نشرة كنيستي- أحد الفرّيسيّ والعشّار– العدد 8
25 شباط 2024
كلمة الرّاعي
الحياة في الحقّ والفريّسيَّة
“وجميعُ الَّذين يريدون أن يعيشوا بالتَّقوى في المسيح يسوعَ يُضطهَدون” (2 تي 3: 12)
التّقوى (ευσέβεια) الحالة الدَّاخليَّة للإنسان وحقيقة قناعاته العميقة في جوابه على كشف السّرّ الإلهيّ له حول حقيقة الله المُستَعْلَنَة بيسوع المسيح، والّتي تظهر في عيشه “للإيمان المُسلَّم مرَّةً للقدِّيسين” (يه 3) شهادةً لهذا الإيمان الواحد الحقّ في استقامة الحياة وامتدادًا للعبادة في البرّ والورع.
في العهد الجديد، كلمة “التَّقوى” ترتبط بـ “الطَّريق” (οδός) في سفر أعمال الرُّسُل (راجع 2:9؛ 9:19، 23؛ 4:22؛ 14:24، 22)، أي “طريق” الإيمان والعبادة الَّذي ميَّز الَّذين اتَّبعوا الرّبّ يسوع المسيح، أي ترتبط بالمسيحيَّة والمسيحيّين الَّذين كانوا يُضطهدون ويتألَّمون من أجل الشَّهادة لهذا الإيمان المُحارَب من اليهود والأمم والَّذي يحمله الرُّسُل والكنيسة إليهم لخلاص العالم… و”الطَّريق” ليس هو سوى المسيح الَّذي هو “الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ” (يو 14: 6 ب)، فالمسيحيَّة هي المسيح والمسيح هو المسيحيّة، وبدونه لا وصول لأحد إلى الله إلى الآب (يو 14: 6 ت)…
التَّقوى، إذًا، هي تجسيد الإيمان ومعرفة الله في عيش “حقّ” الإنجيل، في القلب والأعماق وفي الحياة والعبادة عبر خدمة الرّبّ بورع. لا ينفصل التّعليم عن التّقوى ولا تنفصل التّقوى عن التَّعليم القويم (راجع 1 تي 6: 3؛ 2تي 13:1؛ 3:4؛ تي 9:1، 13؛ 1:2) الَّذي جاء لضحد كلّ تحريف للإنجيل على أساس خرافات وظنون عقليّة (راجع 1تي 4:1؛ 7:4؛ 3:6-6؛ 2تي 4:4؛ تي 14:1؛ 2بط 16:1).
* * *
إنجيل الفَرِّيسيّ والعشّار، الَّذي هو بدء زمن التّريودي والتّحضير للصَّوْم الكبير المُقَدَّس، تطرحه علينا الكنيسة كبداية لِمَسيرَة استعدادنا للسَّيْر في “الطَّريق” نحو القيامة عبر سلوك “طريق” الآلام في الجهاد الطّوعيّ لقهر الأهواء المُسْتَعْبِدَة إيّانا والمعيقة لنا في مسيرنا نحو الحياة الجديدة الّتي بالمسيح يسوع المخلِّص…
لا شكّ أنّ العِبَرَ التّي يمكن استخلاصها من هذا المثل كثيرة، لكنَّنا اليوم سنتوقَّف عند الموقف الفَرّيسيّ للفَرِّيسيّ. فالحالة الفَرِّيسيّة هي حالة تَزَمُّت ناموسيّ في حرفيَّة قاتلة لروح الشَّريعة أو لروح الكلمة. ومصدر هذا التزمّت ليس سوى الكبرياء، أي أن يرى الإنسان نفسه أسمى وأطهر من غيره، حيث يعتمد في نظرته هذه إلى نفسه على مدى دقّة التزامه بحرف الشّريعة بحجّة الأمانة للشّريعة. وهنا الطّامة الكُبرى، إذ تصير الأمانة للشّريعة مَطَيَّة لإبليس في إقناعه للفرِّيسيّ بأنّه هو الأمين على ما لله كونه متمسِّك ليس فقط بما ينصّه النّاموس بل عبر ما يستخرجه من النَّاموس من شرائع للتَّعبير عن مغالاته في دقة حفظه للنَّاموس على ما نرى في المثل حيث يقول الفرّيسيّ: “اللّهمَّ إنّي أشكرك لأنّي لستُ كسائر النّاس الخَطَفَةِ الظّالمين الفاسقين، ولا مثلَ هذا العشّار. فإنّي أصومُ في الأسبوع مرّتين وأعشّر كلّ ما هو لي” (لو 18: 11 و12). ناموس موسى لا يطلب صومًا أسبوعيًّا، كما أنّه يُحدِّد ما يجب أن يُعشَّر. إذّا، الفريسيّ يصنع أكثر ممّا تطلبه الشَّريعة، هذا في الظّاهر وفي الحرف، لكنّ روح الشّريعة هي “إِنِّي أُرِيدُ رَحْمَةً لاَ ذَبِيحَةً، لأَنِّي لَمْ آتِ لأَدْعُوَ أَبْرَارًا بَلْ خَطَأةً إِلَى التَّوْبَةِ” (مت 9: 13، 12: 17 وراجع هو 6: 6).
روح النّاموس هي ذبيحة الرّحمة لا ذبيحة المُحْرَقَات والله يطلب معرفته كطالب لخلاص الخطأة أكثر من تَقَادم تُرفع إليه في العبادة. مشكلة الفرّيسيّة هي روح الدّينونة النّابعة من معرفة مغلوطة لله وتفسير خاطئ لكلمته وعيش منحرف لوصيّته. الفرّيسيّ يطلب أن يُسمَع ويُطاع ولا يقبل تصويبًا وتقويمًا من أحد لأنّه يعتبر نفسه المرجع الأوّل والأخير للتَّعليم. هذا بحدّ ذاته هرطقة وتجديف على روح الله. من كان هكذا يُخاطر بخسارة خلاص نفسه في حين أنّه يرى ذاتَه مُخَلَّصًا. هذه قمّة الضَّلالة الّتي يُوقِع بها إبليس من وقع في الفريسيَّة… لكي يضمّه إلى موكب المأسورين معه في جهنّم العذاب…
* * *
أيُّها الأحبّاء، إنّ الفريسيَّة مرض قتّال ينبغي علينا جميعًا أن نهرب منه بروح التّقوى أي الوداعة والاتّضاع النّابعَيْن من استقامة الإيمان وعمقه الَّذي هو المحبَّة كما علّمنا إيّاها الرّبّ يسوع المسيح أي بذلًا وتضحية مع جرأة في البشارة بالحقّ ولطف في الرُّوح القدس للرَّحمة وانفتاح على الآخر بالاتّضاع.
في زمننا الحاضر نجد أبواقًا تدَّعي الحفاظ على الإيمان والكرازة به باسم الأرثوذكسيّة في حين أنّها تتعاطى بروح فرّيسيّة باستعلاء ودينونة وتنصَّب نفسها معلَّمة وحيدة للإيمان. هذا أمر خطير ومضرّ بإيماننا الأرثوذكسيّ لأنّه يضخُّ حقدًا وكراهيةً للآخَرين ويسبّب نفورًا من الكنيسة الأرثوذكسيّة ورفضًا لها. المؤمن الحقّ متمسِّك بإيمانه وليس زِمِّيتًا متعصِّبًا، وذلك لأنّه يعرف الله ويحيا بالتَّقوى وفيها مبشِّرًا بروح الوداعة والمحبّة بالإيمان القويم الَّذي هو نفسه منذ بداية كرازة الرَّبّ وحتّى اليوم والمسلَّم إلى الرُّسُل والقدّيسين.
لنتعلَّم يا أحبَّة من تواضع العشّار أنّنا خطأة نحتاج رحمة الله، ولا ندن من يخالف إيماننا بل فلنرحمه، ولا نتعظِّم في أنفسنا ببرِّ ذواتنا “إِذِ الْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ اللهِ” (رو 3: 23) الَّذي هو محبّة وسلام وليس إله تشويش (1 كو 14: 33).
يا أحبَّة، “لِنهُربنَّ مِن كلام الفرّيسيّ المُتَشامِخ، ونتعلَّم تواضُعَ العشاّر، هاتفين بالتنهُّداتِ إلى المخلِّص: ارحمنا أيُّها الحَسَنُ المصالحةِ وحدك” (قنداق أحد الفريسي والعشار)
ومن له أذنان للسَّمع فليسمع…
+ أنطونيوس
متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما