في هذا اليوم تُقيم الكنيسة المُقدَّسَة تَذكار:
*الشّهيد لوبوس *القدّيس الشّهيد في الكهنة إيريناوس أسقف ليون الفرنسيّة *القدّيس الشّهيد في الكهنة إيريناوس سيرميوم ورفيقاه أور وأوروبسيس* شهداء تراقية الثّمانية والثّلاثون *أبونا الجليل في القدّيسين كلّينيكوس القسطنطينيّ *القدّيس البارّ نيقولاوس الصّقليّ *القدّيسان الشّهيدان الجديدان أفرام كوزنتسوف ويوحنّا فوستورغوف الرُّوسيّان *القدّيسان الرُّوسيّان الجديدان في الشّهداء بولس غايدا الكاهن ونيقولاوس فارجنسكي.
* * *
✤ القدّيس الشّهيد في الكهنة إيريناوس أسقف ليون الفرنسيّة ✤
وُلد القدّيس إيريناوس، الذي يشير اسمه إلى “السلام”، حوالي السنة 140 م في آسيا الصغرى. اتّبع، في شبابه الأول، في إزمير، تعليم الأسقف الشيخ القدّيس بوليكاربوس (23 شباط) الذي نقل التراث المقتبل من القدّيس الرسول يوحنّا الحبيب. هكذا تعلّم حفظ الأمانة للتراث الرسولي في الكنيسة. من هنا قوله: “لقد جعل الله في الكنيسة الرسل والأنبياء والآباء المعلّمين وما سوى ذلك مما يمتّ بصلة إلى الروح القدس. من هذا الروح يُقطَع كلُّ الذين رفضوا اللجوء إلى الكنيسة فحرموا أنفسهم الحياة بعقائدهم الفاسدة وأعمالهم المختلّة. فإنّه حيث الكنيسة هناك، أيضاً، يكون روح الله، وحيث يكون روح الله هناك تكون الكنيسة وكل النعمة. والروح هو الحقيقة”.
بعد أن أقام في رومية كهن في كنيسة ليون في بلاد الغال (فرنسا)، زمن اضطهاد الأمبراطور ماركوس أوريليوس، في حدود العام 177 م. وبصفته كاهن تلك الكنيسة، نقل إلى البابا ألفتاريوس، في رومية، الرسالة العجيبة التي وجّهها الشهداء القدّيسون في ليون إلى المسيحيّين في آسيا وفيرجيا يصفون فيها جهاداتهم المجيدة لدحض شيعة مونتانوس الهرطوقية. والحقّ أنّ الشهداء يقوون على ضعف الجسد ويحتقرون الموت بقوّة الروح القدس. فإنّ بذل النفس هو الشهادة السامية للحقّ وعلامة غلبة الروح القدس على الجسد وعربون رجائنا بالقيامة. إثر عودته إلى ليون خلف القدّيس بوتينوس الأسقف الذي اقتبل الشهادة (2 حزيران)، رأساً لكنائس ليون وفيينا. كأسقف، استلم إيريناوس من التقليد الرسولي “موهبة الحقّ الأكيدة” ليذيع ويفسّر الإنجيل. كرّس حياته، مذ ذاك، للشهادة للحقّ، على غرار الشهداء، لذا علّم: “علينا أن نحبّ بأقصى غيرة ما هو من الكنيسة والإمساك، بقوّة، بتقليد الحقّ”. عمل بهمّة لا تعرف الكلل في هداية الشعوب البربرية إلى الإيمان. رعايته شملت كل الكنيسة. على هذا كتب إلى أسقف رومية، فيكتور (189 – 198)، باسم أساقفة بلاد الغال، وقد كان متقدّماً بينهم، ليقنعه بعدم قطع الشركة مع كنائس آسيا الصغرى التي كانت تحتفل بعيد الفصح في اليوم الرابع عشر من شهر نيسان. فلأنّ هذه العادة القديمة انتقلت من الذين تقدّمونا فحفظوها وحفظوا السلام حيال الآخرين فإنّه لا شيء يُلزم بفرض الوحدة في الممارسة، كما قال، لأنّ “الخلاف في الصوم يؤكّد الاتفاق في الإيمان”.
تعود شهرة القدّيس إيريناوس إلى مؤلَّفه “ضدّ الهرطقات” الذي يتناول فيه الغنوصيّين ذوي الاسم الكاذب. هؤلاء هم الذي يستمددون معرفتهم المزعومة من التركيبات الذهنية المنحرفة والأساطير. الغنوصة Gnose معناها المعرفة. القدّيس إيريناوس، بعد أن شاء أن ينقض طروحات الغنوصيّين مبيِّناً هذيانيتها، يؤكّد أن الغنوصة الأصيلة هي العطية الفائقة للمحبّة التي يُسبغها الروح القدس على المسيحيّين في البنية الحيّة للكنيسة. فقط في الكنيسة بإمكاننا أن نرتشف الماء الزلال الذي يجري من الجنب المطعون للمسيح ليعطي حياة أبدية. كل التعاليم الأخرى إن هي سوى آبار مشقّقة لا تضبط ماء. سعي قدّيس الله إلى دحض الهرطقات كان مناسبة لبسط إيمان الكنيسة القويم. ابتعد إيريناوس، عن اتجاه الفلسفة الهيلينية والثنائية التي تقيمها بين الجسد والنفس ليؤكّد تعليم القدّيس يوحنّا الحبيب أنّ “الكلمة صار جسداً”. هذا لإبراز معنى ما كان الإنسان من أجله. فإنّ آدم الأول أُبدع من الطين بيدي الله، الكلمة والروح، كصورة لله طبقاً لنموذج جسد المسيح الممجَّد، وأنّ نسمة حياة أُعطيت له لكي يتقدّم من كونه على صورة الله إلى صيرورته على مثال الله. ولكن إذ خدعه الشيطان العزول سقط في الموت لكن الله لم يتخلّ عنه إذ رمى، منذ الأزل، إلى إشراكه في المجد. إعلانات ونبوءات العهد القديم، وخصوصاً تجسّد الكلمة وموته وقيامته وصعوده المجيد، يشكّل المراحل الضرورية لتدبير الله الخلاصي في التاريخ. لأنّ الكلمة كان له، نصب عينيه، أبداً، هذا المُرامُ الأخير الذي من أجله خُلق الإنسان، تجسّد مستعيداً في ذاته آدم الأول. وكما أنّ آدم الأول وُلد من أرض عذراء، ولكنْ بعصيان حواء العذراء سقط في الخطيئة بالخشبة (خشبة شجرة معرفة الخير والشر)، أتى المسيح إلى العالم بطاعة العذراء مريم وعُلِّق على خشبة الصليب. “أعطى نفسه مقابل نفسنا وجسده مقابل جسدنا ومدّ روح الآب ليحقّق الوحدة والشركة بين الله والناس، مُنْزِلاً الله في الناس بالروح القدس ومُصْعِداً الإنسان إلى الله بتجسّده”. إنّ كلمة الله الذي خلق العالم مرتِّباً إيّاه، بصورة غير منظورة، في شكل صليب، أظهر ذاته، في الوقت المحدّد، على الصليب لكي يجمع في جسده كل الكائنات المبعثرة ويأتي بها إلى معرفة الله. وإذ ظهر، لا في مجده السني، بل كإنسان، أبرز في ذاته صورة الله مستعادةً ومتشوِّفة، من جديد، إلى المثال. وقد غذّانا من جسده لكيما متى اعتدنا أن نأكل ونشرب كلمة الله وتشدّدنا بخبز الخلود قاربنا معاينة الله التي تُسبغُ عدم الفساد. “مستحيل أن نحيا من دون الحياة، وليست هناك حياة من غير اشتراك في الله. هذا الاشتراك في الله قائم في معاينة الله واقتناء وداعته… فإنّ مجد الله هو الإنسان الحيّ وحياة الإنسان هي معاينة الله…”.
بالنسبة للقدّيس إيريناوس، وهو تلميذ مَن عرفوا الرسل، المعرفة هي محبّة وهي تاليه للإنسان في شخص المسيح المخلّص. تعليمه كان أكثر من دحضٍ للعرفانية الباطلة للغنوصيّين إذ شكّل البذارَ الذي توسّع فيه الآباء اللاحقون في كتاباتهم الملهَمَة من الله.
بعد تدخّل إيريناوس السلامي لدى فيكتور، أسقف رومية، واصل أعماله لتثبيت الكنيسة. وقد ورد أنّه قضى شهيداً خلال حملة اضطهاد الأمبراطور سبتيموس ساويروس للمسيحيّين، حوالي السنة 202 م. لكنْ لم يحفظ التاريخ لنا أي تفصيل في هذا الشأن. أُودع جسده مدفن كنيسة القدّيس يوحنّا التي صارت، فيما بعد، على اسمه. كذلك ورد أن البروتستانت، سنة 1562 م، بعثروا رفاته ورفات القدّيسَين الشهيدين أبيبودوس وألكسندروس هناك.