نشرة كنيستي
نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.
الأحد 22 آذار 2020
العدد 12
الأحد الثّالث من الصّوم (السّجود للصّليب المُقدَّس)
اللّحن 7- الإيوثينا 7
أعياد الأسبوع: *22: (السُّجود للصَّليب المُقدَّس)، الشّهيد باسيليوس كاهن كنيسة أنقرة *23: الشَّهيد نيكن وتلاميذه ال 199 المستشهدون معه *24: تقدمة عيد البشارة، أرتامن أسقف سَلَفكية *25: عيد بشارة والدة الإله الفائقة القداسة *26: عيد جامع لرئيس الملائكة جبرائيل، استفانوس المُعترف *27: المديح الرّابع، الشَّهيدة مطرونة التّسالونيكيَّة، النّبيّ حنانيا *28: البارّ إيلاريُّون الجديد.
كلمة الرّاعي
التّجارب والصّليب
”اِحْسِبُوهُ كُلَّ فَرَحٍ يَا إِخْوَتِي حِينَمَا تَقَعُونَ
فِي تَجَارِبَ مُتَنَوِّعَةٍ“ (يعقوب 1: 2)
نطلب في الصّلاة الرَّبِّيَّة إلى الله أن لا يدخلنا في ”تجربة“ وأن ينجّينا ”من الشّرّير“. لكن، خبرة القدّيسين في الكنيسة تعلِّمنا أنَّه بدون تجارب لا يمكن للإنسان أن يخلص، لأنّه لن ينمو روحيًّا ولن يعرف قوّة الله ولن يثبت في الإيمان. هذا ما عبَّر عنه القدّيس أنطونيوس الكبير حين قال: ”لا أحد يدخل ملكوت السَّماوات بدون تجارب. اِرفع التَّجارب فلا يخلص أحد“.
لماذا علينا أن نُقاسي التّجارب لندخل ملكوت الله؟ ولماذا طلب إلينا المسيح أن نحمل صليبنا ونتبعه؟ ألا يمكننا أن نسير وراء المعلِّم دون ضيقات وآلام وامتحانات؟! ...
* * *
”إِنْ كَانَ إِثْمُنَا يُبَيِّنُ بِرَّ اللهِ، فَمَاذَا نَقُولُ؟ أَلَعَلَّ اللهَ الَّذِي يَجْلِبُ الْغَضَبَ ظَالِمٌ؟ أَتَكَلَّمُ بِحَسَبِ الإِنْسَانِ“ (رومية 3: 5).
الإنسان يريد منذ البدء، منذ لحظة سقوطه أن يطرح خطيئته على غيره أي أن يحمِّل الآخَر مسؤوليّتها، لا بل أن يجعلها على عاتق الله أوَّلًا، ”الْمَرْأَةُ الَّتِي جَعَلْتَهَا مَعِي هِيَ أَعْطَتْنِي مِنَ الشَّجَرَةِ فَأَكَلْتُ“ ... هكذا، كلّ إنسان ينسب مصدر خطيئته إلى الآخَر، والله هو أوّل من نحمّله أسباب خطايانا. يتهرّب الإنسان من تعهُّد ذاته لأنّه يريد أن يُسأَل آخَر عن وضعه المُزري، فيكون هو المظلوم والآخَر هو الجاني. دائمًا، يريد البشر في آلامهم أن يبقوا في جهلهم لأنّهم ينسبون الشَّرَّ إلى الخالق. هذا هو موقف اللّاإيمان، أن يُساءِل الإنسان الآخَرين عن فشله. الفشل موت والموت فشل ... هذا بحسب البشر. لكنّ فَشَلَنا في صنع برّ الله حوّله المسيح إلى نجاح لأنّه ”أطاع (الله) حتّى الموت موت الصّليب“ (فيليبي 2: 8)، وموتنا جعله حياة أبديّة إذ بالموت أمات الموت.
المقاييس للحياة والموت (مع المسيح) لا يمكن أن تكون خاضعة لمنطق الدُّنيا المحكوم من أهواء البشر في سقوطهم. كثرة خطايانا كشفت محبّة الله الّتي لا توصف ولا تُحَدّ المتجلّية على الصّليب في المسيح المعلَّق عليه ...
* * *
مشكلة الإنسان مع الصّليب أنّه (أي الإنسان) لا يريد أن يتألّم رغم أنّ طريقه الّذي يُحاول فيه الهرب من الأوجاع هو بالضّبط مصدر مأساته. الحقّ صليب للملتوين والجهلاء، وأخطر الجهلاء من ظنّوا أنّهم عارفون. هنا، يصير صليب المسيح ”عثرة لليهود وجهالة لليونانيين“ (1 كورنثوس 1: 23)، لأنّ من يطلب الآيات بروح يهوديّة يجرّب الرّبّ ومن يريد حصر الله في منطقه البشريّ المحدود يُعقلن الإيمان.
عجائب الله لا تُحَدُّ ولا تُحصى والعقل والعلم هما عطيّة منه لخير البشريّة. المسألة بالنّسبة لإنسان السّقوط، وإن تردَّى ثوب الإيمان، هي أنّه في كلتا الحالتَين يريد أن يقبض على الله ويُخضعه لأهوائه.
الرَّبّ حرٌّ من كلّ أفكار البشر الّتي تريد حَدّه وحجزه في مفاهيم تدغدغ صنميّتهم الإيمانيّة أو عبادتهم للعلم والمنطق الدّنيويَّين. الإيمان أبعد أكثر ممّا نتصوَّر عن هذَين المنهجَين الوثنيَّين، ”لأَنَّهُ كَمَا عَلَتِ السَّمَاوَاتُ عَنِ الأَرْضِ، هكَذَا عَلَتْ طُرُقِي عَنْ طُرُقِكُمْ وَأَفْكَارِي عَنْ أَفْكَارِكُمْ“ (إشعياء 55: 9).
* * *
أيّها الأحبّاء، الرَّبّ الإله صار إنسانًا، واتَّخذ كلّ ما لنا، ما خلا الخطيئة، ليُشرِكنا في ما له أي في ألوهيّته ويُحرِّرنا من ضعف الطّبيعة البشريّة بقوّته السّاكنة فينا بالرّوح القدس، ليردّنا إلى المصير الّذي خَلَقَنا من أجله. التّجسُّد الإلهيّ هو صليب العقل البشريّ الّذي إذا ما حمله الإنسان بالإيمان عرف مجد الله. المسألة الّتي تُعجِز عقل الإنسان هي كيف أنّ هذا الفاني والمعرَّض للأمراض والألم والموت يحمل في هشاشته قوّة الله؟! ... مفهوم القوّة عند البشر يختلف عنها عند الله، لأنّ قوّة الله تجلَّت في حَمْلِ ألم الصَّليب حبًّا، ومشاركةِ الإنسان موته ليصير موتُ المخلّص، في صورة الضّعف، استعلانًا لجبروت العليّ بتفجير الجحيم وتحرير الأبرار حين نزل إليه.
بعد القيامة، لم يعُدِ الموت الجسديّ هو إشكاليّة المؤمن بل الموت الرّوحيّ، لأنّ الأوّل صار معبرًا إلى الحياة الأبديّة بواسطة الوحدة مع المسيح في الأسرار المقدَّسة والبذل المُحِبّ للحياة في الطاعة لله؛ أمّا الثّاني، فهو ما يحاربه المؤمن بالجهاد الرّوحيّ والحكمة الإلهيّة في الإيمان ليغلبه بقوّة القيامة المتنزّلة عليه في الرّوح القدس بالمسيح الإله.
جسد ودم الرَّبّ المُقدَّسين هما زاد الحياة الأبديّة لغفران الخطايا والتّقديس، هذا من جهة. من جهة أخرى، الحضور السّرّيّ والفعليّ الحقيقيّ للرّبّ في هذه القرابين هو خارج الفحص البشريّ العقلانيّ والعلميّ، وهذا ما يشكّل عثرة صليب لعقل المشكِّك وتحقيقًا عمليًّا لقوّة القيامة ...
للمؤمن الصّليبُ هو غلبةُ الحبِّ والقيامة، وللملحد الصّليب أداة قتل الله في عقول البشر ...
لكن، إيماننا أنّه ”بالصّليب قد أتى الفرح لكلّ العالم“ ...
ومن استطاع أن يقبل فليقبل ...
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما
طروباريّة القيامة (باللَّحن السّابع)
حطمْتَ بِصَليبِكَ المَوت. وفتحتَ للِّصِّ الفِرْدَوس. وحوَّلتَ نَوْحَ حامِلاتِ الطّيب. وأمَرْتَ رُسلَكَ أن يَكرزِوا. بأنَّكَ قد قُمتَ أَيُّها المسيحُ الإله. مانِحًا العالمَ الرَّحمةَ العُظمى.
طروباريّة الصّليب (باللَّحن الأوّل)
خلِّصْ يا ربُّ شعبَكَ وبارِكْ ميراثَك، وامنَحْ عبيدَكَ المؤمنينَ الغلبَةَ على الشِّرِّير، واحفَظْ بقوَّةٍ صليبِكَ جميعَ المختصِّينَ بك.
قنداق (باللَّحن الثّامن)
إنّي أنا عبدكِ يا والدة الإله، أكتب لكِ رايات الغلبة يا جنديّة مُحامية، وأقدّم لكِ الشّكر كمنقذة من الشّدائد، حتّى أصرخ إليكِ، إفرحي يا عروسًا لا عروس لها.
الرّسالة (عب 4: 14– 16، 5: 1– 6)
خلِّص يا ربُّ شَعبَك وباركْ ميراثك
إليكَ يا ربُّ أصرُخُ إلهي
يا إخوة، إذ لنا رئيسُ كَهَنةٍ عظيمٌ قد اجتازَ السّماواتِ، يسوعُ ابنُ اللهِ، فَلْنَتَمَسَّكْ بالاعترافِ. لأنْ ليسَ لنا رئيسُ كهنةٍ غيرُ قادرٍ أن يَرثيَ لأوهانِنا، بل مُجَرَّبٌ في كلِّ شيءٍ مِثلَنا ما خَلا الخطيئة. فَلْنُقْبِلْ إذًا بثقة إلى عرشِ النّعمةِ لنِنالَ رحمةً ونجدَ ثِقةً للإغاثةِ في أوانها. فإنَّ كلَّ رئيسِ كهنةِ مُتَّخَذٍ من النّاسِ ومُقامٍ لأجلِ النّاس في ما هو لله ليُقرِّبَ تَقادِمَ وذبائحَ عن الخطايا، في إمكانِهِ أنْ يُشفِقَ على الّذينَ يجهَلونَ ويَضلُّون، لِكونِهِ هو أيضًا مُتَلَبِّسًا بالضَّعْفِ. ولهذا يجب عليهِ أنْ يقرِّبَ عن الخطايا لأجلِ نفسِهِ كما يُقرِّبُ لأجلِ الشَّعْب. وليس أحدٌ يأخذُ لِنَفسِهِ الكرامةَ بَلْ مَن دعاه الله كما دعا هارون. كذلكَ المسيحُ لم يُمَجِّدْ نَفْسَهُ ليَصيرَ رئيسَ كهنةٍ، بل الّذي قالَ لهُ: "أنْتَ ابني وأنا اليومَ ولدْتُكَ". كما يقولُ في مَوضِعٍ آخرَ: أنْتَ كاهنٌ إلى الأبَدِ على رُتبَةِ ملكيصادق.
الإنجيل (مر 8: 34– 38، 9: 1)
قال الرَّبُّ: مَنْ أرادَ أنْ يَتبَعَني فَلْيَكْفُرْ بنَفْسِهِ ويَحمِل صَليبَه ويَتبَعْني. لأنَّ مَنْ أرادَ أنْ يُخَلِّصَ نفسَه يُهْلِكُها، ومَنْ أهلكَ نفسَهُ مِن أجلي وَمِنْ أجْلِ الإنجيل يُخَلِّصُها. فإنَّهُ ماذا يَنْتَفِعُ الإنسانُ لو رَبحَ العالَم كُلَهُ وخَسِرَ نفسَهُ؟ أمْ ماذا يُعطي الإنسانُ فِداءً عن نَفْسِهِ؟ لأنَّ مَن يَسْتحي بي وبكلامي في هذا الجيلِ الفاسقِ الخاطئ يَسْتحي بهِ ابْنُ البَشَر متى أتى في مَجْدِ أبيهِ مَع الملائكةِ القِدِّيسين. وقالَ لهُمْ: الحقَّ أقولُ لكم إنَّ قَوْمًا مِنَ القائمين ههنا لا يَذوقونَ الموْتَ حتّى يَرَوا مَلكوتَ اللهِ قد أتى بقُوّةٍ.
حول الإنجيل
كلّما خاض الإنسان تحدّيًا صعبًا، يتعزّى كثيرًا متى عرف أنّه وصل إلى منتصف الطّريق، ويتشدّد ليُواصل جهاده ويصل إلى هدفه المنشود. ها هو الأسبوع الثّالث من الصّوم يُطِلّ علينا، فتختار الكنيسة المقدّسة أن توجّه انتباهنا اليوم إلى رمز النّصر العظيم، علامة الرّجاء المـُثلى، فينتصب صليب ربّنا ومخلّصنا يسوع المسيح وسط ميدان الصّوم... تلك الأداة الّتي لطالما كانت مصدر خزي وعار، والّتي باتت رمز خلاصنا ورجاء قيامتنا يوم صُلب عليها ربّ المجد.
ما وفّر يسوع فرصةً إلّا وأخبر فيها تلاميذه أنّه سيتمّ رفضه، وسوف يحاكَم ، ويموت، ولكنّه يقوم في اليوم الثّالث، وأكثر من ذلك قال الرَّبُّ لهم ما لا يريد أحدٌ سماعه، وهو أنّهم هم أيضًا يجب أن يحملوا صلبانهم ويبذلوا حياتهم؛ موضِحًا أنّها الطّريقة الوحيدة لولوج الملكوت.
وهذه هي الحقيقة الصّعبة الّتي يجب أن نقبلها بطاعةٍ وتواضع وبهجة، وهي أنّنا لا نستطيع القفز إلى فرح القبر الفارغ من دون المرور بدرب الجلجلة. يجب أن نذهب أوّلًا مع ربّنا إلى الصّليب؛ نحن أيضًا يجب أن نموت من أجل النّهوض مرّة أخرى. نحتاج إلى الموت عن خطايانا، لنعيد الصّورة الإلهيّة لأنفسنا، وعلاقاتنا، وعالمنا. قدّم ابن الله نفسه في طاعةٍ حرّةٍ للثّالوث القدّوس، آخذًا بنفسه العواقب الكاملة للخطيئة والموت إلى حدِّ الموت، موت الصّليب، وهذا هو التّواضع الأقصى، هذه هي المحبّة القصوى "لأنّه هكذا أحبَّ اللهُ العالمَ حتّى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كلُّ من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبديّة" (يو16:3)؛ وهكذا فُتح الطّريق لملكوت السّماوات، للحياة الأبديّة، للخليقة كلّها.
من هنا نتعلّم أنّه لبلوغ الفرح الّذي لا يُنزَع منّا، يجب علينا أوّلًا أن نشترك في الجهاد والألم والتّضحية بالصَّلب. يجب أن نَصلب عاداتنا السّيّئة وأفكارنا الرّديئة وشهواتنا المميتة. يجب علينا أن نقتل كبرياءنا وأنانيّتنا وعبوديّتنا للملذّات الدّنيويّة. إذا لم نصلب هذه الأهواء، فإنّنا سنبقى في أسقامنا، في ظلمتنا، في ضعفاتنا، ولن نُعاين مجد القيامة ولن نشترك بفرح الانتصار والظّفَر.
يا أحبّاء، نحن لا نعلِّقُ صليبًا على صدورنا هكذا عبثًا أو زينةً، إنَّما نعلِّقُه لكي نتذكَّرَ أنّنا دائمًا يجب أن نكون مُعلَّقين عليه ببذل الذّات، واليوم أكثر من أيّ يوم، تتربّص بنا صلبان عديدة، من أمراضٍ وأوبئة ومشاكل مادّية واقتصاديّة، ناهيك عمّا نتخبّط به في داخلنا، لذا يستحيل التّحدّي أكبر، والجلجلة أصعب، والجهاد أضنى... ولكن بالوقت عينه، هذا يضاعف فرح الوصول، يوقد لذّة الفصح، ويؤجّج نور القيامة... فلنتّضع، ونحتمل، ونطع، ونصبر، والأهم من كلّ ذلك، فلنحبّ بحقّ، لأنّ المحبَّة موت... وبعد الموت قيامة، آمين.
هل يجوز الصّوم يومَيّ السّبت والأحد؟
يطرح بعض المؤمنين الأرثوذكسيّين سؤالًا عمّا إذا كان يجوز الصّوم في يَوْمَيّ السّبت والأحد الواقعة خلال فترة الصّوم الأربعينيّ الكبير، ويأتي السّؤال من بعض الأرثوذكسيّين خصوصًا في تلك الأماكن الّتي هي عُرضَة للتّأثير الغربيّ، فهل ينبغي كَسر "الصّوم النُّسكيّ" في يوميّ السّبت والأحد؟! ما مَعناه، لماذا لا يُسمَح بتناول اللّحوم وغيرها من المَأكولات الإفطاريّة في يَوميّ السّبت والأحد، بِداعي أنّ يوم الأحد هو "يوم الرَّبّ" وهو "يوم القيامة" و"يوم فرح" ولا يجوز فيه الصّوم وما إلى ذلك... لذلك وجَبَ التّوضيح والتّنويه إلى ما يلي:
إنّ يومَيّ السّبت والأحد يتمتّعان بخصوصيّة لاهوتيّة وليتورجيّة مميّزة عن باقي أيّام الأسبوع، فكلٌّ منهما في التَّقليد الأرثوذكسيّ يُسمّى "يوم إفخارستيّ" (الأب ألكسندر شميمن) حيث بخلاف أيّام الأسبوع الأخرى من الصّوم الكبير، يُقام فيهما القدّاس الإلهيّ، الّذي فيه يَختَبِر المؤمنون حُضُور المسيح الحَيّ القائم من بين الأموات فيما بينهم عَبرَ سِرِّ الشُّكرِ الإلهيّ "بنو العُرسِ لا يَصومونَ ما دامَ العريسُ مَعَهُم" (مرقس 19:2)، وبعد القدّاس يتناول المؤمنون طعامًا صياميًّا (نباتيًّا)، ولكنّه يكونُ صومًا مُخفَّفًا بعض الشّيء، وذلك نَظرًا للمَعنى اللّاهوتيّ واللّيتورجيّ ليَوْمَيّ السّبت والأحد في الكنيسة الأرثوذكسيّة (السّبت يُشير إلى راحة المَسيح الرّاقد في القبر من بعد آلامه وصلبه، وهو اليوم الّذي فيه انحدر المسيح من بعده موته على الصّليب إلى أعماق الجحيم السُّفلى المُظلمة وخلّص من قبضة إبليس نفوس الأبرار الموثوقين فيه منذ الدّهر وأصعدهم معه إلى الفردوس، وهو وعربون الرّاحة الأبديّة، ويوم الأحد هو "يوم القيامة" والانتصار على الموت، وهو بامتياز "يوم الرَّبّ" عُروة الوَصِل بين الدَّهر الحاضِر والأبديّة، ونافذة الزَّمَن المُطِلَّة على الملكوت).
رغم ما تقدّم شرحُهُ فانّ هذه الحقيقة لا تُخرِج سُبوت وآحاد الصّوم الكبير من دائرة الزَّمن الأربعينيّ الكبير، ولا تضعها خارج مَسيرة هذا الجهاد الرّوحيّ الكثيف المُتواصِل على الذّات، بالصّوم والتّقشُّف والتّنقية، ولا يجوز قطع هذه السّلسلة الرّوحيّة المترابطة بشكلٍ وثيق بين كلّ يوم من أيّام هذا الزّمن المُقدّس، بل أنّ الكنيسة الأرثوذكسيّة تُدرك ذلك جيّدًا، لذلك فهي تتعامل مع سُبوت وآحاد الصّوم الكبير بصومٍ مُخفَّف بعض الشّيئ (إذا جاز التّعبير) حيث في يوميّ السّبت والأحد لا نَصوم صَوْمًا انقطاعيًّا عن الطّعام والشّراب من منتصف اللّيل حتّى السّاعة الثّالثة بعد الظّهر (ساعة موت الرَّبّ يسوع المسيح على الصّليب) مثل باقي أيّام الأسبوع الأخرى، ولكنّ الصّوم "النُّسكيّ" عن المأكولات الزّفريّة الحيوانيّة يستمرّ فيهما ولا يتوقّف ولا "يُكسَر"! كما ويُسمح فيهما بتناول الزّيت والخمر على المائدة.
إذا شاء أحد المُؤمنين التَّقدُّم إلى تناول القربان المُقَدَّس حيثما أُقيم القدّاس الإلهيّ في يوم السّبت أو الأحد خلال زمن الصّوم الكبير، يصوم صومًا انقطاعيًّا من منتصف اللّيلة السّابقة للمناولة ويتلو الصّلوات الاستعداديّة (المَطالبسي) كما هو متَّبع في تقليد كنيستنا.
إن الكنيسة الأرثوذكسيّة تَعي وتُدرك تمامًا أنّه كي يُضبَط الجسدُ وتُلجَم الأهواء والنَّزَوات عليه أن يخضعَ لنظامٍ طويل وصَبور من الإمساك والجهاد المُتواصِل، كحالِ من يتعاطى علاجًا أو دواءً لمُحاربة خلايا سرطانيّة، عليه الاستمرار في أخذ جُرعات الدَّواء بانتظامٍ في ميعادها ودون انقطاع، لكي لا يترك مجالًا للخلايا السّرطانيّة المُحارِبَة أن تأخذ فرصتها بالنّشاط ومُعاوَدَة النّموّ من جديد، إذ ما المَنفعة إذا صام الإنسان وجاهد ناسكًا مُتقشّفًا من الإثنين إلى الجمعة ثمّ عاد وأطلقَ العنان لنفسه وشهواته في تناول اللّحوم والأجبان وغيرها ممّا يلذّ ويطيب له يوميّ السّبت والأحد؟! وما الحكمة من إقامة "مرفع اللّحم" و "مرفع الجبن" تسبق زمن الصّوم الكبير ما دُمنا سنعاود تناولها بعد خمسة أيّام؟! فنحنُ ليس لدينا في زمن الجهاد الرّوحيّ الكبير "week end" أو "عطلة" أو "إجازة" يوميّ السّبت والأحد من مواصلة المَسيرة النُّسكيّة بصبرٍ وتعبٍ وجهدٍ وجدّية، لأنّ هذا الفعل يقطع استمراريّة الجهاد الرّوحيّ الدَّؤوب المُتواصِل، والعمل على الذّات لتهذيبها وتحريرها من سُلطان الأهواء والنّزوات، ويُشوّه البُنية والصّورة العامّة والمعنى والغاية من مسيرة الصّوم الكبير في صَلب وموت شهوات الإنسان العتيق، لنحيا ونقوم مشاركين مع المسيح في قيامته من بين الأموات ببلوغ الفصح المُقدّس "عيد الأعياد وموسم المواسم".
ملاحظة هامّة: السّبت الوحيد الّذي ينبغي فيه الصّوم الانقطاعيّ التّامّ عن كلّ طعام وشراب هو السّبت العظيم المُقدّس (سبت النّور)، إذ مِن منتصف ليلة الجمعة العظيمة المقدّسة نصوم صومًا كامِلًا حتّى فجر أحد القيامة، ومن لا يقدر يكتفي بالخبز والماء، ويعود كلّ مؤمن إلى حكمة ومشورة أبيه الرّوحيّ في ترتيب قانون صومه وتقشّفه بما يتوافق مع حالته الرّوحيّة وظرفه المهنيّ وضعه الجسديّ والصّحيّ.
(نقلًا عن صفحة ”الرّعيّة الأنطاكيّة الأرثوذكسيّة“ للأب رومانوس حدّاد).