نشرة كنيستي
نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.
الأحد 10 أيّار
العدد 19
الأحد (3) بعد الفصح (المخلّع)
اللّحن 3- الإيوثينا 5
أعياد الأسبوع: 10: الرَّسول سمعان الغيّور، البارّ لَفرنديوس، البارّة أولمبيَّا *11: تذكار إنشاء القسطنطينيّة، الشَّهيد موكيوس، كيرلّس وميثوديوس المعادِلَي الرُّسل *12: القدّيس ابيفانيوس أسقف قبرص، جرمانوس رئيس أساقفة القسطنطينيّة *13: انتصاف الخمسين، الشّهيدة غليكاريّة ولاوذيسيوس *14: إيسيذورس المستشهد في خيّو، ثارابوندُس أسقف قبرص *15: البارّ باخوميوس الكبير، أخلِّيوس العجائبيّ (لارسا) *16: البارّ ثيوذورس المتقدِّس.
كلمة الرّاعي
الكنيسة ليست طائفة
الكنيسة دومًا إلى جانب أبنائها وهي تتعهَّد البيئة والوطن الّذي تنوجد فيه. المسيحيُّون، منذ البدء، كانوا شهودًا للمحبَّة، كما هو معلوم وكما نقرأ في الرّسالة إلى ذيوغنيتوس (القرن 2 م.)، والّتي تكشف أنّ المسيحيّين "يحيون حياة غريبة ومدهشة بالفعل. يقطنون أوطانهم، فتحسّ أنّهم ضيوف مؤقّتون أو سكّان راحلون. وقد يشاركون مواطنيهم في كلّ شيء، إلّا أنّهم يعتبرون أنفسهم غرباء. البلد الغريب موطنهم، وموطنهم كالبلد الغريب... يحملون الجسد ولا يَحْيَون حسب الجسد. يجتازون حياتهم على الأرض ولكنّهم من سكّان السّماء (...) المسيحيّون للعالم كالنّفس للجسد. فكما أنَّ النّفس منضبطة بالجسد ولكنّها تحفظه، فكذلك المسيحيّون المنضبطون في العالم، فإنّهم يحفظونه". غايتنا الإيمانيّة "حياة أفضل" (يوحنّا 10: 10) في عالم أفضل على الصّعيد الإنسانيّ كما عرفنا الإنسان في الرَّبّ يسوع المسيح.
* * *
مسؤوليّتنا الإيمانيّة والإنسانيّة والوطنيّة هي مساندة الأبرار في إتمام واجباتهم بحسب الأصول والضّمير والعدالة، هذا هو الهدف الّذي نعمل لأجله. من هنا، الكنيسة الأرثوذكسيّة تتعاطى الشّأن العام شهادةً للحقّ حيثما وُجِد وتمجّ الباطل حيثما حلّ. الكنيسة تحبّ الإنسان وترفض خطاياه وضعفاته، وهي، مع انصاف كلّ من يسلك في استقامة الحياة والخدمة وتحمّل المسؤوليَّة لصالح المجتمع وبناء دولة القانون والمؤسّسات، وهي تدعو لمشاركة الخيرات بتمييز لخير جميع أبناء الوطن ...
"اِقْضُوا لِلذَّلِيلِ وَلِلْيَتِيمِ. أَنْصِفُوا الْمِسْكِينَ وَالْبَائِسَ" (سفر المزامير 82: 3)، هذا هو دور الكنيسة في العالم، وهذه هي الشّهادة الّتي يسعى ليعيشها المؤمنون في أيّة مسؤوليّة كانوا، أفي السّلطة أم خارج السّلطة، أفي موقع رسميّ أم في مواطنيّتهم. عمل الكنيسة خدمة ارتقاء الإنسان إلى عيش أفضل لحقيقته الكيانيّة، أي لكونه عابرًا في هذا العالم إلى الحياة الحقّانيّة الّتي نراها في المحبّة الإلهيّة الّتي تخدم ولا تتسلّط، تسندُ الفقير والمعذّب وكلّ قضيّة حقّ وتطالب بحقوق المنسيِّين والمهمَّشين والمتروكين ... هي تطلب وجه ربّها في الجائع والعطشان والعريان والمريض والمسجون والغريب ... وهي تثمّن حرّيّة الرّأي والتّعبير والنّضال السّياسي والاجتماعيّ لكلّ إنسان من أجل بنيان وطن أفضل يحترم إنسانيّة أبنائه ويحافظ على حقوقهم جميعًا ...
* * *
الكنيسة ليست طائفة إذ لا تحكمها الرّوح الانطوائيّة، بل هي منفتحة على العالم كلّه في انسجام مع ذاتها وعقائدها، في احترام كلّيّ لحقّ الاختلاف في الرّأي والنَّظرة ضمن أطر القانون والمؤسّسات. الصّوت يُرفَع للحفاظ على ساحات التّفاعل والتّواصل والخدمة، الّتي نريد لها أن تتّسِع في تفاعل إيجابيّ وديناميكيّة حضاريّة في روح الحفاظ على القيم الإنسانيّة والأخلاقيّة المُنبثقة من الإيمان بالله وعيشه لتجديد وجه بلادنا في الجمال والانسجام بين أبنائه. الكنيسة تدعو لحمل هموم النّاس، وأبناؤها منهم، وهي تشاركهم أوجاعهم ومخاوفهم وهواجسهم وانتظاراتهم من دولة ابتعدت، لزمن طويل، عن الاهتمام بشعبها والعمل على بنيان الإنسان والمجتمع في أرضها ...
الكنيسة ترفع صوت المغبون والمظلوم، أكان من أبنائها أم من أبناء الوطن المختلفين. الظّلم مكرهة والاستكبار رجاسة، والكنيسة هي ابنة التّواضع والوداعة والعدالة الّتي في البِرّ والتّقوى. نحن نحترم القوانين ونعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله، بعكس ما يُشاع ويستثمر به. لا نؤمن بالوجه الّذي يلغي الوجوه. فلا سلطة لدينا تعلو على سلطة المحبّة ولا يتعزّز حضورنا إلّا بالشّهادة للحقّ. لذلك، تتمسَّك الكنيسة بلبنان مجتَمَعًا مبنيًّا على الحرّيّة المسؤولة والانفتاح بما يضمن للمواطن حقوقه وحرّيّاته الأساسيّة بالإضافة إلى المساواة والتّكافؤ بالفرص بين أبناء الوطن والعدالة السّياسيّة والمجتمعيّة، كلّ ذلك في إطار مسيرة لتعميق المواطن في إنسانيّته وانتمائه الوطنيّ ...
* * *
يقلقنا تنامي الخطاب الطّائفيّ بسبب عدم التّوازن في الخيارات المتّخذة من السّلطات والّتي تنشئ مخاوف عند أطياف مختلفة من النسيج اللّبنانيّ المميَّز. لذلك، كنّا وسنبقى متمسّكين بخيار الدّولة المدنيّة الّتي يتساوى الجميع فيها في الحقوق والواجبات والفرص. هذا ما يحتاج حوارًا جدّيًّا وعميقًا بين كلّ أطياف المجتمع اللّبنانيّ لوضع خطّة تحاكي الواقع والحاجات والتّطلّعات لشعب هذا البلد.
ليست استقامة الرّأي "الأرثوذكسيّة" طائفة بل هي إيمان ثابت نسعى لعيشه في علاقتنا بالله وفي علاقتنا مع الآخَر. نحن، بناء على هذا الإيمان "نحيا ونتحرَّك ونوجد" (أعمال الرّسل 17: 28) لمصلحة الوطن الّذي نَنشد أن يكون في الحقّ. نحن نعمل ونصلّي لأجل كلّ العالم. نشتغل لازدهار البلد ونجاح الحكّام والسّلام الّذي من العلى، ونسعى أن يكون نهجنا الاستقامة. لذلك، نحن مؤمنون بالأبواب المفتوحة وبهذا اللبنان الّذي نريده رسالة حبّ وتجلٍّ للإنسانيّة الحقّانيّة في فسحة العيش في الشّركة والحوار والتّفاعل البنَّاء في عالم يفتقد إلى ذلك.
صرختنا هي لأجل خدمة أسمى لهذا البلد وأبنائه لرفع كلّ ظلم عن كلّ مواطن ومسؤول وجماعة لنبني وطنًا يكون منارةً وواحة رجاء بإنسانيّة أفضل ...
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما
طروباريّة القيامة (باللَّحن الثالث)
لِتفرحِ السَّماوِيَّات. ولتَبتَهِجِ الأرضِيَّات. لأنَّ الرَّبَّ صنعَ عِزًّا بساعِدهِ. ووَطِئَ المَوْتَ بالمَوْت. وصارَ بِكرَ الأموات. وأنقذَنا من جَوفِ الجحيم. ومَنَحَ العالمَ الرَّحمةَ العُظمى.
قنداق الفصح (باللَّحن الثّامن)
ولَئِنْ كُنْتَ نَزَلْتَ إلى قبرٍ يا مَن لا يموت، إِلَّا أَنَّكَ دَرَسْتَ قُوَّةَ الجحيم، وقُمْتَ غالِبًا أَيُّها المسيحُ الإله، وللنِّسوَةِ حامِلاتِ الطِّيبِ قُلْتَ افْرَحْنَ، ولِرُسُلِكَ وَهَبْتَ السَّلام، يا مانِحَ الواقِعِينَ القِيَام.
الرّسالة (أع 9: 32– 42)
رتِّلُوا لإِلهِنا رتِّلُوا
يا جميعَ الأُممِ صَفِّقُوا بالأيادِي
في تلكَ الأيَّامِ، فيما كانَ بُطُرسُ يَطوفُ في جَميع الأماكِنِ، نَزَل أيضًا إلى القدِّيسينَ السَّاكِنينَ في لُدَّة، فوَجَدَ هناكَ إنسانًا اسمهُ أَيْنِيَاسَ مُضَطجِعًا على سريرٍ مِنذُ ثماني سِنينَ وهُوَ مُخلَّع. فقالَ لهُ بطرُسُ: يا أينِياسَ يشفِيكَ يسوعُ المسيحُ. قُمْ وافتَرِشْ لنفسِك. فقام لِلوقت. ورآه جميعُ السَّاكِنين في لُدَّة وسارُونَ فَرَجَعوا إلى الرَّبّ. وكانت في يافا تِلميذَةٌ اسمُها طابيِتَا الّذي تفسيرُهُ ظَبْيَة. وكانت هذه مُمتَلِئةً أعمالًا صَالحةً وصَدقاتٍ كانت تعمَلُها. فحدَثَ في تِلكَ الأيّامِ أنَّها مَرِضَتْ وماتَتْ. فَغَسَلُوها ووضَعُوها في العِلِّيَّة. وإذ كانت لُدَّةُ بقُربِ يافا، وسَمعَ التَّلاميذُ أنَّ بطرُس فيها، أَرسَلُوا إليهِ رَجُلَيْن يسألانِهِ أنْ لا يُبطِئَ عن القُدُوم إليهم. فقام بطرُسُ وأتى مَعَهُمَا. فَلمَّا وَصَلَ صَعدوا بهِ إلى العِلِّيَّة. ووقَفَ لديِه جميعُ الأرامِلِ يَبْكِينَ ويُرِينَهُ أَقْمِطَةً وثِيابًا كانت تَصنَعُها ظَبيَةُ معَهَنَّ. فأخرَجَ بُطرُسُ الجميعَ خارِجًا، وجَثَا على رُكبَتَيْهِ وصَلَّى. ثمَّ التَفَتَ إلى الجَسَدِ وقالَ: يا طابيتا قُومي. فَفَتَحَتْ عَيْنَيْهَا. ولـمَّا أَبْصَرَتْ بُطرُسَ جَلَسَتْ، فناوَلَهَا يَدَهُ وأنهضَها. ثم دعا القدِّيسيِنَ والأرامِلَ وأقامَها لَديهمِ حيَّةً. فشاعَ هذا الخبرُ في يافا كلِّها. فآمَنَ كَثيرون بالرَّبّ.
الإنجيل (يو 5: 1– 15)
في ذلك الزَّمان، صَعِدَ يسوعُ إلى أورشليم. وإنَّ في أورشليم عند باب الغَنَمِ بِرْكَةً تُسَمَّى بالعبرانيّة ”بيتَ حِسْدَا“ لها خمسةُ أَرْوِقَة، كان مُضطجعًا فيها جمهورٌ كثيرٌ من المَرضى من عُمْيَانٍ وعُرْجٍ ويابِسِي الأعضاء ينتظرون تحريكَ الماء، لأنَّ ملاكًا كان يَنْـزِلُ أَوَّلًا في البِرْكَة ويحرِّكُ الماء، والّذي كان ينـزِلُ أوَّلًا من بعد تحريك الماء كان يَبْرَأُ من أَيِّ مرضٍ اعتَرَاه. وكان هناك إنسانٌ به مرض منذ ثمانٍ وثلاثين سنة. هذا إذ رآه يسوع ملقًى وعلم أنَّ له زمانًا كثيرًا قال له: أتريد أن تبرأ؟ فأجابه المريض: يا سيِّدُ ليس لي إنسانٌ متى حُرِّك الماء يُلقِيني في البركة، بل بينما أكون آتِيًا ينـزل قَبْلِي آخَر. فقال له يسوع: قُمْ احْمِلْ سريرَك وامْشِ. فللوقت بَرِئَ الرَجُلُ وحمل سريرَه ومشى. وكان في ذلك اليوم سبتٌ. فقال اليهودُ للَّذي شُفِيَ: إنَّه سبتٌ، فلا يحلُّ لكَ أن تحمل السَّرير. فأجابهم: إنّ الّذي أَبْرَأَنِي هو قال لي: احْمِلْ سريرَك وامشِ. فسـألوه: من هو الإنسان الّذي قال لكَ احملْ سريرَك وامشِ؟ أمّا الّذي شُفِيَ فلم يكن يعلم مَن هو، لأنَّ يسوعَ اعتزل إذ كان في الموضع جمعٌ. وبعد ذلك وَجَدَهُ يسوع في الهيكل فقال له: ها قد عُوفِيتَ فلا تَعُدْ تُخْطِئ لِئَلَّا يُصِيبَكَ شرٌّ أعظم. فذهب ذلك الإنسانُ وأخبرَ اليهودَ أنَّ يسوع هو الّذي أَبْرَأَهُ.
حول الإنجيل
قال الرَّبُّ يسوعُ للمُخلّع: "ها قد عُوفِيتَ فلا تَعُدْ تُخطِئُ لِئَلّا يُصيبَكَ أَشَرُّ". رُبَّ سائلٍ: ما هو الأشرّ؟! رجل قضى ثمانٍيًا وثلاثين سنةً طريح الفراش، وفوق ذلك يرى طوال هذه السّنين الأعجوبة تحصل أمام عينيه ولكن لغيره. أهناك أشرٌّ من هذا؟
إنسان اليوم هو نفسه كإنسان الأمس والغد... ينظر إلى المرض الجسديّ وكأنّه الشرّ الأعظم. هذا الجسد الفاني أُريده مُعافًى مدى الأيّام، وهذه الرّوح الخالدة لا بأس بما هي عليه ولا ضرورة لأيّ اهتمام بها. عمل صالحٌ أحيانًا والْتِفاتَةٌ من وقت لآخر إلى فقير يكفي هذه الرّوح.
يسوع، إلهُنا، وهو الإنسان الكامل أيضًا، لم يفكّر مثلنا؛ (لأنّه شابهنا بكلّ شيء ما عدا الخطيئة)، فقد أشفق على المرضى واهتمَّ بهم وبآلامهم، ولكنَّ الأهمَّ عنده كان الحصول على الخلاص الأبديّ: "اذهب ولا تعُد للخطيئة"، قالها الرّبّ في إنجيل اليوم وفي أماكن أخرى كثيرة.
هذا الإنسان، ربّما بسبب فرحه بأنّه صار كأيّ إنسان آخر طبيعيّ، يرغب بالسّلوك بحسب أهوائه وشهوته بِمُتَعِ الحياة الّتي حُرم منها، وبالتّالي أن يسير في طريق الخطيئة، لذا نَبَّهَهُ يسوع.
تنبيه الرّبّ له كان للسّامعين أيضًا، لتلاميذه ولليهود الموجودين في الهيكل. يسوع كان يكلّم إنسانًا لِكي يستفيدَ السّامِعُونَ ويَتَّعِظُوا (ونحن من هؤلاءِ السّامعِين).
لقد أراد ربُّنا مِن هذا الرّجل أن يَعلَمَ أنَّ الشَّلَلَ قد فارقَ جسدَهُ، ولكنّ في نفْسِهِ شَلَلًا أخطرَ وأشَدَّ فَتْكًا، لأنّه يقودُ إلى الهلاك؛ إلى العذاب الأبديّ.
إنسان اليوم يفتّش عن كلّ شيء فيه راحة جسديّة، مُتناسيًا أنَّ الرّوح هي الّتي تحتاج إلى الرّاحة. أو بكلام آخر، يَظُنُّون أنَّ الألم الجسديّ، العذاب، التّعب، كلّ هذه الأمور فيها انعكاس على الرّوح فتتعذّب.
القدّيسون فكّروا عكس ذلك، متناسين الجسد واحتياجاته، لأنّهم اعتبروها تُبعد الرّوح عن الوصول إلى الله. من هنا نرى النسّاك وآباء البرّية والرُّهبانَ كُلّهم ما وصلوا إلى القداسة إلّا عبر اهتمامهم بالرّوح واحتياجاتها، وأمور الجسد بما يتوافق مع الرّوح.
وقفة تأمّل، يا إخوة، بهذا الكلام، تأمُّلٍ حقيقيّ، عميق، تجعلُنا نَصِلُ جميعًا إلى نتيجة واحدة تقول: "تعال أيّها الرّبُّ يسوع واسكن أنت في داخل نفسي، أنِرني، وطهّرني لكي أتصرّف بحسب مرضاتك. آمين.
(من نشرة الكرمة، الأحد 11 أيّار 2014)
الشّهادة والقداسة
الحديث عن الشّهادة في المسيحيّة أمرٌ مرهونٌ بالشّخص، فالشّهادة هي فيضٌ من القداسة. فإمّا أن تكونَ ممتلئًا من الرّوح القدس وتكون حياتك كلّها شهادة صادقة لمسيحيّتك، وهذه هي القداسة، وإمّا أن تكون حياتك شاهدة على فراغٍ تحويه في ذاتك يؤول بك إلى الموت. في اللّغة العربيّة استشهد بمعنى قُتل في سبيل الله، هذا هو المعنى الإصطلاحيّ، لكنّ المعنى الاشتقاقيّ لكلمة الاستشهاد مشتقّ من الشّهادة، فاستشهد بمعنى سُئل للشّهادة أو طُلب للشّهادة، والشّهادة هنا الشّهادة للإيمان الّذي يدين به أو الّذي يؤمن به.
فإنّ طَغَمَة الشّهداء في كنيستنا سُئلوا عن إيمانهم فجهروا به وأعلنوه في قوّة وفي جرأة، وكانت شهادتهم كرازة أمام الحكام، ولكلّ من سمع شهادتهم، وكثيرًا ما ربحت هذه الشّهادة لملكوت السّماوات جموعًا آمنوا بالمسيح. كانت ثمرة هذه الشّهادة أنّ هناك أناسًا غير مؤمنين عندما يسمعون هذه الشّهادة يؤمنون بالمسيح، وأيضًا يطلبون أن يموتوا شهداء. هذا هو، إذن، معنى الاستشهاد، أن يشهد المسيحيّ للحقّ الّذي يؤمن به. فقد كان الشّهداء فخورين بدينهم وباتّباعهم للمسيح، ولم يكن الموت عندهم عارًا وإنّما كان لهم عزّةً وفخرًا. وأمّا في أيّامنا هذه، فربّما، عرض الموت ليس مطروحًا لدى المؤمن ليستشهد ولكن بِتنا بأمَسِّ الحاجة للشّهادة. يقول القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفم، بما معناه، أنّه لو عاش المسيحيّون مسيحيّتهم وشهدوا لها لما بتنا بحاجة إلى مبشّرين وواعظين، ولأمسى العالم كلّه مسيحيًّا.
أمّا القداسة، فهي أن تقتني الرّوح القدس في داخلك فما يعود يبرح منك. والقداسة ليست صفة تطلَق على إنسان مؤمن بل هي طريقة عيش، ليست مجموعة قوانين وعقائد، ليست سنن وشرائع، القداسة هي شهادة حياة، هي نور لا يحجبه عن غيرك شيء، هي قوّة تجذب نحو المسيح كلّ من عاين هذه الشّهادة متجسّدة في أناس يتصارعون مع أهوائهم ليغلبوها بقوّة ونعمة الله.
العالم اليوم بأمَسِّ الحاجة إلى شهود للحقّ، إلى قدّيسين حقيقيّين. أكثر ما أثّر في العالم اليوم هم القدّيسون الجُدُد في جبل آثوس، بايسيوس، بورفيريوس، أفرام كاتوناكيا، يوسف الهدوئيّ ... وكلّ هذه السّحابة من القدّيسين الّذين قدّموا للعالم شهادةً بيضاء. هؤلاء جذبوا العالم بأسره إلى الكنز المخفيّ وراء البحار وفي شقوق الأرض. ألا أعطانا الرَّبُّ نعمةً حتّى نشهد في حياتنا لمحبّتنا للمسيح كي يتمجّد هو فينا ويمجّدنا في ذاته، أي أن نكون قدّيسين، آمين.