في هذا اليوم تُقيم الكنيسة المُقدَّسَة تَذكار:
*الرَّسول يعقوب الكبير، شقيق القدّيس يوحنّا اللّاهوتيّ *القدّيس البارّ اكليمنضوس المرنّم *الشّهيد مكسيموس، تاجر أفسس *أبونا الجليل في القدّيسين أفريا الألبانيّ الصّانع العجائب *الجديدة في الشّهيدات أرغيرا بروسا *الشّهيدة في العذارى صوفيّا فيرمو الإيطاليّة *الشّهداء يعقوب وماريان ورفاقهما *الشّهداء أماتور وبطرس ولويس قرطبة *القدّيس البارّ سينوول وايلز *القدّيس البارّ ديزيدراتوس غوردون الفرنسيّ * القدّيس البارّ أركونولد لندن *أبونا الجليل في القدّيسين بومبونيوس نابولي *القدّيس البارّ أغناطيوس برينشانينوف، أسقف ستافروبول *الشّهيد في الكهنة أوتروبيوس سانت الفرنسيّ.
* * *
✤ القدّيس أغناطيوس بريانشانينوف أسقف ستافروبول ✤
ولد سنة 1807م لعائلة روسية نبيلة في مقاطعة فولوغدا. تسمى في المعمودية باسم ديمتري. صاحب ذكاء خارق وطوية نبيلة قوية. الصلاة إلى الله في الطبيعة بتؤدة ويقظة كانت نشوته منذ الصغر. كان يحب أن يذهب إلى الكنيسة ويقرأ الإنجيل، قراءة سير القديسين كانت له متعة. فيما بعد، كتب يقول: “لم يكن لي إنسان، يا إلهي، أفتح له قلبي. ولكن كان قديسك بيمن وسيصوي ومكاريوس يحدثون في نفسي انطباعاً عجيباً. أحياناً كانت أفكاري تنطلق إلى الله حين كنت أصلي وأقرأ. وشيئاً فشيئاً استقر السلام والسكينة في نفسي. في الخامسة عشرة من عمري خيم على روحي وقلبي صمت لا يوصف. لم أفهم كنه ما حدث لأني حسبت أن هذا حال كل الناس”.
بعد دراسة ممتازة تلقاها في المنزل الوالدي انضم إلى مدرسة الهندسة العسكرية في بطرسبرج. لمع فلفت انتباه الدوق الأكبر نيقولاوس، الذي صار، فيما بعد، القيصر نقولا الأول، فجعله في حماه. حياة العالم، يومذاك، تركت في نفسه شعوراً بالفراغ. أما العلوم والفلسفة فكانت أعجز من أن تشبع جوعه الروحي. بدموع كان يبتهل إلى الله ألا يلقيه في الضلال واليأس. كان يكرس أوقات فراغه، بمعية صديق له اسمه ميخائيل، للصلاة ودراسة كتابات آباء الكنيسة. كتب يقول: “قداستهم هي ضمانة دقتهم… قراءة الآباء علمتني أن الحياة الأرضية ينبغي تكريسها لإعدادنا للأبدية، كمثل غرفة الانتظار تفضي بنا إلى قصر ملكي جليل”. إذا اعتملت فيه هذه الأفكار واقتنع أن كمال الحياة المسيحية هو في الرهباينة- الرهبان كنور للإخوة الذين في العالم- شرع يتصل سراً بآباء دير القديس الكسندر نفسكي. هؤلاء أذهلهم نضجه الروحي فشجعوه على متابعة بحثه رغم معارضة ذويه وإدارة المدرسة. في العام 1826 أصيب بمرض عضال كاد أن يودي بحياته، الأمر الذي جعله ينصرف إلى الصلاة والقراءة بالأكثر.
واسترد عافيته فتعرف إلى الأب ليونيد، وريث تقليد القديس باييسي فاليتشكوفسكي (15 تشرين الثاني) وساريتز دير أوبتينا أو بتينيا العتيد. رغم كل العقبات، رضخ لدعاء ضميره الملحاح. ومع أنه رُقي وصار ضابطاً فإنه استقال بعدما أصابه المرض من جديد وانضم، طالب رهبنة، إلى دير القديس ألكسندر سْفِير، وجعل نفسه مشمولاً برعاية الستاريتز ليونيد.
خدم في المطبخ خاضعاً لأحد خدام أبيه السابقين. إذ كان ينحني للإخوة، في مناسبات عديدة كانت النعمة تفتقده لتتركه في حال فائقة للطبيعة أياماً. طاعته الكاملة جعلت الرهبان ينظرون إليه بإكبار. وما كان ليفوت على نفسه فرصة يكشف فيها أفكاره لأبيه الروحي الذي عمل على إنشائه على أعرق التقليد الرهباني الأصيل مما ندر وجوده يومذاك.
في العام 1828 تبع شيخه إلى منسك بلوشانسك ثم إلى أوبتينو، ثم أقام، بمعية صديقه ميخائيل في العديد من الأديرة. أحد الآباء الذين التقاهم بثه هذه الكلمات التي بقيت محفورة فيه عميقاً: “إذا مر علي يوم واحد لم أنتحب فيه على نفسي كما على إنسان هالك فإني أحسي نفسي أني قد أصبت بالعمى الروحي”.
حاول والد القديس أن يسترده إلى المنزل العائلي بحجة مرض والدته فلم ينجح. في العام 1830 ذهب الصديقان إلى دير القديس كيرللس حيث مرض ديمتري مرضاً شديداً. فلما عادت إليه عافيته صُير راهباً بيد أسقف فولوغدا باسم أغناطيوس. وبعد ذلك بقليل صُير شماساً فكاهناً.
جعلوه رئيساً لدير لوبوف في أبرشية فولوغدا. كان الدير في حال من الخراب. رغم صغر سن أغناطيوس ورقة صحته فإنه برز كإداري وأب روحي موهوب. فازداد عدد الرهبان وجرى ترميم الأبنية وانتظمت الحياة الرهبانية في الدير.
من جديد عانى أغناطيوس من تردي حاله الصحية بسبب المناخ الرطب غير الصحي للدير الذي كان محاطاً بالمستنقعات. لهذا جرى نقله إلى دير آخر في أبرشية موسكو. ما إن سمع الإمبراطور بحال محميه حتى أسماه أرشمندريتاً ورئيساً لدير القديس سرجيوس، القريب من بطرسبرج. كلفه بتحويل الدير إلى شركة رهبانية نموذجية. واقع الدير الجغرافي والمناخي والحال المذرية للأبنية وقربه من العاصمة والعلاقات التي لا بد منها مع القصر، كل هذه وسواها كانت عقبات أمام كل ما تعلمه قديس الله من خلال قراءته للآباء في شأن الشروط اللازمة للحياة الرهباينة. غير أنه وضع كل ثقته في عناية الله فتمكن في وقت قصير من ترميم الأبنية وضبط حياة الشركة ومراعاة الخدم الليتورجية حتى أن سيل الحجاج ازداد وحمل معه العديد من طلاب الحياة الرهبانية. ومع أن الصعوبات الصحية أضنته فإنه تمتع بصفات ممتازة في شأن قيادة رهبانه روحياً. كان صبوراً واسع الصدر حيال ضعفات البشرة. عرف كيف يكون أباً للجميع وعرف كيف يعطي الشركة دفعاً روحياً كبيراً. كان يشدد بخاصة على أهمية كشف الأفكار للأب الروحي وعلى الجهاد الداخلي باستعمال سلاح اليقظة والرزانة وصلاة يسوع.
بعد أربع سنوات من ذلك سمي مفتشاً لكل أديرة أبرشية بطرسبرج. مذ ذاك اتسعت دائرة تأثيره على الشبيبة. ولكن كان له أيضاً أعداء عديدون. فإن بعض الإكليروس، حسداً منه، لتبوئه مناصب عالية، وكذلك بعض المترفهين من علية القوم، أزعجتهم اتهاماته لأوساطهم بالانحلال الأخلاقي، سعوا بعناد إلى إفساد جهوده وتقبيحها. في وسط هذه التجارب لم يكف أغناطيوس عن رفع الشكر لله، وفي مراثيه كتب: “هذا بالذات أعطاني السيد الرحيم أن أعرف ذلك الفرح وذاك السلام، سلام النفس، الذي لا يُعبر عنه بالكلام. هنا منحني أن أذوق المحبة والسعادة الروحية في الساعة عينها التي ألتقي فيها عدوي الذي يريد أن يقضي علي، فيصير وجه عدوي في عينيّ كمثل وجه ملاك منير… ما أثمنها فرصة أن يكون المرء ضحية على غرار يسوع، أو بالأحرى، يا لها من فرصة أن يُصلب المرء لدى المخلص كلص اليمين وأن يقول: أما لنا فبعدل فاذكرني يا سيد في ملكوتك!” حين كانت تداهمه تجارب من هذا النوع كان يدخل إلى قلايته ليستغرق في الصلاة السابحة بالدمع إلى أن تحين اللحظة التي تأتي فيها النعمة الإلهية لتملأه فرحاً لا يُوصف. كلمة الله كانت تتدفق من ذاتها في قلبه لتملي عليه أعماله الروحية. بعد ذلك، حين كانت تغادره تلك الحالة، كان يخرج من قلايته مشع الوجه صافي الطوية.
في العام 1847، إثر الإنهاك الجسدي الذي اعتوره، أعفي من مهامه واعتزل في دير نيقولاوس بابييفو، في مقاطعة كوستروما بقرب الفولغا. استفاد من فترة الهدوء والصمت هذه لينصرف إلى كتابة العديد من الرسائل الإرشادية والمقالات لاسيما منها المتمحورة حول ممارسة صلاة يسوع. كان يحذر من الوهم، لاسيما المبتدئين الذين ليس لهم من يتولى رعايتهم. كما كان يؤكد التوبة الصادقة والتواضع الطاهر بالدموع اللذين وحدهما يحميانا من الأوهام المتأتية من الغرور والرضى عن النفس. كان يصرف المبتدئين عن أتباع الطرائق التي استعملها الآباء ليثبتوا به الذهن في القلب. كما كان يشير إلى المسرى الأخلاقي المدفوع بالطاعة للوصايا الإنجيلية باعتباره الأداة التي تقضي بنا إلى التنقي من أهوائنا وتعد قلوبنا لتصير آنية، متى شاء الله، لميرون صلاة القلب. لا يوصي بالاستغراق في صلاة التوبة مركزاً انتباهه على كلمات صلاة يسوع التي تتردد أولاً بصوت خافت ثم تتحول، شيئاً فشيئاً، إلى صلاة داخلية. إذ يحفظ الذهن انتباهه على هذا النحو يدخل في تعاطف والروح التي يسميها الآباء “القلب”. فإنه من ذاته، بنعمة الله، يُكشف لنا موضع القلب. كل كياننا، إذ ذاك، يُجتذب، بتوثب لا يوصف، نحو الهذيذ الحق والطيبات الروحية المجانية الخالية من الوهم، وكذلك نحو فرح معاينة الله الحي. لكن هبة النعمة هذه وكذلك المحبة الإلهية المسكوبة في النفس التي تبلغ قمة الفضيلة، تبقى مقفلة إلى الأبد دون أولئك الذين يريدون أن يتمكلوا فيها في غير أوانها، بجسارة وتهور.
بعدما استعاد أغناطيوس مهامه في دير القديس سرجيوس، إثر إقامة في أوبتينو حيث لم يتمكن من البقاء رغم رغبته في الخلوة تسقف على ستافروبول سنة 1857م، في ناحية القوقاز والبحر الأسود. كان الروس قد استولوا على تلك الناحية منذ عهد قريب والشعب فيها كان عدائياً. أطاع أغناطيوس مراسم العناية الإلهية فبذل كل جهد ليجول في أطراف أبرشيته الواسعة. ساعد كثيراً في التعليم الديني للشباب. في العام 1861 مرض من جديد وتدهورت حالته الصحية فسُمح له بالاعتزال في دير نيقولاوس بابييفو، برفقة فريق صغير من الأبناء الروحيين. كلفوه بإدارة هذا الدير المهمل فأعاد تنظيمه وبنى كنيسة جديدة. بالإضافة إلى الكتابة وإرشاد الرهبان الذين أخذ عددهم في الازدياد، كان يستقبل فلاحي تلك الناحية الذين كانوا يأتونه طالبين المشورة، في كل أمر. وقد جعل نفسه لهم طبيب النفوس والأجساد. هنا، وسط هذه الظروف، رقد بسلام في الرب في 30 نيسان سنة 1867م مخلفاً وراءه إرثاً غنياً لا يزل أحد الهوادي اليقينية إلى البحث عن الله بالنسبة لكل الذين يرغبون اليوم في السلوك في التراث الأصيل للآباء القديسين. بعد رقاده المغبوط ظهر في نور وضاء لأحد أبنائه الروحيين كان عرضة لهجمات الشياطين وقال له: “كل ما وضعته في كتبي هو الحقيقة”.
طروباريّة القدّيس البارّ أغناطيوس بريانشانينوف أسقف ستافروبول (باللّحن الرّابع)
لَقَدْ أَظْهَرَتْكَ أَفْعالُ الحَقِّ لِرَعِيَّتِك قانوناً لِلإيمان، وصُورَةً لِلوَداعة ومُعَلِّماً لِلإِمْساك، أَيُّها الأَبُ رَئِيْسُ الكَهَنَةِ اغناطيوس، فَلِذَلِكَ أَحْرَزْتَ بِالتَّواضُعِ الرِّفْعَة وبِالـمَسْكَنَةِ الغِنى، فَتَشَفَّعْ إِلى الـمَسيحِ الإلَه أَنْ يُخَلِّصَ نُفُوسَنا.