في هذا اليوم تُقيم الكنيسة المُقدَّسَة تَذكار:
*القدّيس البارّ إسحق السّوريّ الـمُعترِف *الشّهيد نتاليوس *الشّهيدان رومانوس وتلاتيوس *الشّهيد أفبولوس *القدّيس البارّ يعقوب غاليتش.
* * *
✤ القدّيس البارّ إسحق السّوريّ الـمُعترِف ✤
كان إسحق ناسكًا سوريًّا. عاش في البرّيّة السّوريّة في زمن الاضطهاد الّذي لحق بالمُستقيمي الرّأي أيّام الإمبراطور الآريوسيّ النّزعة فالنز (364– 379 م).
في العام 378 م.، فيما كان الإمبراطور يستعدّ للخروج في حملة عسكريّة ضدّ الغوط الّذين تجمّعوا على ضفاف نهر الدّانوب وهدّدوا القسطنطينيّة، في ذلك الحين خرج إسحق من صحرائه إلى القسطنطينيّة، بناء لأمر الله. وقف أمام الإمبراطور وقال له: “يا جلالة الملك، مُرّ أن يُعاد فتح الكنائس فتعود مظفَّرًا”. لكنّ الإمبراطور لم يأبه له واحتقره. في اليوم التّالي، جاء إليه رجل الله من جديد وأعاد عليه الكرّة فجاز به ولم يُعره اهتمامًا. في اليوم الثّالث اعترضه إسحق في الطّريق وقبض على زمام فرسه وكرّر الطّلب، متوسّلًا حينًا، مُنبِّهًا حينًا آخر. فلمّا بلغ هوّة سحيقة ملأى بالعلّيق ضاق الإمبراطور ذرعًا برجل الله فأعطى حرّاسه الأمر أن يُلقوه في الهوّة. ولكن، بنعمة الله، سقط إسحق بين الأشواك كما على سرير وثير، وقد أخرجه من هناك شابّان بهيّان بلباس أبيض ونقلاه، بلا تأخير، سالمًا مُعافى، إلى القسطنطينيّة، إلى وسط الأغورا أو السّاحة العامّة، وجعلاه أمام الملك الّذي وصل لتوّه. تعجّب الملك وسأل ما إذا كان هو إيّاه الّذي أمر بإلقائه في الوهد، فأجابه قدّيس الله: “افتح الكنائس فتعود في الفرح. فإذا لم تفعل ما أقوله لك فاعلم أنّك بعد أن تهرب من المعركة وتنجو سوف تهلك بنار أعدائك في كومة قشّ”. اهتزّ الإمبراطور لهذا الكشف لكنّه بقي، رغم ذلك، على عناده. وقد كلّف اثنين من الشّيوخ، ساتورنينوس وفيكتور، أن يؤمّنا حفظ إسحق إلى حين عودته.
وقعت المعركة بالقرب من أدرينوبوليس في التّاسع من شهر آب 378 م. واندحر فيها الجيش الإمبراطوريّ. غير أنّ فالنز تمكّن من الهرب والنّجاة بمَعيّة مساعد له واختبأ في كومة قشّ. لكنّ مُطارديه من البربر اكتشفوا أين كان وأضرموا النّار في القشّ فقضى فالنز نحبه بميتة شنيعة. فلمّا عاد إلى المدينة المتملّكة مَن تمكّن من الإفلات من العساكر المندحرة أراد بعضهم امتحان إسحق فقالوا له: “استعد لتؤدّي حسابًا عن تصرّفك فإنّ الإمبراطور في طريقه إلى المدينة”. فأجاب القدّيس: “لقد بلغتني رائحة عظامه المتكلّسة منذ سبعة أيّام”.
فلمّا اعتلى ثيودوسيوس الكبير سدّة العرش أُحيط علمًا بما جرى وبالدّور الّذي لعبه الرّاهب القدّيس فأطلق سراحه وأصدر مرسومًا أعاد فيه للمُستقيمي الرّأي استعمال كنائسهم بعد أربعين سنة من الانقطاع.
لما تمّم إسحق مهمّته قال إنّه بإمكانه الآن أن يعود إلى صحرائه السّوريّة. لكنّ ساتورنينوس وفيكتور رجياه بدموع أن يمكث في المدينة ليعيد إليها الحياة الرّهبانيّة الّتي تعرّضت للإهمال خلال الاضطهاد الآريوسيّ. وبعدما ألحّا عليه أذعن شرط أن يبنيا له قلّاية في موضع هادئ معزول يمضي فيه بقيّة أيّامه في الهزيخيّا (الهدوئيّة). وقد قدّم له الشّيخان عروضًا عديدة وتنافسا في تقديم الأفضل له عن غيرة، كما أضحيا له ابنَين روحيَّين. وقد وقع اختيار القدّيس أخيرًا على ملكيّة صغيرة قدّمها ساتورنينوس، تقع خارج السُّور في حيّ ساماتيّا بقرب بوّابة كْسيرولوفوس. هناك أقام في قلّاية متواضعة وعاش كناسك. وكان الشّيخان، كلّ صباح، يأتيان إليه ليأخذا بركته ثم ينصرفا إلى شؤونهما. وإنّ عددًا مُتزايدًا مِنَ النّاس أخذ يأتيه زائرًا التماسًا للبركة وطلبًا للمعرفة في شأن الإيمان القويم والحياة الرّوحيّة. الإمبراطور ثيودوسيوس نفسه كان يتردّد عليه ويطلب نصيحته ويلتمس منه الصَّلاة من أجله ومن أجل الإمبراطوريّة. وكان العديد من المسيحيّين يدعونه إلى بيوتهم وكان هو، أحيانًا، يلبّي الدّعوة خلوًّا من روح المجد الباطل.
واجتمع إلى إسحق تلاميذ عديدون حتّى صار أوّل دير في القسطنطينيّة، بعد تلك الأيّام العجاف، وذلك في حدود العام 382 م.، شركات رهبانية أخرى تكوّنت هنا وثمّة في المدينة بتأثير قدّيس الله، وكان كلّ منها يضمّ ما بين الخمسين والمائة راهب. بعض هذه الشّركات كان داخل المدينة وبعضها كان في الجوار. من أشهر هذه التّجمّعات تلك الّتي انضوت تحت لواء القدّيس هيباتيوس في دير روفينيانوس. كان إسحق يزور هذه الأديرة بانتظام ويعظ مَن فيها بغيرة روحيّة كبيرة. ومع أنّه لم يكن له أيّ سلطان رسميّ عليها فإنّ الجميع كانوا يوقّرونه كأب لهم.
وإلى الاهتمام الرّهبانيّ كان لإسحق اهتمام بالمحتاجين، فإنّه إذ كان يقف على حاجات الفقراء، هنا وثمّة، فإنّه كان يُطلع ذوي اليسر على الأمر فكان هؤلاء يوفّرون له كلّ ما يطلبه منهم.
فلمّا تسقَّف القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفم على المدينة المتملّكة، سنة 398 م.، لاحظ أنّ عددًا كبيرًا من الرّهبان يتجوّل في المدينة ويزور بيوت النّاس فعمد إلى أخذ إجراءات تحدّ من التّجاوزات في هذا الشّأن حتّى إنّه أمر الرّهبان بملازمة أديرتهم. كما شرع بإعادة تنظيم أعمال الرّحمة، لا سيّما بتأسيس مستشفى كبير عيّن هو بنفسه المسؤولين عنه. هذه التّدابير الرّعائيّة الضّروريّة حجبت نشاط القدّيس إسحق المُحبي وشعر عدد من الرّهبان بأنّه جرى تهميشه. هذه الحالة الّتي وُجدت بين الذّهبيّ الفم من ناحية والقدّيس إسحق ورهبانه من ناحية أخرى استغلها ثيوفيلوس، رئيس أساقفة الإسكندريّة لمصلحته، ومصلحته كانت في الطّعن بالذّهبيّ الفم وتدابيره.
بنتيجة ذلك عاد القدّيس إسحق لا يتدخّل في الشّؤون الكنسيّة وأمضى أيّامه الأخيرة بسلام في ديره. وإذ أخطره الرَّبّ الإله بقرب مغادرته إليه جمع تلاميذه وأوصاهم بالثّبات في الإيمان القويم وعيّن دلماتيوس خلفًا له ثمّ لفظ أنفاسه. كان رقاده في العام 406 م. وقد بكاه الشّعب المُؤمِن وعلى رأسه الإمبراطور. كانت النّيّة أن يوارى الثّرى في ديره لكنّ أوريليانوس، إحدى شخصيّات القصر الّذي كان شديد الإعجاب بالقدّيس، خطفه بالقوّة وجعله في المدفن تحت كنيسة سبق لأوريليانوس أن بناها إكرامًا للقدّيس استفانوس.