في هذا اليوم تُقيم الكنيسة المُقدَّسَة تَذكار:
*القدّيس لاون أسقف قطاني *الشّهداء صادوق ورفاقه *القدّيس البارّ بيصاريون *الشّهداء تيرانيون الصّوريّ وزنوبيوس الصّيدانيّ ورفاقهما *القدّيس البارّ أغاثون أسقف رومية *القدّيس سندس، أسقف بيسيديا *القدّيس البارّ بلوتينوس *القدّيسان البارّان كورنيليوس بسكوف وتلميذه باسيان *القدّيس البارّ أغاثون العجائبيّ.
* * *
✤ القدّيس البارّ بيصاريون ✤
كان، بشهادة تلاميذه، متجرّداً عن كل شيء، كالعصافير أو الأسماك، أو وحوش البرية. لم يشأ أن يكون له بيت أو قنية أو مقام ثابت. نبذ كل ما يمتّ إلى إشباع الحواس بصلة. أكمل حياته في سكينة بلا هم. ساس نفسه بالإيمان الحي وحده. كان يدرك، في قرارة نفسه، بطلان ما في العالم، لذلك جعل تعزيته في رجاء, الخيرات الأبدية. حسب نفسه غريباً وأسيراً في الأرض. طاف البراري كالتائه. لم يردّه عن قصده أن يكون عرضة، ليل نهار، للسعات الأهوية، وأن يكابد العري والبرد القارس والشمس المحرقة. صبره، على كل ذلك، كان عجيباً. غالباً ما اجتنب المواضع التي أقام فيها الناس. وإن مرّ بدير لا يدخل بل يجلس عند بابه نائحاً، متنهّداً كإنسان نجا من الغرق. وإذا ما لاحظه أحد الإخوة وخرج إليه مستفسراً، عارضاً عليه العون، أجاب: إلى أن أجد ممتلكات بيتي الذي نُهب وغنى بيت آبائي لا أسكن تحت سقف لأن قراصنة دفعوا بي في البحر وعاصفة هبّت عليّ فسقطتُ من رتبتي وأضعت الشرف الذي وُلدت فيه. وقد عنى حالة البراءة التي أضعناها جميعاً بسقوط آدم. ثم تابع فقال أنه في عذاب وأن لا حيلة له سوى قضاء زمانه في الدموع، تائهاً كل يوم كمن لا شيء له ولا موضع يقيم فيه. توبته كانت فائقة ونسكه شديداً. كان يمضي، أحياناً، أربعين نهاراً وأربعين ليلة في وضع الوقوف بين الشوك دون أن يذوق طعم النوم. أربعون سنة لم ينم خلالها على جنبه. كان لا ينام إلا جالساً أو واقفاً. اعتاد أن يكون عنيفاً حيال نفسه إلى المنتهى. بلاديوس قال لو أن ملاكاً نزل من السماء إلى الأرض لما عاش على نحو أكمل من النحو الذي عاش بيصاريون عليه. نقاوته كانت فائقة وتمييزه حاداً. سأله أخ مقيم في شركة كيف عليه أن يسلك، أجاب احفظ الصمت ولا تقسّ نفسك على الآباء النسّاك الكبار. محبته للقريب كانت بلا حدود. لم يكن له من المقتنيات سوى الثوب الذي يغطي بدنه ومعطف صغير وكتاب الأناجيل يتأبطه على الدوام. وإذ حدث مرة دخل قرية وجد في الساحة جثة مسكين كان عارياً. للحال خلع معطفه وغطّاه. وتقدّم قليلاً فالتقى فقيراً عرياناً فقال لنفسه: كيف احتفظ بثوبي وقد خرجت من العالم فيما أخي يهلك من البرد؟ ألا أُتهم بموته إذا أغضبتُ عنه؟ ثم لو أعطيته نصف ثوبي فلا هو ينتفع منه ولا أنا؟ ماذا يضيرني لو تجاوزت بالحب ما أمر به العليّ؟ لهذا خلع ثوبه وأعطاه لفقير المسيح وجلس هو محاولاً إخفاء عريه بيديه فيما بقي الإنجيل تحت إبطه. على هذه الصورة انتظر خلاص إلهه. ولم يمض وقت طويل حتى مرّ به، بتدبير الله، متولي العدالة في تلك الناحية فعرفه. للحال نزل عن حصانه وسأله: من عرّاك يا أبتي؟ فأشار بيصاريون إلى إنجيله. فخلع الرجل معطفه وجعله عليه، فقام لتوه وانصرف. لم يشأ أن تطرق أذنيه كلمة مديح واحدة. في الطريق، التقى فقيراً آخر فلم يشأ أن يتجاوزه دون أن يعطيه ما بقي لديه. وما بقي لديه كان كتب الإنجيل. فأسرع إلى السوق وباعه، ثم عاد ونفح الفقير ثمنه. بعد أيام سأله تلميذه ذولاس عن الكتاب فأجاب بابتسامة: “لا تغضب يا أخي، لقد بعته لأتأكد من أني سأحظى بالمجد السماوي وكذا طاعة لكلام الرب يسوع الذي ما فتئ يقول لي في هذا الكتاب بع كل ما لك ووزّعه على الفقراء”.
من أخباره المتداولة التي كان ذولاس، تلميذه، شاهد عيان لها أنه فيما كان يسير مرة على شاطئ البحر قال له تلميذه: لا أستطيع أن أتابع سيري يا أبتي لأني عطشان. فصلّى ثم قال له: “اشرب من ماء البحر”. ففعل كذلك فكان في فمه عذباً. وإذ حاول التلميذ أن يأخذ ماء في الوعاء للطريق منعه رجل الله قائلاً: إن الله الكائن ههنا كائن في كل مكان أيضاً.
أيضاً قيل عنه أنه كان بصحبة ذولاس مرة، فبلغا نهراً فلم يجدا ما يعبران به. فبسط بيصاريون يديه وصلّى وعبر على المياه. ولما استوضحه تلميذه إلى أي حد كان يحسّ بالمياه تحته، أجاب: كنت أحس بها إلى المفصل بين الساق والقدم. أما قدماي فكانتا كأنهما على اليبس.
وأخبروا عنه أنه كان في طريقه مرة إلى أحد الشيوخ الحكماء حين قاربت الشمس المغيب. فصلى قائلاً: أرجوك، سيّدي، ثبّت الشمس في موضعها حتى أصل إلى عبدك!” وهكذا كان.
من أخباره أيضاً أنه جيء برجل إلى الكنيسة به شيطان فصلّى عليه الإخوة فلم يخرج الشيطان منه لأنه كان عنيداً. فقالوا ليس لنا سوى الأب بيصاريون. وحده يقدر أن يخرجه. ولكن كانوا يعلمون أن الشيخ خفر ولا يشاء ادعاء صنع العجائب، فصرفوا النظر عن الطلب إليه في شأنه، وجعلوا الرجل الممسوس في مكان القدّيس في الكنيسة. فلما حان وقت الصلاة قالوا للقدّيس قل لهذا الرجل أن ينهض للصلاة، فجاء إليه ولكمه قائلاً: انهض من مكانك! فقام الشيطان وخرج منه وشُفي الرجل تماماً.
كذلك من أخباره
أن رجلاً مصرياً أتى إلى بيصاريون بابنه المفلوج وتركه عند باب قلايته ومضى. فأخذ الولد في البكاء، فسمعه الشيخ. وإذ خرج إليه سأله: ماذا تفعل هنا؟ أجاب: أبي تركني ومضى! فقال له الشيخ: انهض وألحق بأبيك! فقام للحال ومضى معافى.
وقالوا عنه أنه جاء مرة إلى زانية مشهورة اسمها تائيس مدّعياً طلب الهوى. ولما اختلى بها كلّمها بكلام الله فارتدّت عن ضلالها. وقد أخذها إلى دير للعذارى عاشت فيه حبيسة. هناك تركها بعد أن علّمها الصلاة التالية: “يا من خلقتني ارحمني!” على هذه الصلاة عاشت. وبعد مدة سأل المغبوط في شأن توبتها تلاميذ القدّيس أنطونيوس فصلّوا وصاموا فكشف روح الله لأحدهم وهو بولا ما آلت إليه حالها. رأى مكاناً معدّاً بجمال عظيم وثلاثة ملائكة يحملون مصابيح أمام المرقد وتاج الظفر موضوعاً عليه. وإذ بصوت يقول له: إن هذا المضجع هو للناسكة العابدة تائيس.
ولما أشرف بيصاريون على نهاية سفره إلى ربّه قال لمن حوله: “على الراهب أن يكون كالشاروبيم، كله عين”.