في هذا اليوم تُقيم الكنيسة المُقدَّسَة تَذكار:
✵القدّيس إشعياء النّبيّ ✵القدّيس خريستوفوروس حامل المسيح ✵أبونا الجليل في القدّيسين نيقولاوس، أسقف ميرا ليكيا ✵القدّيس البارّ شيو (سمعان) مكفيم السّوريّ ✵الشّهداء نيقولاوس فونين الجديد ورفقته ✵القدّيس البارّ يوسف أوبتينا.
* * *
✤ القدّيس إشعياء النّبيّ ✤
معنى اسم النّبيّ “أشعياء” هو “الرَّبّ يخلّص”. وهو الّذي على اسمه وردت أبرز نبوءة من نبوءات الأنبياء الأربعة الكبار في الكتاب المُقدّس، العهد القديم: أشعياء، إرميا، حزقيال ودانيال. تنبّأ في مملكة الجنوب، يهوذا، في أيّام كلّ من الملوك عزيا ويوثام وآحاز وحزقيا. ثمّة مَن يرجِّح أنّه عاش إلى أن جاوز الثّمانين وأنّ عمله النّبويّ امتدّ إلى حدود السّتّين سنة. اسم أبيه كان آموص (إش 1: 1). في التّقليد العبريّ أنّ آموص كان أخ امصيا، ملك يهوذا. إذا صحّ هذا يكون أشعياء النّبيّ من سلالة مَلكيّة. أنّى يكن الأمر فإنّه يبدو أنّه كان سهلًا عليه الدّخول إلى ملوك يهوذا والخروج من عندهم.
من جهة أخرى يبدو أنّ أشعياء كان رجلًا عالي الثّقافة. أسلوبه الأدبيّ يعتبره العارفون رائعًا، وهو أجمل ما ورد في كتابات العهد القديم. أشعياء أبلغُ الأنبياء، وغالبيّة سِفْره شِعر عبريّ راق. ثمّة من الدّارسين مَن يظنّ أنّه كما أنّ لغة هوميروس كانت أنقى ما كتبه الشّعراء باليونانيّة، كانت لغة أشعياء أنقى ما كتبه اليهود بالعبريّة. يقول القدّيس إيرونيموس في شأنه: إنّك لتجد في نبوءاته الكتب المُقدّسة بِرِمَّتها. وكذلك خلاصة ما وصل إليه العقل البشريّ من فلسفة وأدب ولاهوت.
هذا ويبدو إن أشعياء كان يُقيم في أورشليم وكان يعرف الهيكل والطّقوس معرفة جيِّدة. تزوّج ودعا امرأته “النّبيّة” (إش 8: 3) وكان له ولدان أطلق عليهما إسمَين رمزيّين ذات صلة بنبوءاته. على الواحد أطلق اسم “شآر يشهوب” أي “البقيّة ترجع” (7: 3) وعلى الآخر اسم “مهير شلال حاش بز” أي “يعجِّل بالسّلب ويسرع بالنّهب” (8: 1).
مهمّة أشعياء
تكليف الرَّبّ الإله أشعياء بالنّبوءة وخطّته في تبليغ الشّعب إلى الخلاص وردا في إطار كشفه لنفسه. هذا ورد الكلام عنه في الإصحاح السّادس من النّبوءة. الزّمان كان سنة وفاة عزّيا الملك، والمكان الهيكل. هكذا وصف النّبيّ مُعاينته لله: “شاهدت السّيّد جالسًا على عرش مرتفع سام وقد امتلأ الهيكل من أهدابه”. وكان السّيّد مُحاطًا بالمَلائكة المسمَّين سارافيم الّذين وصفهم أشعياء بأنّ “لكلّ واحدٍ منهم ستّة أجنحة، بإثنين يحجبون وجوههم وبإثنين يحجبون أرجلهم وبإثنين يطيرون”. “سرافيم”، اللّفظة، يغلب أن يكون معناها كائنات مشتعلة أو “شرفاء” وهي بصيغة الجمع. وكان كلّ واحدٍ فيها ينادي الآخر قائلًا “قدّوس، قدّوس، قدّوس الرَّبّ القدير. مجده ملء كلّ الأرض”. بنتيجة ذلك اهتزّت أُسس أركان الهيكل وامتلأ الهيكل دخانًا. أشعياء، إثر مُعايَنَة المشهد الإلهيّ المَهيب هذا ارتعد وأعطى نفسه الويل. شعر، بإزاء الله، بحقارة نفسه، بالنّجاسة والدَّنس. كلماته هي: “ويل لي لأنّي هلكتُ لأنّي إنسان نجس الشّفتَين وأسكن وسَط قوم دنسيّ الشّفاه، فإنّ عينيّ قد أبصرتا الملك الرَّبّ القدير”. المرء في محضر النّور يدرك ظلمة نفسه ويدرك أنّه هالك لأنّه لا أحد يرى الله ويحيا. غير أنّ من أعلن عن نفسه هو يجعل مُعاينه أهلًا لرؤيته. لذا تابع أشعياء كلامه: “فطار أحد السّيرافيم إليّ وبيده جمرة أخذها من على المذبح ومسّ بها فمي قائلًا: “انظر، ها إنّ هذه قد مسّت شفتيك فانتُزع إثمك وتمّ التّكفير عن خطيئتك”. إذ ذاك سمع إشعياء صوت الرَّبّ يسأل: “مَن أُرسل ومَن يذهب من أجلنا؟” فأجاب أشعياء أرسلني. وإذ استجاب أرسَله الرَّبّ الإله ليتنبّأ. كان الرَّبّ يعرف “أنّ قلب هذا الشّعب قد غلُظ وآذانهم قد ثقُل سماعها” (متّى 13: 15). كان يعلم أنّهم مُعانِدون ولا يشاؤون أن يسمعوا ويفهموا ويرجعوا ليشفيهم. لذلك شاء العليّ أن يضرب شعبه بلعن، بواسطة نبيِّه، بدينونة. فإنّ مَن توفّرت في نفسه الرَّغبة في سماع الكلام الإلهيّ زاده الرَّبّ الإله سماعًا وفهمًا لأنّ مَن له يُعطى ويُزاد كما قال الرَّبّ يسوع لتلاميذه فيما بعد (متّى 13: 12). ومَن عاند وامتنع، حتّى قدرته على الفهم والإدراك تؤخذ منه. لذا قال الرَّبّ لأشعياء: “إمضِ وقلْ لهذا الشّعب، اسمعوا سمعًا ولكن لا تفهموا. انظروا نظرًا ولكن لا تدركوا”. الله يريد أن يقسّي الشَّعب بالأكثر لأنَّهم قُساة لا يَلينون وهم قادرون لو شاؤوا. الله يعطي ولكن إلى حين فإن ارعوى الشّاردون وتابوا انتفعوا، وإن تمادَوا احتجب وزادت قسوتهم شدّة وظلمتهم حلكة. من هنا قوله: “قسِّ قلب هذا الشَّعب ثقّل إذنيه وأغمض عينيه لئلّا يرى بعينيه ويسمع بأذنيه ويفهم بقلبه، فيرجع عن غيِّه ويبرأ”. ليس الله بظالم ولا يشاء لشعبه غير الخلاص، لكنّهم إذ يستهينون بغنى لطفه وإمهاله وطول أناته يذخرون لأنفسهم غضبًا في يوم الغضب (راجع رو 2).
سياسة الله
هنا، طبعًا، يُطرح سؤال، وأشعياء نفسه يطرحه: “إلى متى يا ربّ؟” إلى متى يصرف الرَّبّ الإله وجهه؟ إلى متى يتخلّى عن شعبه الشَّرود؟ إلى متى تبقى لعنته مثبّتَةً عليه؟ أإلى الأبد؟! كلا، ليس إلى الأبد! بإزاء التّسآل: “إلى متى يا ربّ تنساني؟ أإلى الأبد؟ إلى متى تصرف وجهك عنّي؟ إلى متى أهجس في نفسي مثيرًا الأحزان في قلبي مدى الأيّام؟” (مز 12) يأتي الجواب: “الرَّبُّ رحيم… كثير الرّحمة، ليس إلى الانقضاء يسخط ولا إلى الدّهر يحقد. لا على حسب آثامنا صنع معنا، ولا على حسب خطايانا جازانا لأنّه بمقدار ارتفاع السّماء عن الأرض قوّى الرَّبّ رحمته على الّذين يتّقونه…” (مز 102) أجل رحمته تأتي على الّذين يتّقونه. على إسرائيل أن يتوب أوّلًا، وكيف يتوب وهو متماد في غيِّه؟ بالألم! قسوة القلب إن كان لها أن تلين فلا تلين إلّا بالألم والضّيق. أو كما قال في هوشع: “أسيِّج طريقها بالشّوك وأحوطُها بسور حتى لا تجدَ لها مسلكًا فتسعى وراء عشّاقها ولكنّها لا تدركهم وتلتمسهم فلا تجدهم، ثمّ تقول، لأنطلقنّ وأرجعنّ إلى زوجي الأوّل، فقد كنت معه في حال خير ممّا أنا عليه الآن” (2: 6 – 7). إذن، إن قسا الرَّبّ وجفا فليس في الحقيقة، عن تخلٍّ إلى الأبد، بل عن محبّة. قسوته، في كلّ حال، قائمة في محبّته. تأديبٌ هي لا قسوة قلب. متى قسا فليس لأنّه قاسي القلب. الله محبّة. بل لأنّ حال النّاس تستدعي. المحبّة لا تتخلّى في مطلق الأحوال. لذا كانت المحبّة ليِّنة، خفيفة على التّائبين، قاسية، ثقيلة على المُعانِدين حتّى يلينوا. في هذا الإطار تفهم “استراتيجيّة” الرَّبّ الإله، إذا جاز التّعبير. الرَّبّ الإله يجرِّد شعبه من كلِّ عزاء بشريّ أوّلًا. يده باقية عليهم ثقيلة “إلى أن تصبح المدن خربة مهجورة والبيوت خالية من الرّجال والحقول خرابًا مقفرًا” (إش 6: 11). لا بدّ لإسرائيل أن يصير إلى الضّعف أوّلًا، إلى الفقر، إلى الوحشة. “وينفي الرَّبّ الإنسان بعيدًا، وتكثر الأماكن الموحِشة في وسط الأرض” (6: 12). وإذا كان السَّيّد الرَّبّ قد وعد إبراهيم بالبركة أن تكون ذرّيته كنجوم السّماء عددًا فإنّ له بإزاء تعنّت شعبه موقفًا آخر. يُنقِص عددهم ويثقِّل عليهم لكي يوهنهم بالأكثر عسى أن يتّضعوا. “حتّى لو بقي بعد ذلك عشر أهلها، فإنّها ستحترق ثانية” (6: 13). غير أنّ الله لا يشاء، في الحقيقة، أن يُفنيهم. فبعدما أسلمهم للإحراق مرّة واثنتين استدرك النّبيّ بإيعاز ربّه ليقول عن إسرائيل “لكنّها تكون كالبطمة والبلّوطة، الّتي وإن قُطعت يبقى ساقها قائمًا. هكذا يبقى ساقُها زرعًا مقدّسًا”. إذ ذاك يأتي الفهم، في النّهاية. “ملتمسو الرَّبّ يفهمون تمامًا” (أم 28: 5)، أمّا الأشرار فلا يفهمون. “قلب الحكماء في بيت النّوح، أمّا قلوب الجُهّال ففي بيت اللّذّة” (جا 7: 4). “نهاية أمر خير من بدايته” (جا 7: 8).
هذا هو بعامّة الإطار النّبويّ العام لنبوءة أشعياء، وسواها، في الحقيقة، من نبوءات مُعاصريه من الأنبياء نظير عاموص وهوشع وعوبديا وميخا وناحوم.
التّأديب بالأمم
من جهة أخرى تذخر النّبوءة بالمُعطيات السياسيّة الّتي يصف فيها، أشعياء، الواقع السّياسيّ السّائِد، في أيّامه في الشّرق الأوسط. ويأتي على ذكر التّجاذبات الخاصّة بإسرائيل في ذلك الحين. رؤيته تبدو واضحة وتبدو كلمة الله هي المتحكِّمة فيما يجري من حيث إن الرَّبّ الإله يسير بتاريخ الشُّعوب إلى مقاصد مُحدّدة هو ممسك بها. ما يبدو، لمن لا يعرفون، اتّفاقًا، يظهر، لمن يبصرون، تحت قبضة العليّ، ضبطًا مضبوطًا. فقد رأى أشعياء سقوط دمشق قبل وقوعه وتنبّأ بسقوط السّامرة وكذلك بامتداد سلطان الأشوريّين ورأى بابل، في المستقبل البعيد، وخطرها على يهوذا. كما رأى أنّه ليس من الحكمة في شيء أن يعتمد يهوذا على مصر ضدّ آشور. شيء واحد يبقى مفتاح ما يجري توبة شعب الرَّبّ الإله إليه وأن يُلقوا رجاءهم عليه، إذن لأذلّ أعداءهم. “لو أنّ شعبي استمع لي، لو أنّ إسرائيل سلك في طريقي، لكنت أذللت أعداءهم بسرعة وألقيت يدي على مضايقيهم” (مز 80: 13 – 14). في أشعياء 37 يبدو، بوضوح، كم أنّ السّيّد سيّدُ التّاريخ وكيف أنّ التّاريخ، في العمق، هو تاريخ الخلاص. سفير ملك آشور، ربشاقى، إثر سماعه بلجوء حزقيا الملك، بالمسوح والرّماد والابتهالات، إلى الرَّبّ إلهه، بعث يقول له: “لا يخدعنّك إلهك الّذي تتّكل عليه عندما يقول: لن تسقط أورشليم في قبضة ملك آشور. فها أنت قد علمت بما ألحقه ملوك آشور بكلّ البلدان من تدمير كامل، فهل يمكن أن تنجو أنت؟…” (37: 10 – 13). فماذا كان جواب حزقيا؟ توجّه إلى بيت الرَّبّ وصلّى هكذا: “أيّها الرَّبّ القدير… أنت وحدك إله كلّ ممالك الأرض… صانع السّماء والأرض… حقًّا، يا ربّ، إنّ ملوك آشور قد أبادوا الأمم… وطرحوا آلهتهم إلى النّار وأبادوها لأنّها لم تكن فعلًا آلهة بل خشب وحجارة، صنعة أيدي النّاس. فخلِّصنا الآن أيّها الرَّبّ إلهنا، أنقذنا من يده، فتدركَ ممالكُ الأرض بأسرها أنّك أنت وحدك الرَّبّ الإله” (37: 16 – 20).
وردّ الرَّبّ على سنحاريب ملك آشور، بنبيِّه أشعياء، هكذا: “مَن عيَّرتَ؟ على مَن رفعت صوتك…؟ أعلى قدّوس إسرائيل؟… عيَّرت السّيّد على لسان رسلك وقلت: بكثرة مركباتي قد صعدتُ إلى أعالي الجبال وبلغتُ أقاصي لبنان… واخترقتُ أبعد ربوعه وأفضل غاباته… ألم تسمع؟ منذ زمن طويل قدّرتُ ذلك. منذ الأيّام القديمة قرّرتُه وها أنا الآن أحقّقه، إذ أقمتُك لتدمير مدن محصّنة فتحوِّلها إلى روابي خربة… ولكنّي مطّلع على حركاتك وسكناتك وهيجانك عليّ… لذلك سأشكمك بخزامتي في أنفك وأضع لجامي في فمك وأُعيدك في نفس الطّريق الّذي أقبلتَ منه” (37: 23 – 29). وكان أنّ ملاك الرَّبّ قتل مئة وخمسة وثمانين ألفًا من جيش الأشوريّين فانسحب سنحاريب وارتدّ إلى بلاده وأقام في نينوى. وفيما كان يتعبّد لإلهه نُسروخ في الهيكل اغتاله ابناه أدرمَلَّك وشرآصر (37: 36 – 38).
الحالة المتردّية للشّعب
وإذ يهتمّ إشعياء بما يجري على صعيد التّناقضات والتّجاذبات السّياسيّة وموقع الرَّبّ الإله منها يهتمّ كذلك بالحالة الخلقيّة المُتردّية للشّعب ورؤساء الشّعب فيلوم ويوبّخ وينذر. هنا تبدو الصّورة قاتمة لأنّ السَّيّد يقول عن الشّعب إنّه مُثقل بالإثم، ترك الرَّبّ واستهان بقدّوس إسرائيل. فالرّأس كلّه سقيم والقلب كلّه مريض (1: 5). هكذا أصدر الرَّبّ الإله حكمه على أورشليم: “كانت تفيض حقًّا ويأوي إليها العدل فأصبحت وَكرًا للمُجرمين” (1: 21). عمّ فيها الزَّيف وساد الغِشّ وأُولع الرُّؤساء بالرّشوة وسُيِّب الأيتام وأُهملت دعاوي الأرامل. سُحق الشّعبُ وطُحنت وجوه البائسين (3: 15) وسعى القادرون إلى البذخ والتّرف غير مُبالين. وضع المقتدرون أيديهم على البيوت والحقول حتّى لم يبق لأحد غيرهم مكان يسكن فيه (5: 8). سَعَوا وراء المسكر واللّهو. “ويل لمن ينهضون في الصّباح مبكِّرين يسعون وراء المسكر حتّى ساعة متأخّرة من اللّيل إلى أن تُلهبهم الخمر. يتلهّون في مآدبهم بالعود والرّباب والدَّف والنّاي والخمر غير مكترثين بأعمال الرَّبّ ولا ناظرين إلى صنع يديه” (5: 11 – 12). لهذا كما تلتهم النَّار القشّ يُصيب أصولَهم العفَن ويتناثر زهرهم كالتّراب لأنّهم استهانوا بكلمة قدّوس إسرائيل. هذا هو السّبب، في الحقيقة، وراء تسليط القدّوس للأمم على شعبه (5: 24 – 30).
أوان التّعزيات: عبد يهوه
على أنّ الويلات في نبوءة أشعياء تكتمل بالتّعزيات الّتي يدخّرها الرَّبّ لشعبه، لا سيّما بين الإصحاحَين الأربعين والسّادس والسّتين. كلا الأمرين يرميان، في القصد الإلهيّ، إلى الخلاص. هنا كان كلام أشعياء على “عبد يهوه” (الإصحاح 53) كشفًا لأعمق ما في قلب الله حيال شعبه من حبّ كبير. كلّ تاريخ الخلاص ينصبّ على “عبد يهوه” المُحقَّق في شخص الرَّبّ يسوع. يومَ كلّمنا الرَّبّ بابنه كان ذلك إيذانًا بأنّ تاريخ الخلاص قد آلَ إلى أواخر الدُّهور. نبوءة أشعياء، وبخاصّة الإصحاح 53 منها، استشراف للآتي على أعمق وأدقّ وأوضح ما تكون المُعاينة. فلا غرو إن اعتبرت الكنيسة المقدّسة هذا الإصحاح الجليل بمثابة إنجيل خامس قبل متّى ومرقص ولوقا ويوحنّا.
في الرّسالة إلى فيليبي عن الرَّبّ يسوع أنّه “إذ كان في صورة الله لم يحسِب خلسة أن يكون مُعادلًا لله. لكنّه أخلى نفسه آخذًا صورة عبد صائرًا في شبه النّاس. وإذ وُجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتّى الموت موت الصّليب. لذلك رفعه الله أيضًا وأعطاه اسمًا فوق كلّ اسم” (2: 7 – 9). إذا كان المسيح المنتظر قد استبان في شخص الرَّبّ يسوع على هذا النّحو فإنّ ملامحه سبق لها أن ارتسمت في نبوءة أشعياء، وبدقّة متناهية، قبل ذلك بقرون. “لا صورة له ولا جمال يسترعيان نظرنا ولا منظر فنشتهيه. محتقر منبوذ من النّاس، رجل آلام ومختبِر الحزن، مخذول كمن حجب النّاس عنه وجوههم فلم نأبه له” (إش 57: 2 – 3). أخذ صورة عبد بكلّ ما في الكلمة من معنى، مُطيعًا مبذولًا حتّى الموت. لكنّه – وهذه فرادته وهذا سرّه المفتَّق بالرَّبّ يسوع – أخذ أسقامنا وحمل أمراضنا (متّى 8: 17). جراحه كانت ذات علاقة بآثامنا ومعاصينا. “كان مجروحًا من أجل آثامنا، مسحوقًا من أجل معاصينا” (إش 53: 5). وما تحمّله هو ما أدّى إلى شفائنا. “بجراحه برئنا”، أو بكلام الرّسول بولس في الرّسالة إلى رومية “أُسلم من أجل خطايانا وأُقيم لأجل تبريرنا” (4: 25). لم يُضرب من أجل إثم نفسه بل “من أجل إثم شعبي” (إش 53: 8). ظُلم وأُذِلّ لكنّه لم يفتح فاه (الآية 7 من أشعياء). “كنعجة صامتة أمام جازّيها لم يفتح فاه… استؤصل استئصالًا من أرض الأحياء… وجعلوا قبره مع الأشرار”. كان بريئًا بالكامل لا لطخة عليه. لم يرتكب جورًا ولا كان في فمه غشّ. البريء برّر الأشرار. “عبدي البارّ يبرِّر بمعرفته كثيرين ويحمل آثامهم (أش، الآية 12). والله الآب، إذ فعل ذلك بعبده، بابنه الوحيد، إذ سُرَّ، بتعبير أشعياء، “أن يسحقه بالحزن” (53: 10)، أقول فعله لأنّه هكذا أحبّ الله العالم “حتّى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كلّ مَن يؤمن به بل تكون له الحياة الأبديّة” (يو 3: 16). هذه المحبّة الإلهيّة الكاسحة عبّر عنها أشعياء بكلامه على سحق الله عبده بالحزن.
وبالنّتيجة “تُفلح مسرّة الرَّبّ على يده” (أش، الآية 10). “هذا هو ابني الحبيب الّذي به سُررت. له اسمعوا” (متّى 17: 5). “هو حمل خطيئة كثيرين وشفع في المذنبين” (أش، الآية 12). صار لنا، في شخص الرَّبّ يسوع، كفّارة وشفيعًا، فإنّ لنا شفيعًا “عند الآب يسوع المسيح البارّ. وهو كفّارة لخطايانا، وليس لخطايانا فقط بل لخطايا كلّ العالم أيضًا” (1 يو 2: 1 – 2).
سفر أشعياء، لمّا أتى به في شأن عبد يهوه والعذراء الّتي تحبل وتلد ابنًا يُدعى اسمه عمّانوئيل (الإصحاح 7) وما سوى ذلك من نبوءات، أقول سفرُ أشعياء، لهذا السّبب بالذّات، هو الأدقّ والأبرز والأهم بين أسفار أنبياء العهد القديم قاطبة.
موت أشعياء
أخيرًا يُشار عبر سفر “صعود أشعياء”، وهو سفر منحول، إلى أن أشعياء استُشهد إثر اضطهاد منسىّ الملك له. وقد ورد بشأنه عند أوريجنيس المُعلّم أن القول الوارد في عب 11: 37 عن الّذين نُشروا من الآباء القُدماء الّذين لم ينالوا الموعد، إنّما يشير، بخاصّة، إلى أشعياء النّبيّ الّذي مات منشورًا في زمن منسّى. وأمّا سفر رؤيا أشعياء، وهو سفر آخر منحول، فيدّعي أنّ أشعياء صعد إلى السّماء وتقبّل إعلانات هناك، وأنّه عاد من بعدها وأخبر حزقيا الملك بما عاين.