نشرة كنيستي- الأحد (2) من الصّوم (القدّيس غريغوريوس بالاماس)- العدد 11
12 آذار 2023
كلمة الرّاعي
التّنقية والاستنارة والتّألّه بالنّعمة
الخطيئة ظلمة والتّوبة نور. الأهواء عبوديّة واللّاهوى حرّيّة. الإنسان مخلوق ويمتلك في ذاته صورة غير المخلوق. الحياة انوجاد دائم في الله والموت غربة مستمرّة عن الخالق.
“إِنَّ اللهَ نُورٌ وَلَيْسَ فِيهِ ظُلْمَةٌ الْبَتَّةَ” (رسالة يوحنا الرسول الأولى 1: 5) والإنسان المخلوق على صورة الله نفخ الرّبّ فيه، عند الخلق الأوّل، روحه المُحيي والمُنير، فكان يحيا في حالة النّعمة والاستنارة والمعاينة لله. لمّا انفصل الإنسان عن خالقه خسر سُكنى النّعمة الإلهيّة فيه وبالتّالي نور النّعمة، فدخلت الظُّلمة حياته وفكره وعقله وقلبه وكيانه. عندما فكّ الإنسان حياته عن وصيّة الله خسر النّور المتأتّي بالكلمة الّتي من الكلمة الإلهيّ بالرّوح القدس “لأَنَّ الْوَصِيَّةَ مِصْبَاحٌ، وَالشَّرِيعَةَ نُورٌ” من النّور الإلهيّ غير المخلوق (سفر الأمثال 6: 23).
* * *
خارج النّور الإلهيّ لا يوجد محبّة ولا فرح ولا سلام ولا أيّة نعمة أخرى. الإنسان بعيدًا عن نور الله يغرق في الظّلمة المولِّدة للكآبة والحزن واليأس والاضطراب والقلق والخوف لأنّه يحيا خارج الله. حياة الإنسان في الله تكون أو لا تكون لأنّ الرّبّ هو الحياة. من يريد أن يعيش بالانفصال عن الله يطلب العدم حياةً له لأنّه يحيا من ذاته وفي ذاته ولذاته. هذه هي قمّة الظّلمة، هذه هي حالة الشّيطان وزبانيّته.
المسيح الإله المتأنّس تجسَّد لكي يعيد خلق البشريّة فيه، في إنسانيّته، إذ أخذ الطّبيعة الّتي للبشر وحمل على عاتقه خطايا الخليقة كلّها لكي بالموت عن العصيان الأوّل في آدم الجديد تستقرّ النّعمة الإلهيّة غير المخلوقة في كلّ إنسان يولد في المسيح بالطّاعة لله الآب في الابن بالرّوح القدس.
* * *
أتريد أيّها الإنسان أن تستنير؟! … عليك أن تطيع المسيح. كيف تطيع المسيح؟! … بطاعة وصيّته. ما هي وصيّته؟! … “تُوبُوا لأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ” (إنجيل متى 4: 17). المسيح يدعونا إلى التّوبة، فهل تصدِّق أنَّك بحاجة إلى التّوبة أيّها الإنسان، أم تظنّ نفسك بريئًا من كلّ خطيئة. الإنسان الأوّل أخطأ الهدف من حياته لأنّه كان مدعوًّا لعيش الحبّ في الشرّكة ففضّل عيشه في الانغلاق على نفسه. هكذا نحن أيضًا خارج المسيح ننغلق على ذواتنا فنقبع في ظلمة عتمة قلوبنا الّتي نظنّها النّور وما هي إلّا صورة وَهْمِ تألُّهنا من ذاتنا.
طريقنا للحياة الحقانيّة هو التّوبة الّتي بنعمة الله تمنحنا التّنقية، تنقية الفكر والعقل والقلب والكيان بِرُمَّتِه. لكنّ التّوبة تتطلَّب العنف مع المشيئة الذاتيّة، لأنّك لن تستطيع أن تقلع نفسك من ذاتها إذ جذور الأنا ضاربة في أعماق الكيان بدون أن تقرف حلاوة الخطيئة وتكره عبوديّة الأهواء. من يظنّ أنّ بإمكانه أن يتوب دون ألم لا يريد أن يتوب. ومن يريد أن يتوب عليه أن يتخلّى عن إرادته بإزاء الكلمة الإلهيّة الّتي تكشف له حقيقة أفكاره ونواياه والأهواء المُسيطرة عليه من خلال الصّلاة والتّأمّل والطّاعة للأب الرّوحيّ المستنير والمُخْتَبَر.
حربنا للتّطُّهر تستمرّ مدى العمر، لكنّ الله بنعمته وحنّوّه يمنحنا في مسيرة تنقيتنا أن ننمو في استنارة القلب، إلى أن يمنحنا برحمته إذا ثبتنا في التّوبة والارتقاء أن نختبر مُعاينته في النّور غير المخلوق، فندخل في الدَّهَش والتّألّه الّذي هو اتّحادنا بالثّالوث القدّوس من خلال المسيح في نعمة الرّوح القدس بحسب مسرّة الله الآب.
جهاد صومنا وصلاتنا وخدمة المحبّة في حياتنا وطاعتنا للكلمة كلّها تهدف لنصير أنقياء القلوب وأحرارًا من كلّ قيد في النّفس أو الجسد يعيقنا عن أنّ نحب الله فوق كلّ أحد وشيء لنصير بهذه المحبّة متّحدين في الرّبّ مع الكلّ ونحيا لأجل الكلّ بالبذل بقوّة الله ونعمته غير المخلوقة…
(من الأرشيف، نشرة كنيستي– 24 آذار 2019)
+ أنطونيوس
مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما