في هذا اليوم تُقيم الكنيسة المُقدَّسَة تَذكار:
*الشّهداء الفُرس أكندينوس وبيغاسيوس وأفطونيوس وألبيذيفورس وأنمبوذيستس* أبونا القدّيس البارّ مرقيانوس القورشيّ *القدّيس الكاهن ثيودوتس اللّاذقيّ *الشّهيدة أوسطاثيا الطّرسوسيّة *الشّهداء أتيكوس وأفدوكس وأغابيوس ومارينوس وأوسيانوس وأفستراتيوس وقبطاريوس وستيراكيوس وطوبيا ورفاقهم*الشّهداء أعضاء المشيخة المؤمنون بالرَّبّ يسوع في سبسطيا الأرمنيّة* الشّهيدات كيرياكي ودومنينا ودمنة *الجديدان في الشّهداء الرّوس أنانياس أريستوف وقسطنطين يورغانوف الكاهنان.
* * *
✤ أبونا القدّيس البارّ مرقيانوس القورشيّ ✤
إنّ المصدر الذي استقينا منه سيرة هذا الأب البار المعرَّف عنه بالعظيم هو اللاهوتي والمؤرِّخ المعروف ثيودوريتوس أسقف قورش (293 – 366 للميلاد)، مواطن القدّيس مرقيانوس.
أما مدينة قورش فقد أضحت اليوم خربة، وهي على الحدود السورية الشمالية، عند نهر عفرين، والأكراد يدعونها “النبي هوري“، وهي على بعد مئة وخمسين كيلومتراً تقريباً من الجهة الشمالية الشرقية من مدينة أنطاكية.
من شرف إلى الشّرف
كان مرقيانوس من عائلة شريفة مرموقة، وقد تسنّى له أن يتبوأ مركزاً مهمّاً في البلاط الملكي. وكان، إلى ذلك، طويل القامة، جميل الطلعة، قويّ البنية، حاد الذكاء. وعوض أن يصرفه ميراثه البشري عن الله اغتراراً تحوّل إليه بكليّته. وإذ تخلّى طوعاً عن اللآلئ الكثيرة التي كانت في حوزته، خرج إلى الصحراء في طلب اللؤلؤة الواحدة الكثيرة الثمن (متّى 13: 45 – 46).
في الصحراء، ابتنى مرقيانوس لنفسه كوخاً صغيراً ضيقاً يكاد لا يتّسع لجسمه وأحاطه بسياج وأقام فيه منقطعاً عن كل خلطة بشرية، منصرفاً إلى اللهج بالله ليل نهار وقولة داود النبيّ في المزمور الأول تتردّد في نفسه دونما انقطاع: “طوبى للرجل الذي… في ناموس الربّ هواه وبشريعته يلهج نهاراً وليلاً ويكون كالعود المغروس على مجاري المياه الذي يعطي ثمره في حينه وورقه لا ينتثر” (مز 1: 1 – 3).
ثلاثة كانت تشغله: مطالعة الكتاب المقدّس التي كان يتمتّع فيها بسماع صوت الله، والصلاة والضراعة ابتغاء للحديث إلى ربّه، والترنم بالمزامير تسبيحاً لاسمه وتمجيداً.
طعامه
كان طعام مرقيانوس مقتصراً على الخبز، وبكمية تكاد لا تكفي طفلاً فطيماً. كان جائعاً عطشاً كل أيامه لا يسمح لنفسه إلاّ بما هو كاف لإبقاء الجسد على قيد الحياة. كان يقول إنّه من الأفضل للمرء أن يتناول الطعام كل يوم ولكن من دون أن يشبع لأنّ الصيام الحقيقي هو الجوع الدائم. أما لماذا كان يؤثر مثل هذا النظام الغذائي على الصيام بضعة أيام ثمّ تناول وجبة كافية نظير الكثيرين فلأنّه خبر أن الصيام المتواصل لعدة أيام يضعف الإنسان جداً فلا يستطيع إتقان خدمة الربّ. فإذا ما أقبل بعد ذلك على الطعام ثقلت معدته وتوانت نفسه عن السهر كما يليق وكما يشتهي.
تلميذاه
ثابر مرقيانوس على قانونه هذا مدة من الزمن أنعم الله عليه بعدها بتلميذَين: أفسافيوس الذي ورث قلاّيته من بعده وأغابيتوس الذي كان له الأثر الأكبر في زرع السيرة الملائكية في ضواحي مدينة أفاميا. وقد سمح لهما مرقيانوس ببناء قلاّية جديدة سكنا فيها معاً وأقاما مرتّلَين مصلّيَين يطالعان الكتب الإلهية نظير أبيهما. وإذ قدم عدد من طلاب الرهبنة بعد حين، أوعز مرقيانوس إلى تلميذَيه ببناء قلاّية أخرى على مقربة من الأولى وأَسند مهمّة العناية بالقادمين الجدد إلى أفسافيوس. أما أغابيتوس فبعدما تمرّس على الحياة الرهبانية انطلق يؤسّس الأديرة والمناسك فاستقطب المئات ويقال إنّه حُسب أهلاً لرئاسة الكهنوت.
مسكناً للنعمة
ومما يروى عن القدّيس مرقيانوس أنّ تلميذه أفسافيوس خطر بباله مرة أن يعاين ما عسى معلمه يفعل في الليل فاجترأ واقترب من نافذة قلاّيته الصغيرة وتطلّع فأبصر نوراً عجيباً فوق رأس معلّمه، نوراً لم يكن مصدره سراجاً أو ما يشبه السراج. كان النور إشراقاً من الله على عبده لتمكينه من قراءة الكتاب المقدّس. ارتعش أفسافيوس لهذا المشهد وعاد إلى قلاّيته يمجّد الله على عنايته الفائقة بعبده.
ويُروى عنه أيضاً أنّ النعمة الإلهية سكنت فيه إلى حدّ أنّه لم يعد للخوف من الخطر الخارجي، أياً كان حجمه أو مصدره، مكان في نفسه. فلقد حدث أنّه كان مرة في الباحة أمام قلاّيته وإذا بوحش يتسلّق السياج الشرقي طالباً مَن يفترسه وكان أفسافيوس قريباً من المكان فصرخ بمعلّمه منبّهاً فرفع معلّمه رأسه صوبه دون أن تبدو عليه إمارات القلق وقال له بصوت هادئ واثق: لا تخف يا بنيّ، إهدأ فالانفعال لا يليق بالرهبان. ثمّ رسم على الوحش إشارة الصليب ونفخه بفمه فيبس الوحش للحال وبدا كأنه قد اشتعل وتحوّل إلى رماد كما لو كان حزمة قش التهبت.
المعجزات عفواً
وكعادة الآباء، كان مرقيانوس حريصاً على إخفاء مواهبه اجتناباً لتجربة المجد الباطل، لكنّه كان يأتي المعجزات عفواً. من ذلك مثلاً أنّه كان لرجل من الأشراف، من قادة الجيش، ومن أصدقاء مرقيانوس، ابنة بها مسّ كانت من جرّائه تضطرب وتهتاج كما لو كانت مصابة بداء الكلَب. هذا بعدما عيي عن شفاء ابنته بالأطباء والأدوية انطلق إلى الصحراء، إلى حيث كان مرقيانوس مقيماً، وطلب أن يرى القدّيس فمنعه شيخ كان مقاماً على خدمته، فطلب الشريف من الشيخ الخادم أن يأخذ إناء فيه قليل زيت ويضعه أمام باب قلاّية القدّيس فأبى فتوسّل فرضي. وأخذ الشيخ الإناء واقترب من القلاّية على مهل ووضعه عند الباب فسمع القدّيس وقع قدميه فناداه من الداخل ماذا تريد، فاضطرب الشيخ وأجاب: “لا شيء البتة. فقط جئت أرى ما إذا كنت تريد مني شيئاً”. قال هذا وعاد إلى الوراء. ثمّ في صباح اليوم التالي، عاد والد الصبية ليأخذ الإناء فتردّد الشيخ قليلاً ثمّ تقدّم بخطى بطيئة صوب القلاّية. وما إن مدّ يده ليأخذ الإناء حتى سأله أفسافيوس مجدداً عما يريد، ولما أجابه كمثل الليلة السابقة غضب وقال له أن يقول الحقيقة، فأخبره الشيخ مرغَماً قصّة الرجل الشريف والابنة وإناء الزيت فوبّخه وأمره أن يعيد الإناء إلى صاحبه ويصرفه. وإن الشيطان في اللحظة التي تفوّه فيها القدّيس بهذه الكلمات، خرج من الصبيّة فعادت سليمة معافاة، وقد شهد والدها بذلك فيما بعد.
الصّمت أجدى
زاره مرة عدد من رؤساء الكهنة من ذوي الفضل والفضيلة: فلافيانوس الأنطاكي الذي سام القدّيس يوحنّا الذهبي الفم كاهناً وأكاكيوس الحلبي وأفسافيوس أسقف قنّسرين (خلكيس) وإيسيدورس القورشي وثيودوتوس المنبجي وبعض الموظفين وطلبوا أن يسمعوا منه كلمة فبقي صامتاً. ولما ألحّ عليه أحد الحاضرين تنهّد وقال: “إنّ إله الكل يكلّمنا كل يوم بالخليقة، يكلّمنا بالكتب المقدّسة، يحضّنا على عمل ما يتوجّب علينا، يدلّنا على ما ينفعنا، ينذرنا بوعيده ويحرّضنا بوعوده، ونحن لا نجني من ذلك نفعاً البتة. فإذا كان الأمر كذلك فكيف يمكن مرقيانوس أن يفيدكم بكلامه وهو كغيره لا يبالي بهذا الخير الجزيل ولا يريد أن ينتفع منه“. وبعدما حرّك كلامُه القلوب قاموا وصلّوا وأرادوا أن يضعوا عليه الأيدي ليجعلوه كاهناً، لكن كل واحد كان يرجو أن يفعل ذلك سواه ولما امتنع الجميع عن المبادرة انصرفوا إلى أوطانهم.
تجرّده وفقره
وإظهاراً لتجرّده وفقره وحكمته وتنزّهه عن علاقات القربى الطبيعية تُروى عنه هذه الحادثة:
أقبلت أخته إليه يوماً برفقة ابنها، وكان أحد أعيان قورش، وقد حملت معها كميّة وافرة من المؤن. فقيل له: “جاءت أختك وابنها لرؤيتك“، فأبى أن يستقبلها، إلاّ ابنها. ولما طلب هذا إليه أن يقبل ما أتياه به قال له: “بِكَم من الأديار مررتما في الطريق إلى هنا، فهل قدّمتما لساكنيها شيئاً مما حملتما؟” أجاب ابن أخته: “كلا“، فقال: “عودا، إذاً، بكل ما أتيتما به إليّ فلا حاجة لنا هنا إليه، واعلما أنّه حتى لو كنا في حاجة إليه فلسنا نقبله لأن ما دفعكما إلى الاهتمام بي هو القرابة الطبيعية، لا الخدمة الإلهية. فلولا اعتباركما القرابة الدموية لما كنتما خصّصتمانا بعطيّتكما“. قال هذا وصرف الابن وأمّه ولم يأخذ منهما شيئاً.
رقاده
ولما كان كثيرون، استباقاً لرقاد القدّيس مرقيانوس، قد أُخذوا في تشييد ضريح له فقد استدعى رجل الله تلميذه أفسافيوس وأوصاه بإخفاء جثمانه بعد رقاده وأن لا يسلّمه لأحد. وهكذا كان، فما أن أسلم القدّيس مرقيانوس الروح بسلام حتى دفنه تلميذه واثنان آخران في البرّية، وبقي كذلك مخفًى عن الأنظار خمسين سنة إلى أن نُقل إلى جرن من الحجر بسماح من القدّيس نفسه. كانت وفاته بعد العام 381 للميلاد.