نشرة كنيستي
نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.
الأحد 26 نيسان 2020
العدد 17
الأحد (1) بعد الفصح (توما الرّسول)
الإيوثينا 1
أعياد الأسبوع: *26: أحد توما الرّسول، الشّهيد فاسيلافس أسقف أماسية *27: الشّهيد في الكهنة سمعان نسيب الرَّبّ *28: التّسعة المستشهدون في كيزيكوس *29: الرَّسولان ياسنوس وسُوسيباترس ورفقتهما *30: الرَّسول يعقوب أخو يوحنَّا اللّاهوتيّ (الثّاولوغوس) *1: النّبيّ إرميا، البارّة إيسيذورة *2: نقل جسد القدِّيس أثناسيوس الكبير.
كلمة الرّاعي
يا تُومَا لا تَكُنْ غَيْرَ مُؤْمِنٍ
"إِنْ لَمْ أُبْصِرْ فِي يَدَيْهِ أَثَرَ الْمَسَامِيرِ، وَأَضَعْ إِصْبِعِي فِي أَثَرِ الْمَسَامِيرِ، وَأَضَعْ يَدِي فِي جَنْبِهِ، لاَ أُومِنْ" (يوحنا 20: 25)
كيف يموت إنسان ويتدمَّر جسده بالتّعذيب والصّلب وبعدها يقوم جديدًا متغيِّرًا غير خاضع لقوانين هذا العالم المادّيّة، يدخل الأماكن المُغْلَقَة وبنفس الوقت يأكل، ولكنّه غير مُحتاج للطّعام والشّراب ليحيا، ولا يمكن للمرض أو الموت أن يمسسه بعد! ...
هذا ما لم يكن توما قادرًا على تصديقه. هل يموت إنسان ويحيا من جديد إلى الأبد؟! ...
هذا هو رجاؤنا نحن المسيحيّين، هذا ما ننتظره وما نسعى إليه وما نطلبه في حياتنا هنا على الأرض. نحن نعيش في التّرابيّة، ولكنَّنا مؤمنون بأنّنا لسنا طينًا يعود إلى أمّه الأرض وتنتهي قصّته ... نحن لم نُخلق من العدم لنعود إلى العدم، بل للخلود في الحبّ والفرح والنّور ...
* * *
شكُّ توما هو شكُّ كلّ إنسان، لأنّ مسألة القيامة لا تنسجم مع العقل المحدود بما هو منظور وملموس ومحدَّد بالمقاييس ... القيامة مسألة ماورائيّة تتعلَّق بما وراء الحجاب، حجاب حدودنا المخلوقة، ولذلك هي تتعلَّق بالإيمان. ”وَأَمَّا الإِيمَانُ فَهُوَ الثِّقَةُ بِمَا يُرْجَى وَالإِيقَانُ بِأُمُورٍ لاَ تُرَى“ (عبرانيين 11: 1). توما والرّسل أيقنوا بحقيقة ما لا يُرى ووثقوا برجاء القيامة. لهم أُعطي أن يكونوا شهودًا على هذا كلّه، ولذلك، فهم ثبّتونا في إيماننا بالقيامة وبالحياة الأبديّة مع الرَّبّ ... هذه هي الشّهادة الرّسوليَّة عن حقيقة القــــــــــــــيــــــــامـــة و ”الإِيمَانِ الْمُسَلَّمِ مَرَّةً لِلْقِدِّيسِينَ“ (يهوذا 3).
لا غرو أنّ شكّ توما كان له الحدّ الفاصل بين الحقيقة والوهم، ولهذا جعل الرَّبّ من ضعف إيمانه قوّة للبشارة بحقيقة القيامة بالجسد من بين الأموات. رجاؤنا هو قيامة الجسد، لأنّ النَّفس لا تموت بموت الجسد بل تنتقل إلى حضرة الله. الجسد هو الّذي يفسد ويتحلَّل، وإيماننا بالقائم من بين الأموات يعني بأنَّنا واثقون من قيامتنا بالجسد في اليوم الأخير. نحن ننتظر ونترجَّى هذه الحياة الأبديّة حيث تلتئم كلّ البشريّة في حضرة الله، حيث يَمْضِي الّذين بلا رحمة ”إِلَى عَذَابٍ أَبَدِيٍّ وَالأَبْرَارُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ“ (متَّى 25: 46).
هدف التّجسُّد وكلّ سرّ تدبير الله الخلاصيّ هو هذه اللّحظة النّهائيّة الّتي تحقَّقت في المسيح القائم من بين الأموات، إذ فيه أُنجِز الخلاص، خلاص كلّ الخليقة وظهر الإنسان الجديد الإنسان الحقيقيّ والمُحَقَّق بحسب قصد الله. البشريّة في يسوع المسيح القائم من بين الأموات صارت تسير نحو الحياة من خلال الموت، بينما خارج المسيح تسير البشريّة في الحياة نحو الموت! ...
* * *
اليوم، دخلنا زمنًا جديدًا الإنسانيَّةُ في ناجِزة بالمسيح وفيه. الإنسان الكامل تحقَّق، ليس كما يشتهي رؤساء هذه الدّنيا، أي على صورة الرّجل الخارق (Superman) الّذي يحقِّق العدل بالقوَّة الدنيويّة بل هو حقَّق العدالة الكاملة والرّحمة الكاملة بصليب الحبّ الإلهيّ لغفران خطايا البشريّة قاطبةً. لا يستطيع البشر أن يجعلوا الله على صورة أهوائهم، فهو قد كسَّر كلّ أصنامهم الفكريّة والإيمانيّة المشوَّهة الّتي تريد الله إله انتقام وقوّة تسحق الأعداء وتبيدهم، وإلهًا يجعل من عبيده أقوى من أعدائهم بذراع قدرته ...
إلهنا علّمنا على الصَّليب أنّ موت الجسد يُغْلَبُ بالموت عن الجسد، موت الرّوح يُنتَصَرُ عليه بالموت عن روح العالم. الحسد غُلب بالمحبّة والحزم والقسوة باللّطف والمواجهة والاستكبار بالتّواضع وإعلان الحقّ والتّجبُّر بالوداعة وكلمة الله والتَّسلُّط بإخلاء الذّات وكِبَر النَّفس والألم بالاتَّكال على الله والصَّبر والخيانة بالمسامحة والمكاشفة ...
* * *
أيُّها الأحبّاء، لا يَشُكَّنَّ أحدٌ بقيامتنا بالجسد في يوم المجيء الثّاني للرَّبّ يسوع المسيح حيث سيدين الأحياء والأموات، فلنحيا بموجب هذا الرّجاء اليقينيّ الَّذي أكَّده لنا الرَّبّ من خلال سماحه لتوما بأن يشكّ ويتحدَّى إخوته الرّسل ويتأكَّد بأنّ الرَّبّ قد قام وأمات الموت وظهر للرّسل. فلنجاوب شكّ توما الّذي فينا بيقين الرّسول توما الّذي عاين أثر المسامير في اليدين والحربة في جنبه وجالس الرَّبّ يسوع، المنبعث من الرّمس، مع التّلاميذ لأربعين يوم بعد القيامة.
”طوبى للّذين آمنوا ولم يرَوا“ (يوحنا 20: 29). هذه تعزيتنا من الرَّبّ نفسه الّذي يشدِّد إيماننا. نحن نعرف أن الرَّبّ قام من بين الأموات لأنّنا نغلب الخطيئة بنعمته، ننتصر على الأهواء بقدرته، ونحمل صليبه بمعونة رحمته.
نحن ننتظر القيامة العامّة، ولكنَّنا منذ الآن نختبر الحياة الجديدة بالرّوح القدس السّاكن والفاعل فينا، ومن خلال سرّ الأفخارستيّا وباقي الأسرار الّتي فيها نعيش سرّ الملكوت الحاضر الآن وههنا والآتي في الدّهر العتيد ... آمين
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما
طروباريّة القيامة (باللّحن الخامس)
المسيح قام من بين الأموات، ووطئ الموت بالموت، ووهب الحياة للَّذين في القبور.
طروباريّة الرّسول توما (باللّحن السّابع)
إذ كان القبرُ مختومًا أشرقتَ منه أيّها الحياة، ولما كانتِ الأبوابُ مُغلقة، وافيتَ التّلاميذَ أيّها المسيحُ الإلهُ قيامةُ الكلّ. وجدّدتَ لنا بهم روحًا مستقيمًا، بحسب عظيم رحمتك.
القنداق (باللّحن الثّامن)
ولئن كنتَ نزلتَ إلى قبرٍ يا مَن لا يموت، إلّا أنَّك درستَ قوَة الجحيم، وقمتَ غالبًا أيُّها المسيحُ الإله، وللنّسوةِ حاملاتِ الطّيب قلتَ افرحنَ، ولِرسلِكَ وَهبتَ السّلام، يا مانحَ الواقعينَ القيام.
الرّسالة (أعمال الرّسل 5: 12-20)
عظيم هو ربُّنا وعظيمة هي قوّته
سبِّحوا الرَّبَّ فإنَّه صالِحٌ
في تلكَ الأيّام جَرَتْ على أيدي الرُّسُل آياتٌ وعَجائبُ كثيرةٌ في الشَّعب. (وكانوا كلُّهُم بِنَفْسٍ واحِدَةٍ في رُواقِ سُليمان، ولم يكُنْ أحَدٌ من الآخَرينَ يَجترِئُ أنْ يُخالِطَهُمْ. لكنْ كانَ الشَّعبُ يُعظِّمُهمُ. وكانَ جماعاتٌ مِنْ رجال ونِساءٍ ينضَمُّونَ بِكَثَرَة مُؤمِنينَ بالرَّبِّ) حتّى إنَّ النّاسَ كانوا يَخرُجونَ بالمرضى إلى الشَّوارِع ويضعونهُم على فرُشٍ وأَسِرَّةٍ ليَقَعَ ولَوْ ظِلُّ بطرسَ عنِدَ اجتيازهِ على بعْضٍ منهم. وكانِ يجْتمِعُ أيضًا إلى أورَشَليمَ جُمهورُ المدُنِ الّتي حوْلها يَحمِلون مرضىً ومعذْبينَ مِنْ أرواح نَجِسة. فكانوا يُشفونَ جَميعُهُم. فقامَ رئيسُ الكهَنةِ وكلُّ الّذينَ معهُ وهُمْ مِن شيعَةِ الصّدُّوقِيّينَ، وامتلأوا غَيرةً، فألقَوا أيدِيَهُم على الرُّسُلِ وجَعَلوهُم في الحبسِ العامّ، ففَتَحَ ملاكُ الرَّبِّ أبوابَ السِّجنِ ليلًا وأخرَجَهُم وقالَ امْضُوا وَقفِوا في الهيكلِ وكَلِّموا الشَّعبَ بِجميع كلِماتِ هذه الحياة.
الإنجيل (يوحنا 20: 19-31)
لمّا كانت عَشيَّةُ ذلِكَ اليومِ، وَهُوَ أوَّلُ الأُسبوع، والأَبوابُ مُغلَقةٌ حيثُ كانَ التّلاميذُ مُجتمِعينَ خوفًا مِنَ اليهودِ، جاءَ يسوعُ ووقفَ في الوَسْط وقالَ لَهم: السّلامُ لكم. فلمَّا قالَ هذا أراهم يَدَيهِ وجَنبَهُ. ففرِحَ التّلاميذُ حينَ أبصَروا الرَّبَّ. وقال لهم ثانية: السّلامُ لكم. كما أرسَلني الآبُ كذلكَ أنَا أرسِلُكم. ولما قالَ هذا نَفَخَ فيهم وقالَ لهم خذوا الرُّوحَ القُدُسِ، مَن غفرتُم خطاياهم تُغْفَرْ لهم، ومَن أمسكتم خطاياهم أُمسِكَتْ. أمَّا توما أحَدُ الاثنيَ عشَرَ الّذي يقالُ لهُ التّوأَمُ فلم يكنْ معَهم حينَ جاءَ يسوع. فقالَ لهُ التّلاميذُ الآخَرونَ إنَّنا قد رأيْنا الرَّبَّ. فقالَ لهُم إنْ لم أُعايِنْ أثرَ المساميرِ في يدَيْهِ وأضَعْ إصبَعي في أثرِ المساميرِ وأضَعْ يدي في جَنبِهِ لا أُومنِ. وبعدَ ثمانيةِ أيّامٍ كانَ تلاميذهُ أيضًا داخِلًا وتوما معَهم، فأتى يسوُعُ والأبوابُ مُغلقَة، ووقفَ في الوَسْطِ وقالَ السّلامُ لكم. ثمَّ قالَ لتوما: هاتٍ إصبَعَكَ إلى ههنا وعَاينْ يَدَيَّ. وهاتِ يَدَكَ وضَعها في جَنبي ولا تَكُنْ غيرَ مُؤمنٍ بَل مؤمنًا أجابَ توما وقالَ لهُ: رَبِّي وإلهيِ. قالَ لهُ يسوعُ لأنَّكَ رأيتني آمنت. طوبىَ للّذينَ لَمْ يَرَوا وآمنَوا. وآياتٍ أُخَرَ كثيرةً صَنَعَ يسوعُ أمامَ تلاميذِهِ لم تُكتَبْ في هذا الكتاب، وأمَّا هذهِ فقد كتبَتْ لتُؤمِنوا بأنَّ يسوعَ هو المسيحُ ابنُ الله. ولكي تكونَ لكم إذا آمنتم حياةٌ باسمِهِ.
حول الرّسالة
اختارت الكنيسة الإعلان "عظيمٌ هو ربّنا وعظيمةٌ هي قوّته" قبل سرد الفصل المتعلّق بالأحد الأوّل بعد القيامة والمعروف بأحد توما، وذلك للدّلالة أنَّ الله محبّة، ويريد الكلّ أن يخلصوا وإلى معرفة الحقّ يُقبلوا.
الإنجيليّ لوقا، يُوضح عدّة نقاط:
1- أنَّ الجماعة المسيحيّة غير منغلقة على ذاتها، لأنّ نور القيامة لا بُدَّ أن يضيء للّذين في الظّلام، وبانسكاب الرّوح على التّلاميذ جعلهم يجرون آيات وعجائب في الشّعب.
الميزة المهمّة في المسيحيّين أنّهم كلّهم كانوا "يجتمعون بنفسٍ واحدةٍ" لكَوْنِهم وُلدوا من روحٍ واحدٍ، هذا، بالإضافة للعجائب، قد جَعَلَ "جماعات من الرّجال والنِّساء ينضمّون بكثرةٍ مؤمنين بالرَّبِّ". وهذا يجعلنا نقف متأمِّلين بقدرةِ إلهنا وقوّته في جعل أتباعه واحدًا، وبدل الإنغلاق والتّقوقع، الجماعة الحيّة تتوجّه نحو الجميع وليس هذا فقط بل وتجعل كلَّ من يلتصق بها واحدًا معها وفيها، كما الخمرة من حبّات عنبٍ متعدِّدة، والخبزة الواحدة من حبات قمح كثيرة.
قوّة الله تظهر في رسله، فكما شفى الرَّبّ النّازفة الدّم عندما لمست هُدب ثوبه، هنا النّعمة الإلهيّة تفعل فيهم وتشفى المرضى حتّى لو وقع فقط ظلُّ التّلاميذ عليهم.
2- قوى الظّلام لن تقف صامتةً أمام نور القيامة. فمن المستغرّب أن يرى عاقلٌ مرضى يُشفَون ويضطرب غيظًا، إلّا إذا كان يسكنه روحٌ مخالفٌ لروح الله، حتّى ولو كان قد قضى حياته أمام هيكل الله والمذبح، فالشرّير يتحكّم بالَّذي سمح للأهواء البشريّة أن تستعبده.
الكنيسة الحيّة، الفاعلة بين البشر، معرَّضة لهجمات من الدّاخل والخارج، فالصّراع قائمٌ ولا بُدّ، لكونها تتحدّى روح العالم الّذي يسعى لاضطهادها وتقييدها داخل سجنٍ كيلا تظهر ظلمتهم أمام استعلان نور المسيح.
3- أراد لوقا أن يعلن قدرة الرَّبّ بأتباعه، مُظهرًا أنّ الشّرّير مهما تطاول يبقى محدودًا كما الظّلمة أمام النّور. جيوش الملائكة تحرّر المؤمنين من كلّ العقبات والقيود ليثبتوا بجرأةٍ وينقلوا للبشريّة جمعاء كلمة الحياة، يسوع المسيح.
المسيحيّون من العالم، فالرّسل بقوا في الهيكل، في مجتمعهم، وبالوقت ذاته مؤمنين بالرَّبِّ يسوع وهذا ما أعطى لارتباطهم بالله بُعدًا جديدًا، كيانًا يبثُّ الحياة في كلّ مَن يحتكُّ بهم أو ينتمي إليهم، وتجعل المراقب لهذه الخليّة النّابضة بالحياة مع المسيح القائم من بين الأموات، يصرخ: "عظيمٌ هو الرَّبّ يسوع وعظيمةٌ هي قوّته"، آمين.
المحبّة الكلّيَّة
خُلق الإنسان على صورة الله ومثاله. كلّ صفةٍ ومثال يتحلّى بهما الإنسان هما من الله، والله لأنّه خيرٌ مُطلق، فما هو عند الإنسان من خير هو من الله، أمّا الشّرّ فهو انتفاء الخير، لكنّ الخير في الإنسان يبقى محدودًا ونسبيًّا وجزئيًّا مقارنةً مع ما عند الله من صفات خيّرة وكلّيّة ومطلقة. وقد سبق أفلاطون أن قارب هذه النّاحية وعبر عنها آنذاك بنظريّة المُثُل بطريقة مُبْهَمَة، خاصّةً بعد ما عاينه الإنسان ولمسه من تغيير في المفاهيم والمعرفة بتجسّد ابن الله. "ولمّا حان ملءُ الزّمان أرسل الله ابنه الوحيد مولودًا من امرأة تحت النّاموس ليفتدي الّذين تحت النّاموس لننال التّبنّي" (غلا٤:٤). هذه هي المحبّة الكلّيّة لله الّتي بدأ الإنسان يختبرها ويعيشها بالرَّبّ يسوع المسيح الّذي صار إنسانًا متواضعًا لأجلنا ليرفعنا إليه لأنّه تبنّانا بالحقيقة. وكما قال القدّيس أثناسيوس الكبير: "ابن الله صار ابن الإنسان لكي يصير أبناء الإنسان، أي أبناء آدم، أبناءَ الله".
فور ولادة الإنسان ينشأ وينمو على هذه المحبّة، أي محبّة الله له لأنّه أعطاه الحياة. محبّة الله وكلّ ما يخرج من الله للإنسان هو كلّيّ بما للكلّمة من معنى، ذلك أنّ الله لا يعطي الإنسان شيئًا ناقصًا. بغضّ النّظر عن السّؤال: هل المحبّة فضيلة فطريّة أم مُكتسبة في الإنسان؟ علمًا أنّ الله لم يفصل خيرًا عن الإنسان.
تقول الآية: "الله محبّة ومن يثبت في المحبّة، يثبت في الله، والله فيه (١يو ٤: ١٦). مركز المحبّة الكَوْنيَّة ومحورها هو الله ولا تنفصل عنه. جعل الله الإنسان جزءًا منه في هذه المحبّة، إذا ثبت فيه. يُعطي الله الإنسان كما بمقدور الإنسان احتماله، وليس فوق طاقته. لنُعطِ مثلًا عن ذلك إذ عبَّر الرَّسول بولس بقوله في التّجربة: "لم تُصِبْكُم تجربة إلّا بشريّة. ولكنّ الله أمين، الّذي لا يدَعكم تجرَّبون فوق ما تستطيعون، بل سيجعل مع التّجربة أيضًا المنفذ، لتستطيعوا أن تحتملوا" (١كور ١٠ : ١٣).
نعم ظهرت محبّة الله بقوّة للإنسان بتجسّد ابنه الوحيد. ولكنّ الله ذهب في هذه المحبّة إلى الذُّروَة أي إلى الكمال. أحَبَّ الخطأة وتحنَّنَ عليهم وعلى المرضى والمستضعفين والمهمَّشين، مجسّدًا هذه المحبّة بأعمال وأقوالٍ حقيقيّة منها: "جئت لأَخدُم لا لأُخْدَم"، "من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر"، "من ضربك على خدّك الأيمن دُرْ له الأيسر"، "أحبّوا أعداءكم باركوا لاعنيكم"، الأصحّاء ليسوا بحاجة إلى طبيب بل المرضى، لم آتِ لأدعو أبرارًا بل خطأة إلى التّوبة"... كان بمقدور يسوع أن يتجسّد، يعلّم، يعِظ، يصنع العجائب، يدعو إلى التّوبة، يفتح باب الملكوت والخلاص للإنسان ويصعد إلى السّماء إلى أبيه. بالرُّغمِ من معاكسته وكلّ التّضحيات الّتي بذلها والإضطهادات الّتي عاناها الرَّبّ يسوع في طفولته، وأثناء خدمته وبشارته، كان يشعر أنّ الإنسان بحاجة إلى أكثر من ذلك، عن استحقاق أو بدون استحقاق لا فرق عنده، لذلك كان لا بُدَّ من الصّليب والفداء ليكتمل حبّ الله للبشريّة، بما نحن البشر نفهمه عن الاكتمال الّذي لا حدود له في سرِّ الله، إذ قال: "ليس لأحدٍ حبٌّ أعظم مِنْ هذا: أن يضع أحدٌ نفسه لأجل أحبّائه" (يو١٥: ١٣). لذلك لا معنى للصّليب بدون سرِّ الإفخارستيّا أو العكس، "مَنْ يأكلّ جسدي ويشرب دمي يَثْبُتُ فيّ وأنا فيه"، ولا معنى للقيامة بدون الصّليب .
مِن هنا قول القدِّيس غريغوريوس النّيصصيّ: "معرفة الله هي جبل شديد الانحدار وصعبُ التّسلُّق، أغلبيّة النّاس بالكاد يَصِلون سفحه".
وهذا يعني أنْ تلاقي الله في محبّته لك بالطّرق والوسائل الّتي علّمك أن تسلكها. ولا تنسى قول الرَّبّ "بدوني لا تستطيعون أن تفعلوا شيئًا"، ذلك حتّى لا تنسب مواهب الله المجّانيّة لك فتتكبّر ، "إذا كنت أقول لكم الأرضيّات ولا تفهمون فكيف إذا قلت لكم السّماويّات".
علَّمنا يسوع أنّ الله الآب والابن والرّوح القدس، هو ثالوث في جوهر الهي واحد، وأنّ هذا الثّالوث يعيش المحبّة الكلّيّة الدّائمة الّتي لا تنقطع. حتّى الإيمان ليس شيئًا إلّا إذا كان عامِلًا بالمحبّة كما قال بولس في (١ كور١٣: ٢): "وَإِنْ كَانَ لِي كلّ الإِيمَانِ حَتَّى أَنْقُلَ الْجِبَالَ، وَلكِنْ لَيْسَ لِي محبّة، فَلَسْتُ شَيْئًا".
محبّة الله للإنسان كانت أبدًا ودائمًا كي لا يخاف الإنسان، ومحبّة الإنسان للإنسان هي لعدم الموت.
ولم يَتَوانَ القدّيس النّيصصيّ المذكور أعلاه بإبداء رأيه الخاص فيما خصّ خلاص الكلّ. وذلك لثقته الكبيرة بمحبّة الله ورحمته.
"لأنّ محبّة الله انسكبت في قلوبنا بالرّوح القدس المُعطى لنا" (رو 5: ٥).