في هذا اليوم تُقيم الكنيسة المُقدَّسَة تَذكار:
*القدّيس صفروني ساخاروف من إسكس *أعجوبة القدّيسة أوفيميا بشأن اعتراف إيمان المجمع المسكونيّ الرّابع *الشّهيد سيندوس البمفيلي *الشّهيد مرقيانوس إيقونية *الشّهيد مرتيروكليس *القدّيس البارّ لاون مانذرا *القدّيس البارّ نيقوديموس فاتوبيذي *الجديد في الشّهداء نيقوديموس الألباني *الجديد في الشّهداء نكتاريوس ناحية القدّيسة حنّة *القدّيسة المعادلة الرّسل أولغا الكييفيّة المدعوّة هيلانة.
* * *
✤ القدّيس صفروني ساخاروف من إسكس✤
الأب صفروني عمود من الأعمدة الّتي بنى الله عليها كنيسته. التماعة نارٍ ونورٍ أطلقه السّيّد، ليضيء به ظلمة السّقوط. سوطًا أرسله الرّبّ، ليؤدّب به بعض باعة الحمام على مداخل هيكل كنيسته… بسمة حنان إلهيّة، وإضمامة رفق، وسكب دمعة حبّ لكلّ الّذين أتوا إليه ليرعاهم ويتعهّدهم بالصّلاة، والإرشاد، والشّفاء النّفسيّ والرّوحيّ والجسديّ…
الأب صفروني (سخاروف) وُلد في أرض روسيا العظيمة، الشّاسعة وسع السّماء، عام 1896، وقد جالت عطيّة الله في كيانه؛ فحرّكت اللّون والشّكل رسمًا حمله ليعرض إبداعاته، في «صالون الشّتاء» و«التّويليري»، في فرنسا، ثمّ أخلى نفسه آخذًا صورة عبد خاطئ، وارتحل من أرض الأنوار السّاطعة والإبداعات البشريّة إلى صحراء التّوبة، والدّموع، والجهادات النّسكيّة المرّة الّتي توصل، بالنّعمة، إلى النّور الّذي لا يُرى ولا يُدنى منه. ارتحل إلى الجبل المقدّس، آثوس، في اليونان، عام 1925، ونزل من بريق الفنّ إلى موت الرّاهب المُحيي، إلى لاشيئيّةِ الإنسان، ووعيِهِ عدميّتَه، وانتظر، انتظر إنعامات وإشراقات الرّبّ إليه وعليه…
أن يتخلّص الإنسان من أناه في الفنّ، بعد أن ذاق التماعات النّجاح والشّهرة والأضواء الأرضيّة، معناه أن يلفّ نفسه في كفن لعازر، ويسعى إلى قبره، ليدفن نفسه، ويطبق على وجهه غطاء التّابوت وتراب الأرض، ويموت، وينحلّ في التّربة، ليعود السّيّد ويقيمه جابلًا إيّاه إنسانًا جديدًا، خارجًا من بطن أرض الأحياء إلى السّماء الأرضيّة، الّتي يسكنها الرّبّ يسوع المسيح في قلب كلّ مخلوق على هذه الأرض، وفي مدى السّماء والكون المحسوس وغير المحسوس. «إنّ الوجود على الأرض، بالنّسبة إلى الإنسان، هو عذاب لا حدّ له. لماذا نحتمل نحن كلّ هذا؟ لأنّ الخالق أتى وسكن معنا، ونحن، الآن، نعرفه شخصيًّا»…
خرج الأب صفروني، من قبره، لعازرَ جديدًا، خرج على نداء وصيّة المسيح له أن اخرُجْ، يا آدم، إلى فردوسٍ جديدٍ، أنا أوجدته لك، بالوصيّة الإنجيليّة، في حبّ قريبِك، ووعيِك أنّك تحمل، في ذاتك، الإنسانيّة جمعاء، كلّيّة هذا الكون، الّذي هو شجرة ضخمة؛ فلا تسقط منها ورقة واحدة، إلّا وأنت مصلٍّ لها كما لنفسك.
وبعد أن أعطاه الرّبّ يسوع المسيح نعمة النّسك، والأبوّة الرّوحيّة لعدّة أديار، في جبل آثوس، أخذه إلى فرنسا لينشر كتابات شيخه وأبيه الرّوحيّ، السّتاريتز سلوان، الّذي جلس عند قدميه مرتشفًا نعمة الله منه، كما يستقي العطشان من ينابيع الماء المتفجّر من بطن الأرض.
عام 1959، انتقل الأب صفروني إلى إنكلترّا، حيث أسّس دير القدّيس يوحنّا المعمدان، ضامًّا فيه رهبانًا وراهبات، من جنسيّات متعدّدة، التزموا، بالغالب، صلاة يسوع وحدةَ روح وحياة، كما حافظوا على الخِدَم اللّيتورجيّة أربعَ مرّات في الأسبوع، يُضاف إليها قداديس الأعياد، باللّغات الرّوسيّة، والإنكليزيّة، واليونانيّة، والفرنسيّة، في بعض الأحيان.
كتاب الرّاهب سلوان، حياته ومؤلّفاته، جمع، بين دفّتيه، كتاب «حياته حياتي» و«راهب من جبل آثوس». وكانت كتابات الرّاهب سلوان هديّة الأب صفروني الأولى إلى المؤمنين.
وفي دير السّابق، في إسّكس، كتب الأب صفروني، بعد أن تجاوز الثّمانين من العمر، كتابه «معاينة الله كما هو»، وهو مذكّراته الرّوحيّة، الّتي خطّ فيها خبرته مع الله حتّى الرّؤيا الإلهيّة.
وفي العام 1988، وصل السّهم إلى مداره، إذ أعلنت كنيسة القسطنطينيّة الأرثوذكسيّة قداسة السّتاريتز سلوان؛ فتهلّل الأب صفروني بالإنعامات الإلهيّة، وشكر.
إن قناة النّعمة الإلهيّة تتجلّى في أوجها، حين يحكي الرّاهب خبرته «في الصّلاة». هذا ما أظهره الأب صفروني، في كتابه «في الصّلاة»، خبرة معاشة لحركة الذّهن والقلب والنّفس، في مدار الصّلاة الّتي بإمكانها أن تصل، بنقاوتها، إلى قلب الله.
في كتاب «كلمات في الحياة والرّوح»، يخاطب الأب صفروني، بدأً، رهبانه وراهباته، ومن ثَمّ كلّ الّذين يودّون قراءة تلك الكلمات… ينحت، بإزميله، حجريّة القلب، ليشذّب النّتوءات منه، ويشكّله قلبًا لحميًّا على هيئة قلب الله… يدفع بالأقدام المسترخية، كي تتشدّد، وتمشي على دروب الخلاص.
معلّم، ملقّن، أب، راعٍ، مؤدّب بحنان، كلّ هذا، وأكثر بكثير، نلمسه في هذه الورقات، الّتي نقرأها في كتابنا هذا… هكذا، يعود الأب صفروني راسمًا لوحاته، أيقونات كلاميّة ولونيّة، على جدار ديره، وعلى صفحات قلوب رهبانه وراهباته ومريديه. كلّ همّه كان فتح قلوب قارئيه وعقولهم على الأرثوذكسيّة الحقّة… وكان هذا شغله الشّاغل، بعد أن سكن الغرب المضلّ بالبدع، والمادّيّة، والعلوم الأرضيّة.
في كلماته، نلمس مخاض عمره في الدّموع المسكوبة بين حديقة الجسثمانيّة والجلجلة… يضع إصبعنا على حقيقة إفرازات النّفس البشريّة، ويعطينا كلمة السّرّ للخلاص: «أحبّتي، إخوتي أخواتي، افتحوا قلوبكم، حتّى يخطّ الرّوح القدس هيئة المسيح عليها. هكذا، تصبحون، رويدًا رويدًا، قادرين على أن تقبلوا التّجارب بفرح، وكذا الموت والقيامة». وفَتْحُ القلب يتمثّل في سماع الكلمة الإلهيّة، وتطبيق الوصيّة الإنجيليّة. «ففي عيشنا الوصايا، نصبح، كيانيًّا، عضويًّا، مشابهين للمسيح»… «البشريّة تتوجّع بلا حدّ. المنفذ الوحيد هو أن نجد، في أنفسنا، الحكمة، والتّصميم على ألّا نحيا بحسب حكمة هذا الدّهر، بل أن نتبع المسيح».
كلمات الأب صفروني، هي كلمات إنجيليّة، «فيلوكاليّة»، بسيطة، رقيقة، عميقة، شفّافة، تدلّ على عمق معاناةِ هذا الشّيخ القدّيس، ومعرفتِه بالطّبيعة البشريّة. هاجسُه، الخطيئةُ، والدّعوةُ إلى التّوبةِ، والخلاصِ، فالاتّحادِ بالرّبّ يسوع بالرّوح القدس…
كلمة حبّ أخيرة أتركها وردةً على قبر الأب صفروني، الّذي همس لي الرّوح، في قلبي، يوم جلست إليه أتذكّر أيّامي معه، «… أنّه ليس ههنا». وقمت إليه في كلّ أرجاء الدّير، وفي الكنيسة، وفي القلب، وعرفت أنّه صار كلمةَ حبّ إلهيّة تطايرت في الكون، لتحمل كلّ مَن يتوق إلى سماع الكلمة، إلى الخلاص بالجهاد، والنّعمة، وسماع الوصيّة الإنجيليّة، وتطبيقها مع القريب والغريب…