في هذا اليوم تُقيم الكنيسة المُقدَّسَة تَذكار:
*القدّيس البارّ مكسيموس المعترف *الشّهيد نيوفيطوس النّيقاوي *القدّيس البارّ زوسيما أسقف سيراكوزا *الشّهداء أفجانيوس وفاليريانوس وكنديدوس وأكيلا *الشّهيدة أغنيس الرّوميّة *شهداء رومية الأربعة *القدّيس البارّ نيوفيطوس الآثوسيّ *القدّيس البارّ مكسيموس اليونانيّ.
* * *
✤ القدّيس البارّ مكسيموس المعترف ✤
ولد القديس مكسيموس المعترف لعائلة مرموقة في القسطنطينية سنة 580م. كان على ذكاء خارق وتمتّع بقدرة خارقة على التأمّلات الفلسفية السامية. درس فلمع وانخرط في السلك السياسي. عندما تولّى هيراكليوس العرش، سنة 610م، لاحظ مكسيموس وفطن إلى ما يتمتّع به من فهم وعلم وفضيلة فاختاره أمين سرّه الأوّل. لكن الكرامات والسلطة والغنى لم يطفئ فيه الرغبة. التي طالما احتضنها منذ الشبابية في أن يسلك في سيرة مطابقة للفلسفة الحق التي يدين بها. لهذا السبب، تخلّى عن وظيفته بعد ثلاثة أعوام وترهّب في دير والدة الإله في خريسوبوليس القريبة من القسطنطينية.
كان مكسيموس مزوّداً بأمرين أساسيّين قدّماه في مراقي الحياة الروحية: المعرفة التأملية للكتاب المقدّس وكتابات الآباء، ثم الرغبة العميقة في صعود سلّم الفضائل وصولاً إلى اللاهوى. لذا أخضع، بمعرفة، وثبات الأهواء بالنسك، والغضب بالوداعة. كما حرّر نفسه من استعباد الأهواء وغذّى ذهنه بالصلاة وارتقى، بسلام، معالي التأملات الإلهية. في صمت قلاّيته، إذ انعطف على لجّة قلبه، نظر في ذاته سرّ الخلاص بشأن كلمة الله الذي تنازل ليتّحد بطبيعتنا المقطوعة عن الله والمنقسمة على نفسها بسبب عشقها لذاتها. دافعُ السيّد هو حبّه للناس بلا حدود وقصده استعادة المحبة الأخوية بينهم وأن يفتح لهم سبيل الاتحاد بالله لأن الله محبة.
أمضى مكسيموس في الهدوئية ما يقرب من العشر سنوات، تحوّل بعدها برفقة تلميذ له يدعى أنستاسيوس إلى دير صغير للقدّيس جاورجيوس في كيزيكوس. هناك باشر بكتابة أولى مؤلّفاته وكانت عبارة عن مقالات نسكية تناولت الصراع ضد الأهواء، والصلاة، واللاهوى والمحبة المقدّسة. لكن أحداثاً عسكرية أجبرت الرهبان على مغادرة أديرتهم في القسطنطينية والجوار بعدما تعرّضت المنطقة لهجمات الآفار والفرس.
مذ ذاك سلك القديس مكسيموس في التشرّد.
أقام في جزيرة كريت لبعض الوقت حيث شرع يقاوم لاهوتيين، من أصحاب الطبيعة الواحدة، دفاعاً عن الإيمان الأرثوذكسي القويم. ثم انتقل إلى قبرص ووصل أخيراً إلى قرطاجة، عام 632م، فالتقى القدّيس صفرونيوس الأورشليمي وانضمّ إليه. القديس صفرونيوس كان أحد كبار العارفين بالتراث الرهباني واللاهوتي، ومشهوداً له بأرثوذكسيته. كان، يومذاك، مقيماً هو وعدد من رهبان فلسطين في دير أوكراتا حيث التجأوا إثر استيلاء الفرس على أورشليم.
في تلك الفترة الممتدة بين العامين 626 و 634م، تسنّى لمكسيموس أن يعرض بعمق، لم يسبقه إليه أحد، لعقيدة التألّه مقدّماً الأسس الفلسفية واللاهوتية للروحانية الأرثوذكسية. ففي مقالات عميقة صعبة طالت مقاطع غامضة في الكتاب المقدّس وتعاطت الصعوبات الواردة في كتابات ديونيسيوس المنحولة والقدّيس غريغوريوس اللاهوتي، وكذلك سرّ الشكر، في هذه المقالات تمكّن مكسيموس من وضع حصيلة (Synthèse) لاهوتية فخمة بشأن تألّه الخليقة. فالإنسان، كما قال، جعله الله في العالم كاهناً يقيم سرّ الشكر الكوني، وهو مدعو إلى جمع الكائنات المخلوقة كلها لتقريبها إلى الكلمة الإلهي. كل خليقة، في لغته، تُعرف بتسمية “كلمة”، ومجموع الخلائق “كلمات”. وفي فهمه إن الإنسان يرفع “الكلمات” إلى “كلمة الله”، الذي هو مبدأها، في حوار محبّة حرّ من كل قيد. إذ يحقِّق الإنسان القصد الذي من أجله خُلق، وهو الاتحاد بالله، يأتي بكل الكون أيضاً إلى الكمال في المسيح الذي هو إله وإنسان معاً.
منذ أن ارتقى هيراكليوس سدّة العرش سعى إلى إعادة تنظيم الإمبراطورية البيزنطية المتزعزعة وإلى التحضير لهجوم معاكس ضد الفرس. بعض الإصلاحات الإدارية والعسكرية كان لا بد منه. وكان لا بد أيضاً من إعادة اللحمة بين المسيحيّين تجنباً لتحوّل أصحاب الطبيعة الواحدة نحو الفرس أو العرب. لهذا السبب كلّف الإمبراطور البطريرك القسطنطيني سرجيوس إعداد صيغة لاهوتية وسطية تكفل كسب رضى أصحاب المشيئة الواحدة دون أن تتنكّر للمجمع الخلقيدوني. وقد اقترح سرجيوس، في هذا الإطار، صيغة تقوم على أساس وحدانية الطاقة في المسيح يسوع. وفق الصيغة التوفيقية المقترحة، اعتُبرت طبيعة الرب يسوع البشريّة منفعلة لا فاعلة، ومحايدة لا مقدامة، فيما اعتبرت طاقتها الخاصة مستوعّبة من طاقة كلمة الله. وهذا لا يعني، على أرض الواقع، سوى القول بالطبيعة الواحدة ولو بشكل مموّه قضى باستبدال لفظة “الطبيعة” بلفظة “الطاقة”. وفي السنة 630م عيّن الإمبراطور كيرُس بطريركاً على الإسكندرية. وكلّفه بتحقيق الوحدة مع أصحاب الطبيعة الواحدة الذي كان عددهم في مصر كبيراً. وما إن جرى توقيع اتفاق الوحدة هناك حتى خرج القديس صفرونيوس الأورشليمي عن صمته ودافع عن القول بالطبيعتين في المسيح يسوع. كما توجّه صفرونيوس إلى الإسكندرية فإلى القسطنطينية وتناقش وكيرُس وسرجيوس دون أن يكون من النقاش في الموضوع جدوى. على الأثر عاد صفرونيوس إلى أورشليم حيث استقبله الشعب المؤمن كمدافع عن الأرثوذكسية وجرى انتخابه بطريركاً جديداً في الوقت الذي اجتاح المسلمون العرب البلاد. وقد صدرت، عنه، للحال، رسالة حبرية حدّد فيها أن كلتا الطبيعتين في المسيح لها طاقتها الخاصة بها وإن شخص المسيح واحد فيما طبيعتاه اثنتان وكذلك طاقتاه.
الكلام على الطببعتين والطاقتين في المسيح يسوع وكذلك الجدل القائم. أوقف بأمر إمبراطوري. رغم ذلك دافع القديس مكسيموس من مقرِّه في قرطاجة عن قول صفرونيوس معلّمه، بطريقة ذكية. قال: “يحقّق المسيح بشرياً ما هو إلهي، من خلال عجائبه، ويحقّق إلهياً ما هو بشري، من خلال آلامه المحيية”. ولكن ما أن أصدر هيراكليوس مرسوم الاكتيسيس سنة 638م وأكدّ حظر الكلام على الطاقتين فارضاً على الجميع الاعتراف بإرادة واحدة في المسيح (مونوثيليتية)، حتى خرج مكسيموس عن صمته وجاهر بالحقيقة جهراً. القديس صفرونيوس كان في تلك السنة قد مات واتجهت الأنظار، مذ ذاك، نحو مكسيموس الذي أخذ الجميع يعتبرونه كأبرز المتحدّثين رسمياً بلسان الأرثوذكسية. وكما حدث في زمن القديس أثناسيوس الكبير ومن بعده القديس باسيليوس الكبير، استقر حِمل الإيمان القويم بالدرجة الأولى على كاهل رجل واحد هو مكسيموس.
راسل مكسيموس أسقف رومية والإمبراطور وذوي الشأن في الإمبراطورية موضحاً لهم، في مقالات عميقة قيّمة، أن كلمة الله، لمحبته وتوقيره اللانهائيين لخليقته، اتخذ الطبيعة البشريّة في كلّيتها دون أن يغيّر شيئاً في حرّيتها. لذلك إذ كان هو حرّاً في التراجع أمام الآلام، أخضع نفسه، بملء إرادته كإنسان، للإرادة والقصد الإلهيّين فاتحاً لنا بذلك سبيل الخلاص بالخضوع والطاعة. وإذ اتحدت الحرّية الإنسانية بحريّة الله المطلقة في شخص الرب يسوع المسيح، وُجدت مستعادة في حركتها الطبيعية نحو الاتحاد بالله والناس بالمحبة. ما سمحت له خبرة الصلاة والتأمل أضحى باستشفافه أضحى بإمكان مكسيموس أن يقدِّمه مركِّزاً عقيدة تأليه الإنسان على قاعدة لاهوت التجسّد.
رقد البطريرك سرجيوس القسطنطيني، هو أيضاً، سنة 638م، فكان خلفه بيروس مروّجاً متحمّساً للهرطقة الجديدة. ورغم كل الضغوط التي مورست فإن فريقاً لا يستهان به من المسيحيّين قاوم المرسوم الإمبراطوري حتى إن هيراكليوس اعترف، قبل قليل من موته، سنة 641م، إن سياسته الدينية باءت بالفشل. أما بيروس فلم يلبث أن فرّ إلى إفريقيا حيث كانت له مواجهة علنية والقدّيس مكسيموس في قرطاجة في شأن شخص الرب يسوع (645م). وإذ عرض القدّيس لسرّ الخلاص بحجج دامغة، نجح في تبيان أضاليل البطريرك الذي اقترح أخيراً التوجّه شخصياً إلى رومية ليلقي الحرم على القول بالمشيئة الواحدة (المونوثيليتية) عند قبر الرسل القدّيسين. ولكن لم يحفظ بيروس كلمته، بل عاد إلى قينه وفرّ إلى رافينا. وقد قطعه ثيودوروس، أسقف رومية، ثم قطع خلفه على الكرسي القسطنطيني، بولس. إزاء هذا التطوّر خشي الإمبراطور البيزنطي قسطنديوس الثاني العاقبة، في المستوى السياسي، وأن يفضي تطوّر الأحداث إلى انشقاق الغرب عن الإمبراطورية، لاسيما بعد سقوط مصر في يد العرب، فعمد إلى نشر مرسوم التيّبوس (648م) الذي حرّم فيه على كل مسيحي، تحت طائلة العقاب الصارم، مناقشة موضوع الطبيعتين والمشيئتين. عليه بوشر بملاحقة الفريق الأرثوذكسي واضطهاده، لاسيما الرهبان وأصدقاء القديس مكسيموس. أما مكسيموس فالتحق بمرتينوس الأول، أسقف رومية، الذي عزم على دعم الإيمان القويم ودعا إلى عقد المجمع اللاتراني (649م) الذي أدان القول بالمشيئة الواحدة ونبذ المرسوم الإمبراطوري. فلما وصلت أخبار ما حدث للإمبراطور اغتاظ واعتبر أن في الأمر تمرّداً، فبادر إلى إرسال جيش إلى رومية لوضع حدّ للتدهور الحاصل (653م). أوقف العسكر مرتينوس الأسقف، وكان مريضاً عاجزاً، واستاقوه كمجرم إلى القسطنطينية حيث أُهين أمام الملأ وحُكم عليه بالنفي، ثم اقتيد إلى شرصونه حيث قضى شهيداً في حال يرثى لها، في أيلول من السنة 655م.
أما القدّيس مكسيموس فجرى توقيفه، بعد ذلك بقليل. وكذلك أوقف تلميذه الأمين أنستاسيوس وأنستاسيوس آخر كان مندوباً لأسقف رومية. أودع الثلاثة السجن أشهراً طوالاً قبل أن يمثلوا للمحاكمة. وُجِّهت إلى مكسيموس تهم سياسية بالدرجة الأولى. قالوا إنه ناهض السلطة الرسمية وبارك اجتياح العرب لمصر وإفريقيا. وقيل أيضاً إنه تسبَّب في بذر الشقاق في الكنيسة بسبب عقيدته. أجاب مكسيموس بهدوء، ولكن بثبات عزم، إنه يؤثر قطع الشركة وسائر البطاركة والموت على أن يخون الإيمان القويم. وقد حُكم عليه بالنفي واستيق إلى بيزيا في تراقيا فيما استيق أنستاسيوس وأنستاسيوس الآخر إلى موضعين آخرين.
بقي مكسيموس في المنفى طويلاً وكابد الأمرّين. أخيراً قرّر الإمبراطور فتح باب الحوار معه عسى أن يكسبه لأنه أدرك أنه ما لم ينجح في إقناع مكسيموس بالانضمام إلى حزبه فلن ينجح في كسب الرأي العام الأرثوذكسي. لهذا أوفد سفارة من ثلاثة أشخاص، أسقفاً يدعى ثيودوسيوس ونبيلين آخرين. فلما التقوه وجدوه سيّد قواه، ثابتاً على قناعته الأولى. ولما دخلوا معه في بحث لاهوتي في الموضوع المطروح فنّد حججهم ودحض مزاعمهم، فثارت ثائرتهم عليه وأمطروه شتماً وضرباً وانصرفوا.
بعد ذلك جرى نقل مكسيموس إلى بربريس حيث بقي محتجزاً وتلميذه أنستاسيوس ست سنوات، بانتظار محاكمتهما من جديد. وفي السنة 662م مثل أمام بطريرك القسطنطينية ومجمعه. سألوه: من أية كنيسة أنت؟ من القسطنطينية؟ من رومية؟ من أنطاكية؟ من الإسكندرية؟ من أورشليم؟ فها هم جميعاً متّحدون فيما بينهم. فأجاب مكسيموس: “إن الكنيسة الجامعة هي الاعتراف بالإيمان الصحيح والخلاصي بإله الكون”. هُدِّد بالموت فأجاب: “ليتحقق فيّ ما رسمه الله من قبل الدهور لأعطي لله المجد الذي له من قبل الدهور!” فلعنوه وأهانوه وسلّموه لحاكم المدينة الذي حكم عليه بالجلد وقطع لسانه ويده اليمنى اللذين بهما اعترف بإيمانه. وبعدما استاقوه في شوارع المدينة مدمّى كله أودعوه قلعة في أقاصي القوقاز، في لازيكوس. هناك لفظ أنفاسه الأخيرة في 13آب 662م عن عمر ناهز الثانية والثمانين. وقد نُقل أن ثلاثة قناديل زيت كانت تشتعل على قبره من ذاتها كل ليلة.
طروباريّة القدّيس البارّ مكسيموس المُعترف (باللّحن الثّامن)
ظهرتَ أيها اللاهج بالله مكسيمُس، مرشداً إلى الإيمان المستقيم، ومعلماً لحسن العبادة والنقاوة، يا كوكب المسكونة وجمال رؤساءِ الكهنة الحكيم، وبتعاليمك أنرت الكل يا معزفة الروح، فتشفع إلى المسيح الإله أن يخلّص نفوسنا.