وإيَّاها أُريدُ أن تقرِّرَ، حتَّى يهتمَّ الّذين آمَنُوا باللهِ في القِيامِ بالأعمالِ الحَسَنَة. فهذه هي الأعمالُ الحَسَنَةُ والنَّافِعَة. أَمَّا المُباحَثَات الهَذَيانِيَّةُ والأَنْسَابُ والخُصوُمَاتُ والمُمَاحَكَاتُ النّاموسِيَّةِ فاجْتَنِبْهَا. فإنَّها غَيرُ نافعَةٍ وباطِلةٌ. ورجُلِ البِدْعَةِ بعدَ الإنذارِ مرَّةً وأُخرى أَعْرِضْ عنهُ، عالِمًا أنَّ مَن هو كذلك قدِ اعْتَسَفَ وهُوَ في الخطيئةِ يَقضي بنفسِهِ على نَفسِه. ومتَى أرسلتُ إليكَ أَرتِمَاسَ أو تِيخيكُوسَ فبادِرْ أن تأتِيَنِي إلى نيكوبُّولِس لأنِّي قد عَزَمْتُ أن أُشتِّيَ هناك. أمّا زيناسُ معلِّمُ النّاموسِ وأَبُلُّوسُ فاجتَهِدْ في تشييعهِمِا مُتَأَهِّبَيْنِ لئلَّا يُعْوِزَهُمَا شيءٌ. وَلْيَتَعَلَّمْ ذوونا أن يقوموا بالأعمال الصَّالِحةِ للحاجاتِ الضَّروريَّة حتَّى لا يكونوا غيرَ مُثْمِرِين. يُسَلِّمُ عليكَ جميعُ الّذين معي، سَلِّمْ على الّذين يُحبُّونَنا في الإيمان. النِّعمةُ معكم أجمعين، آمين.
الإنجيل (مت 5: 14– 19)
قال الرَّبُّ لتلاميذِه: أنتم نورُ العالَم. لا يمكنُ أَنْ تَخفْى مدينةٌ واقِعَةٌ على جبلٍ، ولا يُوقَدُ سِراجٌ ويُوضَعُ تحتَ المِكْيَال لكِنْ على المنارةِ ليُضِيءَ لجميع الَّذين في البيت. هكذا فليُضِئْ نورُكُم قدَّام النّاس ليَرَوْا أعمالَكُم الصَّالِحَةَ ويُمَجِّدُوا أباكُمُ الَّذي في السَّماوات. لا تَظُنُّوا أنِّي أَتيتُ لأَحُلَّ النَّاموسَ والأنبياءَ، إنّي لم آتِ لأَحُلَّ لكن لأُتمِّم.
الحقَّ أقولُ لكم إنَّهُ إلى أن تَزولَ السّماءُ والأرضُ لا يزولُ حَرْفٌ واحدٌ أو نُقطةٌ واحِدةٌ من النّاموس حتّى يَتمَّ الكلُّ. فكلُّ مَن يَحُلُّ واحِدةً من هذه الوصايا الصِّغار ويُعَلِّمُ النّاسَ هكذا، فإنَّهُ يُدعَى صغيرًا في ملكوتِ السّماوات. وأمَّا الّذي يعمَلُ ويُعلِّمُ فهذا يُدْعَى عظيمًا في ملكوت السّماوات.
حول الرّسالة
تشكّل التّلاوة الّتي نحن بِصَدَدِها القسم الأخير من رسالة بولس الرِّعائيّة إلى تيطسَ (الاِبنِ المُخلِصِ في الإيمان المشترك) كما يدعوه في الآية 4 من الإصحاح الأوّل، وفيها يُوصيه بالتزام "الكلمة" قائلًا له: "صادقة هي الكلمة، وإيّاها أريد أن تقرّر..."، ويقصد، بالطّبع، كلمةَ الله الاِبنَ الوحيد. والاِبن قال هذه الكلمة على الصّليب دمًا مسفوكًا فداءً للعالَمين وخلاصًا – ولذا هي صادقة– وكتبها الإنجليّون والرُّسُل، من بعد قيامته وبإلهام الرّوح القدس، عهدًا جديدًا. بهذه الكلمة وحدَها يوصي بولس "ابنَه" تيطس من أجل أن يقرّرها وأن يكون فيها قاطعًا، لتكون للّذين آمنوا دافعًا للاِجتهاد في القيام بالأعمال الصّالحة. وقبل أن يسأله عن الأعمال الصّالحة: ما هي؟ يُسارع إلى التّأكيد له أنّ "هذه" هي الأعمال الصّالحة والنّافعة، مُشيرًا إلى "هذه الكلمة" بالذّات، أي كلمة يسوع المسكوبة في "عهده الجديد".
فماذا، إذًا، عن الأعمال الّتي دَرَجنا على تصنيفها في خانة "الخدمات الإنسانيّة"؟ إنّ ما لا شكّ فيه أنّ هذه الأعمال صالحة بامتياز، ومطلوبٌ تفعيلها – لا سيّما في ظروف عصيبة كالّتي نعيش– لكن مع الانتباه إلى أنّها ليست كذلك إلّا لكونها امتدادًا لكلمة الرّبّ ومدًّا لها، أي لكونها فَيضَ "الكلمة". إنّ كلّ ما دَرَجنا على القيام به تحت شعار "الخدمة الاجتماعيّة" أو "خدمة المحبّة" أو سوى ذلك، لا قيمة له بذاته، وتاليًا لا نطلبه لذاته. نحن المسيحيّين، إذا أَولَينا هذه الخدمة الأولويّة الّتي تستحقّها، فإنّما ذلك، فقط لتكون تجسيدًا ﻠ"الكلمة" الّتي تبقى وحدَها، أوّلًا وآخِرًا، هاجسَنا وموضوع خدمتنا. إنّ كلمة الرَّبّ حياةٌ وتفيض حياةً وحُبًّا. هذه هي الرّؤية، وخارج هذه الرّؤية تبقى خدمتنا مجرّد تَرَف؛ وهذا التّرف خطير لأنّ دونه إغراءً كبيرًا ويدغدغ فينا اﻠ"أنا" الاِجتماعيّة المتحفّزة، دَومًا، للبروز.
في القسم الثّاني من التّلاوة يُحذّر الرّسول "ابنَه" تيطس من مغبّة الوقوع في فخّ "المُماحكات الهذيانيّة والخصومات والأنساب"، لأنّ فيها تبديدًا لوقت ثمين حريٌّ بنا أن نصرفه على خدمة الكلمة الّتي وحدها تستأهل أن يُصرف لها الوقت. فبعد أن جمعتنا كلمة الرَّبِّ لم يعد عندنا كلامٌ يستحقّ أن نتجادل فيه أو نتخاصم، وبعدما بات المسيحُ نَسَبَنا لم يَعد لنا نَسَبٌ أرضيّ نعتدّ به. نحن، مُذ خرجنا من جرن المعموديّة، منتسبون إلى السّماء وإلى السّاكن فيها وليس لنا نَسَبٌ آخَر. نحن أرضيّون بالإقامة، لكنّنا سماويّون بالدّعوة والتَّوْق، إلى أن تصير الأرض سماءً.
ثم يتابع الرّسول تحذيراته فيحذّر تيطس من مغبّة التّمادي في مجادلة رجل البدعة (رجل الشّقاق في ترجمة أخرى) متى لمس عنده اعتسافًا في الرّأي، فيقول له: "أمّا رجل البدعة... فأَعرِض عنه...". ففي رأي بولس أنّه يحسن بتيطس أن يحاور رجل البدعة طالما هذا الأخير قابل للمحاورة، أي قابلٌ للتوبة عن ضلال هو فيه مقيم، ضلالِ الاِنحراف عن استقامة الرّأي. ولكن، متى استحال هذا الحوار جدالًا عَبَثيًّا، عقيمًا، فالأَولى بَترُه والكفّ عنه. فالكلمة هي زرع الله فينا، وتاليًا لا يليق بها أن تُلقى في تربة لا خِصبَ فيها.
في الآيات الأربع الأخيرة (12 - 15) يختم بولس تلاوته بجملة توصيات تَنمُّ عن رهافة حسّه الرّعائيّ، فيتمنّى على تيطس أن يحسن ضيافة أَرتماس وتيخيكوس اللَّذَين أَوفَدهما إليه، وأن يهتمّ، أيضًا، بزيناس وأَبلُّس، ليس لمجرّد الضّيافة إنّما لخدمة "الأعمال الصّالحة" (أي الكلمة) الّتي ينبغي لذوينا خدمتها "فلا يكونوا بلا ثمر". بولس لا تهمّه الضّيافة إلّا بقدر ما تكون حافزًا لخدمة الكلمة.
بِعَبَق هذه الكلمة وطيبها يستودع بولسُ ابنَه تيطس "سلامَ جميع اَّلذين معه"، ويكلّفه نقل سلامه إلى "الَّذين يحبّوننا في الإيمان".
إنّ هذه التّلاوة، بمواصفاتها ومقوّماتها، هي رسالة عاديّة منسوجة على نَول الرَّسائل الإنسانيّة المألوفة. غيرَ أنّ فيها ما يفوق العاديّ: أنّ بولس حَرَّرها بديباجة السّماء.
الحبّ الزّوجي في الكنيسة
الله محبّة، لا بل المحبّة الّتي أفرزت شراكة الحبّ، الثّالوث القدّوس. والإنسان على صورة الله خُلِق ليكون ثمرةً للمحبّة الإلهيّة وابنًا لها. ولأنّه على هذه الصّورة فهو، على قول المعلّم كوستي بندلي، لا يُحقّق إنسانيّته بغيرِ أن يعيش شراكة حبٍّ مع النّاس أمثاله" والحبّ الّذي يجمع رجلًا وامرأة هو نموذج عن هذه الشّراكة وذروتها".
الحبّ الزّوجيّ، في الكنيسة، يولد من هذا الوَعيِ الإيمانيّ. ولِيَكون النَّموذج لهذه الشَّراكة، يُرتجى أن يكون عابِرًا متخطّيًا لما نعتاده من قواعد ومفاهيم تنشأ لدينا بفعل تراكم أزمنة وعادات وتقاليد وأحكام. يتخطّى الحبّ الزّوجيّ هذه كلّها ليتميّز بتحرّره منها وتمثّله، فقط، بما تميّزت به المحبّة الإلهيّة، والّتي تلطف ولا تجرح.
فالمَعنِيّان به ينحدران من تلك المحبّة إلى العالم ليعكساها له في كلّ وجهٍ لحياتهما وخطوة يخطوانها فيها. والأهمّ الّذي يتجلّى به هذا الانعكاس في حبّهما هو في أن يكون حبًّا ثابتًا لا تُزعزعه الأزمات والصّعوبات مهما بلغت، لأنّه على ثبات المحبّة الّتي "قيلت بدم المسيح" للبشر. فثبات الحبّ الزّوجيّ، في الكنيسة، تُستمَدّ ركائزه مِن فداءِ كلّ من الشّريكين، ووفائه وطاعته، للآخر. هو فداءٌ يتذوّقه الشَّريكان يوميًّا ممّا أهداه الله لهما، حبًّا بهما، من فداءٍ عظيم.
يتوثّب الشَّريكان إلى أن يرتقيا بالحبّ الزَّوجيّ إلى هذا المقام "برجاء لا يُخزي". وهو رجاءٌ ينبع من تكليلِ حبّهما برعاية الله، التّكليل الّذي ليس هو تلبية لِشَرْعٍ يسود في هذه البلاد أو نُظم تسري في تلك وحسب، وإنّما هو، أساسًا، تعهّد يقطعانه أمام ربّهما بثباتِ كلّ منهما في تنمية حبِّه للآخر وسعيه إلى الوحدة معه، وإعلاء شأنِ تمايزه في آن. هو تعهُّد يأتي امتدادًا لصدارة حضور الله في حياتهما وترجمةً حيّة لمكانته لديهما، فيكون في حقيقته وضعًا لحبّهما في عهدة الرِّعاية الإلهيّة وشخوصًا، من خلالها، إلى التزام بعضهما لبعض بآفاقٍ لا حدود لها غير أن يصيرا معًا في وحدةٍ، أقرب بخصائصها إلى وحدة الثّالوث.
هذه الرِّعاية، المقرونة باستقامة السّعي الزّوجيّ، تصير بعشق الزّوجين حبًّا محرّرًا من التّسلّط والأهواء، الشّريك فيه ليس وسيلةً لإرضاء الرّغبات، وإنّما كيانًا محمولًا بكلّيّته يغتذي فرحه، ويزيد تألّقه، من حبّ الشّريك. وهذا ما يُفرح الله.