نشرة كنيستي
نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.
الأحد 25 تشرين الأوّل 2020
العدد 43
الأحد (20) بعد العنصرة
اللّحن 3- الإيوثينا 9
أعياد الأسبوع: *25: الشُّهيدان مركيانوس ومرتيريوس، طابيثا الرَّحيمَة الَّتي أقامها بطرس *26: العظيم في الشُّهداء ديمتريوس المُفيض الطِّيب، الزَّلزَلَة العظيمَة *27: الشّهيد نسطر، بروكلا امرأة بيلاطس *28: الشّهيد ترنتيوس ونيونيلا وأولادهما، استفانوس السّابوي *29: أناستاسيا الرّوميّة، البارّ أبراميوس ومريم ابنة أخيه *30: الشّهيدان زينوبيوس وزينوبيا أخته، الرّسول كلاويا *31: الرّسول سطاشيس ورفقته، الشّهيد أبيماخس.
كلمة الرّاعي
المُسامَحَة
"وَكُونُوا لُطَفَاءَ بَعْضُكُمْ نَحْوَ بَعْضٍ، شَفُوقِينَ مُتَسَامِحِينَ
كَمَا سَامَحَكُمُ اللهُ أَيْضًا فِي الْمَسِيحِ" (أفسس 4: 32)
المُسامَحَة هي الغفران والعفو. تُسامح من يسيء إليك حين تكون قويًّا في المحبّة ثابتًا في الإيمان وواثقًا من ربِّك. قليل الإيمان لا يمكنه أن يسامح. من لا يعرف أنّه عُفِيَ عنه برحمة الله كثيرًا، رغم خطاياه الّتي لا تُعدُّ ولا تُحصى، لا يستطيع أن يفقه ما هي المسامحة لأنّه لا يعرف ماهيّة التّوبة. لا يتوب من لا يعرف خطاياه، ولا يعرف خطاياه من لم يتألّم منها. ولا يتألم من خطاياه من يضع اللّوم في ألمه على الآخَر، سواء أكان هذا الآخَر هو الله أو الإنسان أو الظّروف...
من لا يطلب المُسامَحة لا يحصل عليها لأنّ الرَّبَّ يقول: "اِسْأَلُوا تُعْطَوْا. اُطْلُبُوا تَجِدُوا. اِقْرَعُوا يُفْتَحْ لَكُمْ" (متّى 7: 7). الله ليس بظالم، الإنسان متكبّر. لا خلاص إلَّا بالتّواضع. من لا يتّضِع لا يطلب المُسامَحة، والمُتواضِع يَلوم ذاتَهُ على أقلِّ حركةِ عدم محبّة يراها في قلبه.
* * *
ما الّذي فعله المسيح لأجلنا على الصّليب؟ نقول إنّه حمل خطايانا وحرَّرنا منها بفدية دمه الإلهيّ. هكذا، صار كلّ مؤمن بالمسيح مَفدِيٌّ بدم إلهه ومعلّمه. فمن يستطيع أن يدين بعد يا ترى؟!...
الإنسان لا ثمن له لأنَّ دم ابن الله دُفع عنه لأجل حياته الأبديّة. هذا يبقى كلامًا أجوفًا لمن لا يؤمن بالتّجسُد الإلهيّ وبصيرورة ابن الله ابنًا للإنسان، أي باتّخاذ الكلمة الإله كلِّيَّتَنا ليحرِّرنا من كلّ عبوديّة وخوف. من يخافُ الآخَرَ لا يستطيعُ أن يسامحَهُ أو أن يغفرَ له، لأنَّ هذا الآخَر يبقى تهديدًا مُستمرًّا له. معلّمنا كشف لنا طريق المُسامَحة الكامل، إنّه البذل الكامل لحياتنا لأجل أعدائنا وليس فقط لأجل من نحبّ ويحبّوننا... هذه الحقيقة مؤلمة جدًّا، لا بل تناقض كلّ منطق في هذا العالم، إنّها جنون بالنّسبة لأبناء هذا الدَّهر ولأبناء الحكمة البشريّة ولأبناء الشَّريعة. لا شيء يساوي دم ابن الله المسفوك من أجلنا، لذلك، من يستطيع أن يستهين بعمل الله الخلاصيّ ويرفض أن يسامح ويغفر طالما أنّ الله بشخص ابنه المتجسِّد قد فتح باب الغفران لكلّ ساقط بالتّوبة؟!...
* * *
البشر يَرَوْن في اللُّطفِ ضعفًا وفي المُسامَحة جُبْنًا، هذا لأنّهم لم يعرفوا محبَّة المخلِّص والفادي لهم إذ لم يتوبوا بعد. لهذا، يقول الرَّسُول بولس لِغَير التّائب: "أَمْ تَسْتَهِينُ بِغِنَى لُطْفِهِ (أي الله) وَإِمْهَالِهِ وَطُولِ أَنَاتِهِ، غَيْرَ عَالِمٍ أَنَّ لُطْفَ اللهِ إِنَّمَا يَقْتَادُكَ إِلَى التَّوْبَةِ؟" (رومية 2: 4). من لا يُسامح هو إنسان دَيَّان ومن يَدين غيره لا خلاص له ولا مغفرة، مصيرُه دودٌ ينخر كيانه الرُّوحيّ إلى الأبد... هكذا من لا رحمة عنده ومن لا يريد أن يسامِح، لأنّ كبرياءه مريض وقلبه عَفنٌ وعقله مَسْبِيٌّ بالعجرفة واحتقار الآخَرين والعُجْب!... هذا هو إنسان السُّقوط الَّذي لا خلاص له، لأنّ من لا يغفر لا يُغفر له ومن لا يُسامِح لا يُسامَح ومن يَدين فسوف يُدان...
* * *
أيُّها الأحبّاء، فلنتعلَّم المُسامحة من ربّنا لأنّنا له وباسمه نُدعَى. لقد صولِحنا مع الله بالإنسان يسوع المسيح، الَّذي صار لنا نموذجًا وقدوةً والَّذي يهبنا ذاته وقوّته وحياته بالرُّوح القدس. كلّ ما عاشه الرَّبُّ بالجسد يعطينا أن نعيشه بروحه القدُّوس، ولذلك، إذا أطعناه في أفكارنا وصنعنا مشيئته في حياتنا وَهَبَنَا أن نغلب روح الشِّرّير الَّذي يريدنا أن نحقد ونكره وندين وننتقم. الله هو الَّذي يدين، وهو الَّذي يرحم، أيضًا، وهو قد أتى إلينا ليرحمنا ويخلّصنا من شرورنا ويمنح العالم حياة جديدة فيه. الرَّبُّ يؤدّب للخلاص ويرحم ويتحنَّن للخلاص. كلّ إنسان يُحَدِّد علاقة الله به من خلال طاعته للكلمة الإلهيّة. الرَّبُّ لا يقبل الرّخاوة واللّامبالاة لأنّها ضدُّ المحبّة، لذلك يكون الله صارمًا ولطيفًا بحسب ما يوافق كلّ شخص في علاقته به لأجل خلاصه. أمّا من يعرف حنان الله عليه حين يتوب ويرى كم غُفِرَ له يفقه كم هو محبوب، وأمّا غير التّائب فلا ينفعه لطف، لذلك قال الرَّسول بولس: "هُوَذَا لُطْفُ اللهِ وَصَرَامَتُهُ: أَمَّا الصَّرَامَةُ فَعَلَى الَّذِينَ سَقَطُوا، وَأَمَّا اللُّطْفُ فَلَكَ، إِنْ ثَبَتَّ فِي اللُّطْفِ، وَإِلَّا فَأَنْتَ أَيْضًا سَتُقْطَعُ" (رومية 11: 22).
يا أحبّة، فلينظر كلّ منّا إلى نفسه ولْيَرَ عمل الله في حياته ولطفه به، وليتعلّم اللُّطف والشَّفَقة والمُسامحة لكي تُوهَب له بروح الله فيصير على صورة معلّمه لأنّ الله قد أتى ليهبنا الحياة "ولتكون أفضل" (يوحنّا 10: 10).
ومن له أذنان للسَّمع فليسمع...
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما
طروباريّة القيامة (باللَّحن الثّالث)
لِتفرحِ السَّماوِيَّات. ولتَبتَهِجِ الأرضِيَّات. لأنَّ الرَّبَّ صنعَ عِزًّا بساعِدهِ. ووَطِئَ المَوْتَ بالمَوْت. وصارَ بِكرَ الأموات. وأنقذَنا من جَوفِ الجحيم. ومَنَحَ العالمَ الرَّحمةَ العُظمى.
طروباريّة للشّهيدين مركيانوس ومرتيريوس (باللّحن الرّابع)
شَهيداكَ يا ربُّ بجِهادهما نالا منكَ الأكاليل غيرَ البالِيَةِ يا إلهَنا، لأنَّهُما أحْرَزا قوَّتَكَ، فَحَطَّما المُغتَصبين وسَحَقا بأسَ الشّياطين الّتي لا قُوَّة لها، فبتوسّلاتهما أيّها المَسيح الإله خَلِّص نفوسنا.
القنداق (باللَّحن الثّاني)
يا شفيعَةَ المَسيحيّين غَيْرَ الخازية، الوَسيطةَ لدى الخالِق غيْرَ المرْدودةِ، لا تُعْرضي عَنْ أصواتِ طلباتِنا نَحْنُ الخَطأة، بَلْ تدارَكينا بالمعونةِ بما أنَّكِ صالِحَة، نَحنُ الصّارخينَ إليكِ بإيمان: بادِري إلى الشَّفاعَةِ وأسَرعي في الطّلْبَةِ يا والدَة الإلهِ، المُتشَفِّعَةَ دائمًا بمكرِّميك.
الرّسالة (غل 1: 11– 19)
رتِّلوا لإلهنا رتِّلوا
يا جميعَ الأُممِ صفِّقوا بالأيادي
يا إخوةُ، أُعْلِمُكم أنَّ الإنجيلَ الّذي بشَّرتُ بهِ ليسَ بحسبِ الإنسانِ، لأنّي لم أتسلَّمْهُ من إنسانٍ بل بإعلانِ يسوعَ المسيح. فإنَّكم قد سمعتُم بسِيرتي قديمًا في مِلَّةِ اليهودِ أنّي كنتُ أضطهِدُ كنيسةَ اللهِ بإفراطٍ وأُدَمِّرُها وأَزيدُ تَقَدُّمًا في ملَّةِ اليهودِ على كثيرينَ من أترابي في جِنسي بكوني أَوفرَ منهم غَيْرَةً على تَقليداتِ آبائي. فلمَّا ارتضَى اللهُ الّذي أفرَزَني من جوفِ أمِّي، ودعاني بنعمتِه، أنْ يُعلِنَ ابنَهُ فيَّ لأُبشِّرَ بهِ بينَ الأُممِ، لساعتي لم أُصغِ إلى لحمٍ ودمٍ، ولا صَعِدْتُ إلى أورَشليمَ إلى الرُّسُلِ الّذينَ قَبلي، بلِ انطلقتُ إلى ديار العربِ، وبعدَ ذلكَ رَجَعتُ إلى دِمشق. ثمَّ إنّي، بعدَ ثلاثِ سنينَ، صَعِدتُ إلى أورَشليمَ لأزورَ بطرسَ فأقمتُ عندَهُ خمسةَ عشرَ يومًا. ولم أرَ غيرَهُ من الرُّسلِ سوى يعقوبَ أخي الرَّبّ.
الإنجيل (لو 8: 27– 39)(لوقا 6)
في ذلك الزّمان، أتى يسوعُ إلى كورَةِ الجِرجِسييّنَ، فاستقبَلهُ رجُلٌ منَ المَدينَةِ بِه شياطينُ مُنذُ زَمانٍ طويلِ، ولم يكن يلبَسُ ثوبًا ولا يأوِي إلى بَيتٍ بل إلى القبور. فلمّا رأى يسوعَ صاحَ وخرَّ وقالَ بِصوتٍ عظيم: ما لي ولكَ يا يسوعُ ابْنَ اللهِ العليّ. أطلُبُ إليكَ ألّا تُعَذِّبَني، فَإنَّهُ أمَرَ الرّوحَ النَّجِسَ أن يَخرُجَ منَ الإنسانِ لأنَّهُ كانَ قد اختطفَهُ مُنذُ زَمانٍ طويلٍ. وكانَ يُربَطُ بسلاسِلَ ويُحْبَسُ بِقُيودٍ فيقطعُ الرُّبُطَ وتَسُوقُهُ الشّياطينُ إلى البراري. فسألَهُ يسوعُ قائلًا ما اسمُك. فقالَ لَجَيُون، لأنَّ شياطينَ كثيرينَ كانوا قد دَخلوا فيهِ، وطلبوا إليهِ أن لا يأمُرَهُم بالذّهابِ إلى الهاوية. وكانَ هُناكَ قَطيعُ خنازيرَ كثيرةٍ ترعَى في الجبلِ، فَطَلَبوا إليهِ أن يأذنَ لهم بالدّخولِ فيها فأَذِنَ لهم، فخَرَج الشّياطينُ من الإنسانِ ودخَلوا في الخنازيرِ، فوَثبَ القطيعُ عَن الجُرْفِ إلى البُحَيْرةِ فاختنقَ. فلمَّا رأى الرُّعاةُ ما حَدَثَ هَرَبوا فأخبَروا في المدينةِ وفي الحقول، فخرجوا ليَرَوا ما حَدَث، وأتَوا إلى يسوعَ فوَجدوا الإنسَانَ الّذي خَرَجَتِ مِنهُ الشّياطينُ جَالِسًا عندَ قدَمَي يسوعَ لابِسًا صحيحَ العقل فَخافوا. وأخبَرَهُم النّاظِرونَ أيضًا كيْف أُبْرِئَ المجنون. فسألَهُ جمِيعُ جُمهورِ كُورَةِ الجرجسِيّينَ أن ينصَرِفَ عَنهم لأنَّهُ اعْتَراهم خوفُ عَظيم. فدَخَلَ السّفينةَ ورَجَع. فسَألَهُ الرَّجُلُ الّذي خرَجَتْ مِنه الشّياطينُ أن يكونَ مَعَهُ. فَصَرَفهُ يسوعُ قائلًا ارجع إلى بيتِكَ وحَدِّث بما صَنعَ الله إليك. فذهَبَ وهُوَ ينادي في المدينة كُلِّها بما صَنعَ إليهِ يَسوع.
حول الرّسالة
(١١-١٢): يؤكّد بولس أنّه استلم تعليمه مباشرة من السّيّد المسيح وليس من يَدٍ بشريّة. هذا الكشف الإلهيّ كان ضروريًّا لشخصٍ كان مضطهِدًّا للمسيحيّين كشاول (بولس) لرَدِّه إلى طريق الصَّواب، وقد ناله عند ظهور السَّيّد له على طريق دمشق وفي الفترة الّتي أمضاها في منطقة العربيّة أي حوران بعد محاولة قتله في دمشق.
(١٣-١٤): هنا يُقارِن بولس بين ما كان عليه أثناء خضوعه للنّاموس والخِتان من جُحودٍ للمَسيح وأتباعه، واضطهادٍ عنيف للكنيسة كما أمْلَتْهُ عليه يهوديّته المتعصّبة وفَرّيسيّته المتزمِّتة، وبين ما صار إليه عندما تعرَّف على المسيح على طريق دمشق وتبيان ضلاله السّابق. مُحاربته للكنيسة ومؤمنيها لم تكن بدافع العاطفة أو المجد الباطل بل لغيرته لدينه وإن كانت هذه الغيرة "ليست حسب المعرفة" (رو١٠: ٢). هو غار على تقليدات آبائه. فالدَّوافِع دينيّة حين كان يضطهد الكنيسة فكم بالحَرِيّ دوافعه الآن بعد أن عرف الحقّ؟.
(١٥-١٦-١٧): "دَعاني بنعمته..." بناءً على استعداد بولس الممتاز، كما يتّضح من حديث الرَّبّ مع حنانيّا "هذا لي إناء مُختار يحمل اسمي أمام أمم وملوك" (أع ٩: ١٥). رؤيا طريق دمشق أضاءت جنبات روحه فاستنار استنارةً لم يكن معها محتاجًا لأخذ مشورةٍ بشريّة. هو لم يستشر لحمًا ودمًا لأنّه لا يليق بمن استلم تعليمه مباشرة من الله أن يرجع إلى البشر ليستشيرهم.
(١٨-١٩): أيّ اتّضاع هذا؟ فرغم استكفاء بولس وعدم حاجته لبطرس، ورغم مساواتهما في الرَّسوليّة، يأتي إليه كسابقٍ له في الرَّسوليّة وأقدم منه. لم يكن بولس بحاجةٍ إلى تعليمٍ أو إرشاد مُعيَّن من بطرس بل تكريمًا له وطلبًا للتَّعرُّف عليه. رحلته خصّصها للِقاء بطرس وها هو لم يَرَ غيره سوى يعقوب. هذا يؤكِّد محبّة بولس لبطرس ويوضح أنّ مُقاومته إيّاه وللكنيسة لم تكن بدافع العَداوة وإنّما عن غيرةٍ عمياء وعدم معرفة صحيحة للإيمان الحقيقيّ. قَرَنَ بولس اسم يعقوب بلقبه كأخٍ للرَّبِّ بدافع التّوقير الشّديد والاحترام.
الصّبر طريق إلى الخلاص
كلّ من يختبر الرُّوحانيّة المسيحيّة يعلم أنّها ليست مبنيّة على مبادئ فلسفيّة مجرّدة بل على فضائل سامية ترتقي بالإنسان من مجرّد كائن ذي بشرةٍ إلى مشروعٍ خَلاصيّ ذي نسمةٍ إلهيّة. فنقرأ عن أهمّية المحبّة والتّواضع والتّوبة وغيرها، لا نقرأ عنها فحسب بل تقدّم لنا الكنيسة أمثلة حيّة عاشت هذه الفضائل وجسّدتها بكلّ أمانة بَدءًا بالسَّيِّد المسيح، مجسِّدَ التَّواضُع الأقصـى، ربّ الأرباب وملك الملوك، مُرورًا بالأنبياء والرُّسُل، ناهِيكَ عن والدةِ الإله الكليّة القداسة، وصولًا إلى الأبرار والقدّيسين الّذين ما زلنا حتّى اليوم نُعاصِر بعضًا منهم ونكاد لا نرتوي من خبراتهم.
من أعمدةِ إيماننا فضيلة "الصَّبر"، إذ لطالما قرأنا في الكتاب المُقَدَّس هذه الآيَة: "بِصَبْرِكُم اقتنوا أنفسَكم" (لو 21: 19)، ولعلَّ أبرز تجسيدٍ لهذه الآيَة كان أيّوب الّذي جرّبه المُعانِد سنين طِوال فجرّده من غناه، وحرمه من عائلته ومن أولاده العشرة إثر حادثٍ فَظيع... ولكنّ إيمان أيّوب لم يتزعزع قط، لم يكفر بالله كما توقّع الشّيطان، بل مَجَّدَ اللهَ أكثر، وقَبِل ما جارَ عليه بإيمانٍ وتسليمٍ كامِلَيْن. ثمّ اشتدّتْ المِحْنَة أكثر فأكثر على أيّوب، إذ ابتلى بمرضٍ خبيث جعله يُعاني كثيرًا، جسديًّا ونفسيًّا، فنُفِيَ وخَسِرَ جميع من كانوا حوله فنَسَوْه، ولكنّ المُفارَقة أنّ أيّوب لم ينسَ إلهَهُ وبَقِيَ يستعطف مراحمه صابرًا، فكان أنّ الله أيضًا لم ينسَه، فأعتقه أخيرًا من تجاربه وأعاده بين شعبه نبيًّا منتصرًا، صفيًّا لله منتخَبًا، ناطقًا أمينًا باسمه، مبشّرًا بخلاصه من جيلٍ إلى جيل، وبَقِيَتْ عبارة "يا صبر أيّوب" خير دليل كيف استطاع هذا الإنسان أن يَخْلُصَ بفضلِ صبره اللّامتناهي النّابع من إيمانه والتصاقه الدّائم بالرَّبِّ وتسليمه لمشيئته حتّى في أَحْلَكِ ظروف حياته ومهما طالت فترة هذه القساوة الضّارِيَة.
في أيّامنا هذه، وفي ظلّ هذه الظّروف الصّعبة الّتي نَمُرُّ بها من أمراضٍ وأوبئة ومشاكل اقتصاديّة وأمنيّة ونفسيّة، كلّ واحد منّا قد يعرف أيّوبًا هنا وأيّوبًا هناك، وقد نجد نحن أنفسنا وسط الامتحان العظيم، فنقف أمام خَيارَين اثنين: إمّا أن نستسلم ونضعف ونترك الله ونكفر به فنخسر المعركة، أو نصبر إلى المُنتهى فنربح الحرب ونخلص، فهكذا فعل آباؤنا ونالوا الموعد... ونحن أيضًا، إذ لبسنا المسيح، بِتْنا جنسًا ملوكيًّا ظافرًا، ولن نرضخ للمحاولات الباطلة بل بصبرنا سوف نقتني نفوسنا ونبلغ خــــــــلاصـــــــــــــنـا! إنّ هذا الأمر لصعبٌ للوهلة الأولى، فتأتي نصيحة القدّيس باييسيوس الآثوسيّ لنا جميعًا، إذ يقول: "عندما يصبر الإنسان في التّجارب والضّيقات والمَصاعب، حينئذ يرسل الله له أفضل الحلول لمشاكله، لذلك علينا أن نصبر ونتواضع في سائر الظّروف. أي أن نصبر على كلّ شيء، مُبْتَغين فقط أن تعمل نعمة الله. لهذا السَّبب نحن نصبر ولا نتصرّف من أنفسنا كي نترك لله أمر التَّصرُّف كما يريد هو". هكذا، فلنقم نحن بما علينا بصبر ولننتظر خلاص الله. وما أعظم أعمال الرَّبّ، له المجد إلى أبد الآبدين، آمين!