نشرة كنيستي
نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.
الأحد 15 تشرين الثّاني 2020
العدد 46
الأحد (23) بعد العنصرة
اللّحن 6- الإيوثينا 1
أعياد الأسبوع: *15: بدء صوم الميلاد، الشّهداء غورياس وصاموناس وأفيفس *16: الرّسول متّى الانجيليّ *17: غريغوريوس العجائبي أسقف قيساريّة الجديدة *18: الشهيدان بلاطن ورومانس *19: النّبيّ عوبديا، الشّهيد برلعام *20: تقدمة عيد الدّخول، غريغوريوس البانياسيّ، بروكلس بطريرك القسطنطينيّة *21: عيد دخول سيّدتنا والدة الإله إلى الهيكل.
كلمة الرّاعي
التّكريس والصَّوم
”وَأَنْتُمْ تَكُونُونَ لِي مَمْلَكَةَ كَهَنَةٍ وَأُمَّةً مُقَدَّسَةً“ (خر 19: 6)
قبل استعلان الرَّبّ لموسى في جبل سيناء صام أربعين يومًا وأربعين ليلة. أيضًا حين عاين إيليّا النّبيّ الإله في النَّسيم العَليل كان ذلك بعد مسير صيام لأربعين يوم وأربعين ليلة... يُقدِّس الإنسان نفسه أي يكرِّسها للرَّبِّ بالصَّوم الّذي يكون عربون استعداد الإنسان وتعبيرًا عن شوقه لمُلاقاة السَّيِّد... إله إسرائيل أراد شعبه مكرَّسًا له بالكليّة، لذلك دعاهم ليكونوا له ”مملكة كهنة وأمّة مقدَّسة“. هذه الدَّعوة تحقَّقت في المسيح والمؤمنين به. لأنّ المسيح هو الكاهن وهو الأمّة المُقدَّسة وهو المقدِّس بروحه القدُّوس من يؤمنون بالآب.
* * *
لا قداسة بدون تكريس أي بدون أن يُخصِّص الإنسان نفسه لله في كلّ شيء. ”الّتي لك وهي ممّا لك نقدّمها لك...“، هذا هو مبدأ التّكريس للتَّقديس. الله أعطانا وجودنا، نحن لسنا لأنفسنا. إذا كنّا لا نملك ذواتنا فكيف لنا أن نملك في هذا العالم شيئًا. متى أدرك الإنسان أنّه لن يكون شيئًا ما لم يكن لله، حينها يفهم معنى وجوده. الله لا يحتاجنا لينوجد ويكون كاملًا، هو كاملٌ في ذاته. حاجتنا إلى الله ليست واجبًا أو فرضًا، إنّها مسألة وجوديّة، لكنّ الخالق لا يريدها إلّا تجاوبًا مع سرّ حبّه الخالق. لذلك، بالإيمان نتكرَّس بالحبّ للحبّ في الحبّ. ومن أحبّ، بهذا المعنى، عاش لأجل محبوبه الإلهيّ وطَلَبَهُ في كلّ وجه ومكان وزمان ... من يكرِّس ذاته لله بالإيمان ويسلك في الصَّلاة والصَّوْم والخدمة والبذل والتَّضحية لا يحقّ له إلّا أن يحبّ بمحبّة المسيح الّذي فرزه له والّذي هو (أي الإنسان) يفرز له ذاته أي يختار الرَّبّ... الله ”أحبّنا أوَّلًا“ (1 يوحنا 4: 19)، ومحبَّتنا له من حبِّه لنا تتولَّد، لأنّنا منه نتعلَّم سرّ الوجود أي سرّ الحبّ الإلهيّ... ليست الحياة طرقًا، بل هي طريق واحد: ”أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلَّا بِي“ (يوحنا 14: 6). الحياة الأبديّة هي أن نعرفه (يو 17: 3). نعرفه حين نتَّحد بيسوع بنعمة الرّوح القدس. ومن اتّحد بالرَّبِّ صار وإيّاه روحًا واحدًا (راجع 1 كورنثوس 6: 17)، أي يغلب فيه روح الرَّبّ ويحيا به، فلا يعود الإنسان يحيا لنفسه بل للمسيح... الّذي في الآخَر...
* * *
أيّها الأحبّاء، ها نحن اليوم نلج صيام الميلاد الأربعينيّ المُقدَّس، الّذي ننقطع فيه عن الزَّفَرَيْن، مع السَّماح بالسَّمَك والمأكولات البحريّة، ما عدا أيّام الأربعاء والجمعة، إلى الثّاني عشر من كانون الأوّل. وُضِع هذا الصَّوم لنتحضَّر من خلاله لعيد ميلاد ربِّنا وإلهنا ومخلِّصِنا يسوع المسيح. نستعدّ لاستقبال طفل المغارة بالتَّنقية المكثّفة، لأنّ الصَّوم يساعدنا على الجهاد ضدّ أهوائنا عبر التَّدرّب على التّخلِّي عن ما هو مسموح وموافق لنطلب الجوهريّ فقط، أي ”لنضع قلوبنا فوق“ عند الرَّبّ، فنقول له من خلال صيامنا أنّنا سنبتعد عن الاهتمام والاضطراب بالأمور الكثيرة لأنّنا نعرف أنّ حاجتنا هي إليه هو وحده فقط (راجع لوقا 10: 41 و42).
في هذا الإطار، يأتي عيد دخول الطّفلة مريم ابنة الثّلاث سنوات إلى الهيكل، مريم ابنة يواكيم وحنّة الّتي صارت والدة الإله والّتي هي نموذج المكرَّسين لله الّذين يتجاوبون مع محبّة الّذي دعاهم من جوف أمّهاتهم (راجع غلاطية 1: 15) ليدخلوا هيكل طاعته بالحبّ فيصيروا بكلمته هياكل له في العالم تُجسِّدُ قداسته بالحنان والرَّأفة والاشفاق والمسامحة والبذل والعطاء بلا حدود، لأنّ الإنسان بالطّاعة للّامحدود يصير لامحدودًا بطاقاته، إذ يقتني روح الرَّبّ في كيانه الّذي يَفيض ”من جوفه أنهار ماء حيّ“ (يو 7: 38).
* * *
أيُّها الأحبّاء، غاية جهادنا الرّوحيّ أي صلواتنا وأصوامنا وتوبتنا ومسامحتنا وتواضعنا وعطائنا وارتيادنا بيت الله ... غاية كلّ هذه الأمور أن نصير هيكلًا للرَّبّ أي أن يسكن فينا الله بنعمته. بهذا المعنى كان الهيكل رمزًا للإنسان والإنسان تجسيدًا للهيكل منذ الخلق. عندما خسر الإنسان الرُّوح القدس بالمَعصية تمزّقت حياته من الدَّاخل والخارج. لهذا تَجَسَّد الإله من مريم البتول، ولهذا جهَّزها له مسكنًا حين تكرَّست له في الهيكل. نحن، أيضًا، مدعوّون إلى أن نكرِّس ذواتنا لله في خدمة هيكل الرَّبّ أكان هذا الهيكل هو الإنسان أم البيت الّذي نجتمع فيه لكسر الخبز. حين نكرِّس ذواتنا لطاعة الكلمة الإلهيّة تصير الكلمة الإلهيّة مكرَّسة لتقديسنا بقوة الرّوح القدس... غاية حياتنا أن نكرّسها للرَّبِّ، وغاية التّكريس القداسة، والتّكريس والقداسة هما عطيّة الله لمن يُطيعونه...
ومن استطاع أن يَقْبَل فليَقْبَل...
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما
طروباريّة القيامة (باللَّحن السّادس)
إِنَّ القوَّاتِ الملائِكِيَّة ظَهَرُوا على قبرِكَ الـمُوَقَّر، والحرَّاسَ صَارُوا كَالأَموات، ومريمَ وَقَفَتْ عندَ القَبْرِ طَالِبَةً جَسَدَكَ الطَّاهِر، فَسَبَيْتَ الجَحِيمَ ولَمْ تُجَرَّبْ مِنْهَا، وصَادَفْتَ البَتُولَ مَانِحًا الحَيَاة، فَيَا مَنْ قَامَ مِنْ بَيْنِ الأَمْوَاتِ، يَا رَبُّ المَجْدُ لَك.
طروباريّة للشّهداء (باللّحن الرّابع)
شُهداؤكَ يا ربُّ بجِهادهم نالوا منكَ الأكاليل غيرَ البالِيَةِ يا إلهَنا، لأنَّهُم أحْرَزُوا قوَّتَكَ، فَحَطَّموا المُغتَصبين وسَحَقوا بأسَ الشّياطين الّتي لا قُوَّة لها، فبتوسّلاتهم أيّها المَسيح الإله خَلِّص نفوسنا.
قنداق دخول السّيّدة إلى الهيكل (باللّحن الرّابع)
إنّ الهيكل الكُلّيّ النَّقاوة هيكل المُخلِّص. البتول الخدر الجزيل الثّمن. والكنز الطّاهر لمجد الله. اليوم تدخل إلى بيت الرّبّ. وتُدخِل معها النّعمة الّتّي بالرّوح الإلهيّ. فلتُسبّحها ملائكة الله. لأنّها هي المظلّة السّماويّة.
الرّسالة (أف 2: 4– 10)
خلِّص يا ربُّ شعبَكَ وبارك ميراثك
إليكَ يا ربُّ أصرُخُ إلهي
يا إخوة، إنَّ الله لكونِهِ غنيًّا بالرّحمَةِ ومن أجل كثرَةِ محبَّتِهِ الّتي أحبَّنا بها حينَ كُنَّا أمواتًا بالزَّلاتِ، أحيانًا مع المسيح. (فإنَّكم بالنِّعمَةِ مخلَّصون). وأقامَنا معهُ وأجلَسنا معهُ في السّماويَّاتِ في المسيحِ يسوع ليُظهِرَ في الدّهور المستقبَلَةِ فَرْطَ غِنى نِعمَتِه باللّطفِ بنا في المسيح يسوع، فإنَّكم بالنِّعمَةِ مخلَّصونَ بواسِطةِ الإيمان. وذلك ليسَ منكم إنَّما هُوَ عَطيَّةُ الله، وليسَ من الأعمال لئلَّا يفتَخِرَ أحدٌ. لأنَّنا نحنُ صُنعُهُ مخلوقينَ في المسيحِ يسوعَ للأعمال الصّالِحةِ الّتي سبَقَ الله فأعَدَّها لنسلُكَ فيها.
الإنجيل (لو 10: 25– 37)
في ذلك الزّمان دَنا إلى يسوعَ ناموسيٌّ وقال مجرِّبًا لهُ: يا معلِّمُ، ماذا أعملُ لأرِثَ الحياةَ الأبديَّة؟ فقال لهُ: ماذا كُتِبَ في النّاموس؟ كيف تقرأُ؟ فأجابَ وقال: أحبِبِ الرَّبَّ إلهكَ من كلِّ قلبِك ومن كلّ نفسِك ومن كلّ قدرتِك ومن كلّ ذهنِك، وقريبَك كنفسِك، فقال لهُ: بالصواب أجبتَ. إِعمَلْ ذلك فتحيا. فأراد أن يَزكِّيَ نفسَهُ فقال ليسوعَ: ومَن قريبي؟ فعاد يسوع وقال: كان إنسانٌ منحدِرًا من أورشليمَ إلى أريحا، فوقع بين لصوصٍ، فعَرَّوهُ وجرَّحوهُ وتركوهُ بين حيٍّ وميتٍ. فاتَّفق أنَّ كاهنًا كان منحدرًا في ذلك الطّريقِ، فأبصرَهُ وجاز مِنْ أمامهِ، وكذلك لاوِيٌّ، وأتى إلى المكانِ فأبصرَهُ وجازَ مِن أمامِه. ثمَّ إنَّ سامِريًّا مسافِرًا مرَّ بِه، فلمَّا رآهُ تحنَّن، فدنا إليهِ وضَمَّدَ جراحاتهِ وصَبَّ عليها زيتًا وخمرًا وحملهُ على دابَّتهِ وأتى بهِ إلى فندقٍ واعتنى بأمرِهِ. وفي الغدِ فيما هو خارجٌ أخرَجَ دينارين وأعْطاهما لصاحِب الفندقِ وقالَ لهُ اعتَنِ بأمرهِ. ومهما تُنفق فوقَ هذا فأنا أدفَعَهُ لك عند عودتي. فأيُّ هؤُّلاءِ الثّلاثةِ تَحسَبُ صار قريبًا للّذي وقع بين اللُّصوص؟ قال: الّذي صنعَ إليهِ الرَّحمة. فقال لهُ يسوع: إِمضِ فاصنعْ أنتَ أيضًا كذلك.
حول الإنجيل
مَنْ لم يَسمع بِمَثَل السَّامِريّ الصّالح؟ ربَّما هو من أشهر أمثال يسوع. إذ قد جاءه عالم شريعة يُجرّبه، مُحاولًا إحراجه في موضوع الحياة الأبديّة فردَّه يسوع فورًا إلى الشَّريعة. ما يُشير إلى أنّ بذور الملكوت والحياة الأبديّة مَوجودة أساسًا في الشَّريعة، وهذا واضح في جواب الرَّجل، فأجاد في الإجابة وأثنى عليه يسوع. ما يثبت أن جوهر الشَّريعة يتماشى كلِّيًّا مع مفاهيم الملكوت عند يسوع. فأساس الشَّريعة هو المحبَّة (لله وللقَريب) كما أساس الملكوت، لأنّ يسوع جاء ليُكَمِّل الشَّريعة، وليس لينقض.
إنَّ كمال الشَّريعة هو بالمحبّة، لكنَّ يسوع أعطاها البُعد الأسمى، بعدَ أن هيّئتْ الشَّريعة الطَّريق، وكانت بمثابة المُربِّي والمؤدِّب للشَّعب، لكنَّ الرَّجل أراد الاستمرار في لعبته وحاول تزكية نفسه عبر سؤاله "مَنْ القريب". لم يُجبه الرَّبّ جوابًا قاطِعًا، بل أراد أن ينتزع الجواب من الرَّجُل شخصيًّا، فطرح هذا المثل. أمّا النُّزول من أورشليم إلى أريحا، فيرمز إلى طريٍق وَعِرَة لا أمان فيها. وأمّا الكاهن واللّاوي، فُربَّما تصَرَّفا وِفقًا لمُبرِّرات إجتماعيّة وبروتوكوليّة. واللّاِفت أنّهما يهوديّان كما الإنسان الجَريح، ومع هذا لم يكترثا لابن قومهما، بل أبْدَيا اهتمامًا أكبر باعتباراتهما أكثر من أيّ شيء آخر. أيضًا لم يضعا نفسيهما مكان الجريح، حتّى يقيسا الشّيء لنفسيهما. عندهما الأمور الطّقسيّة وغيرها أهمّ من أيّ شيءٍ آخَر، فهما عبيدٌ للحَرف، كما وصف يسوع أمثالهما في فصل آخَر "بالقبور المُكلَّسَة" ... هؤلاء هم أبناء الموعد، لكنّهم لا يعرفون الجوهر الحقيقيّ للموعد وللشَّريعة. أمّا السّامريّ الّذي كان ابن قوم مرذولين من قِبَل اليهود، ويعتبر "فاسقًا" أو "مهرطقًا"، فيبدو أنّه فهم لُبَّ الشَّريعة أكثر من أولئك، وتصرَّف بوحي من إنسانيّته أقلّه، وأبدى تعاطفًا ورحمةً هما المطلوبان من قبل الشَّريعة. لقد تخطّى العداوة التّقليديّة بين اليهود والسّامريّين، وكان بالإمكان ألّا يفعل. لكنّه تابع وضع الجريح من الألف إلى الياء وأكمل معروفه إلى النّهاية.
إنّ البشريّة كلّها هي بمثابة الإنسان الجريح، وقد أثخنتها خطاياها ومعاصيها جراحًا، وأصبحت بحاجة إلى سامريّ صالح، فجاءها بشخص يسوع الّذي هو صورة رحمة الله، وقد حقّق لنا الخلاص بدمه الكريم على الصَّليب، وأفاضَ علينا رحمة الآب السّماويّ. وبذلك أزال الجدار الفاصل بين السَّماء والأرض. فله المجد والشّكر على تدبيره الخلاصيّ، مع أبيه وروحه القدُّوس، الآن وكلّ أوان وإلى دهر الدّاهرين.
بين الوداعة والتّواضع
من بين الفضائل كافّةً هاتان هما الفضيلتان اللّتان نَسَبَهما يسوع إلى نفسه، ودَعانا إلى أن نُماثله فيهما حيث قال: "احمِلوا نيري وتَتَلمذُوا لي فإنّي وديعٌ ومتواضع القلب..." (متّى 29:11). ما يعني، في فكر السّيّد، أنّ هاتَين الفضيلتين هما الفُضلَيان؛ وإنّهما لذلك لكونهما سياجَ الفضائل كلّها. وعلى هذا الفكر السّيّديّ يبني باسيليوس الكبير فيقول: "التّواضع هو الكنز الّذي يحفظ جميع الفضائل". يحفظها ممّا قد ينحرف بها عن طبيعتها، لتغدو عند مَن يسعى إلى اقتنائها –ورُبّما من حيث لا يدري– وجهًا آخَر للكبرياء. ولذا حذّر الآباء من أنّ: "كلّ فضيلة يعملها الإنسان من دُون اتّضاع تكون طعامًا للمجد الباطل".
الوداعة لُطفٌ في النَّفس ورِقَّة. وهي، عند بولس، من ثمار الرُّوح: "أمّا ثمر الرُّوح فهو المحبّة و... اللّطف... والوداعة والعفاف..." (غلا 22:5 و23)، ولذا ينبغي لنا اقتناؤها. والوداعة يكشفها التّواضع، ذلك أنّ التّواضع هو الوجه السّلوكيّ لها. فالوديع يتوارى ليُشِفَّ عن وجه المسيح ولُطفه. أَوَ ليس هذا ما قصده المعمدان حين قال: "لا بدّ له (للمسيح) من أن يزيد، ولا بدّ لي من أن أنقص" (يو 30:3)؟ من هنا أنّ أهمّ ما في الوداعة أنّها تُجدِّد في الوديع المتواضع صورة جماله القديم إذ تُعيده إلى مثال المسيح.
يستتبع هذا التَّوصيفُ جملةَ تساؤلات: في زمنٍ تتصاعَدُ فيه نزعة الفردانيّة، مع ما ينتج عنها من انتفاخ واعتداد بالنَّفس، أَلا يبدو المتكلّم في الوداعة كطائرٍ يغرّد خارج السِّرب؟ في عالمٍ كلُّ ما فيه "شهوةُ جسدٍ وشهوةُ عَينٍ وتَعَظُّمُ مَعيشة" (1يو 16:2) هل بقي للوداعة محلٌّ من الإعراب؟ في عالَمٍ "سَقَطَ فيه العَدْل" وتَسُوده شريعة "الحقّ للأقوى" هلى بقيَتْ للوَديع سُبلٌ يَسلُكُها؟
عندما أَطلق السّيّد تلاميذه الاِثني عشر في العالم كان، بسابِقِ علْمِهِ، يتوقَّعُ ما ينتظرهم، فأَوصاهم قائلًا: "ها أنا أُرسلكم كغنمٍ وسط ذئاب، فكُونوا حُكماء كالحيّات وبُسطاء كالحمام..." (متّى16:10 و17). أن يُوصي السّيّد تلاميذه بالبساطة مقرونةً بالحكمة معناه أنّ الوداعة ليست غَفلةً ولا بَلاهة. فالوَديع ليس مَن عطّل عقله، بل مَن أَعمَل عقله لمجدِ المَسيح بِلا ادّعاء ولا استكبار، ليَشُقّ طريقه في هذا العالم من دون أن تُفسِدَه مُفسِداتُه. الوداعة صحوٌ كامل وانتباهٌ كامل، لكن بكثير من الطّراوة واللّطف وطول الأناة.
في المزمور اﻠ 37 يُنشد داوود قائلًا: "أمّا الودعاء فيرثون الأرض ويتلذّذون بكثرة السّلامة". والسّلامة من السّلام. فالوديع يعيش سلامًا داخليًّا يُسعفه في ضبط انفعالاته والتَّحَكُّم بها، بحيث يحافظ على هدوئه في جميع الأحوال. ليس أنّ الوديع مجرّدٌ من الاِنفعال لكنّه، بسلامه الدَّاخليِّ، يُروِّض انفعالاته بحيث يُقابِلُ، مثلًا، الانتقاد، إذا وُجِّه إليه، بردّة الفعل نفسها الّتي يُقابل بها الإطراء. إنّه يعرف نفسه، في نهاية الأمر، ماثلًا أمام الله ولا يهمّه سوى مرضاته.
في عَود على بَدء نُذكّر بأنّ السّيّد يدعونا، عَبر تلاميذه، إلى أن نتتلمذ له ونتعلّم منه الوداعة والتّواضع. هذا يعني أنّ هاتَين الفضيلتَين تُكتَسَبان اكتسابًا. ونحن نكتسبهما بانكبابنا على "فكر المسيح" الّذي "إذ كان في صورة الله... أَخلى ذاته... ووضع نفسه، وأَطاع حتّى الموت موت الصّليب" (في 5:2-8).
من أقوال القدّيس نكتاريوس العجائبيّ
+ إِنْ كُنتَ تُجاهِدُ الجِهادَ الحَسَن، فاللهُ يُقَوِّيك. في الجِهادِ نعرفُ ضعفاتِنا وَنَقائصَنا وعُيُوبَنا. إنّهُ المِرآةُ لِحالَتِنا الرُّوحيَّة. مَن لا يُجاهِدُ لا يَعرفُ نفسَه.
+ إنتَبِهوا حتّى إلى الأخطاءِ الصَّغيرة. إذا وَقَعتُم في خطيئةٍ ما عن عَدَمِ انتِباه، فلا تَيأَسُوا، بَلِ انهَضُوا بِسُرعةٍ وَسارِعُوا إلى اللهِ القادرِ أن يُنهِضَكُم.
+ لا نستطيعُ استئصالَ ضعفاتِنا ونقائصِنا وأهوائنا بالاضطرابِ والحُزن، بَل بالصَّبرِ والإصرارِ والجَلَدِ والانتباه. فالحُزنُ الشّديدُ يُخفي داخِلَهُ تَكَبُّرًا، ولهذا هُوَ ضارٌّ وخطير، وفي كثيرٍ من الأحيان يُضلِّلُنا به الشَّيطانُ لِيَقطَعَ مَسيرةَ جِهادِنا الرُّوحِيّ.