في هذا اليوم تُقيم الكنيسة المُقدَّسَة تَذكار:
الشّهيدان الصّانِعا العَجائِب والماقِتا الفِضَّة قُزما ودميان وأمّهما *القدّيسة البارّة ثيودوتي *الشّهيدتان كيرينيا وإليانا الكيليكيّتان *الشّهداء الدّمشقيّون قيصر وداكيوس وسابينيانوس وأغريبا وسابا وأدريانوس وتوما اليافع *الشّهيدان الفارسيّان يوحنّا الأسقف ويعقوب الكاهن المكنّى بالغيور *الشّهيد يَعقوب القدّيس البارّ وتلميذاه يعقوب الشّمّاس وديونيسيوس *القدّيس البارّ داود الإيبي *القدّيس الأسقف أوستريموان كليرمون *الجديدة في الشّهيدات هيلانة سينوبي *الشّهيد بنيغنوس *الشّهداء الرّوس الجدد ثيودور ريميزوف وآخرون.
* * *
✤ القدّيس البارّ في الشّهداء يعقوب وتلميذاه يعقوب الشّمّاس وديونيسيوس الرّاهب ✤
وُلد يعقوب في كنف عائلة فقيرة في ناحية كستوريا نشأت على التّقوى. تيتّم في سنّ مبكّرة واضطر إلى العمل كأجير في رعاية الأغنام ليردّ عن نفسه شبح الموت جوعاً. بارك الله سعيه فأصاب في وقت قصير نجاحاً كبيراً حتى أصبح من أصحاب الثروات. لما رأى أخوه ما صار إليه يعقوب من سعة تحرّك الحسد في نفسه فقام وسعى بأخيه لدى الأتراك متّهماً إياه بأنّه وقع على كنز في الأرض، فاضطر يعقوب إلى التواري والتجأ إلى مدينة القسطنطينية حيث عاش فقيراً لبعض الوقت.
ضميره والباشا
ويشاء التّدبير الإلهيّ أن يدعوه أحد البكوات الأتراك مرّة إلى مائدته وكان الوقت صياماً. فلما أخذ المضيف في تناول الطعام وكان أكثره من اللحم لاحظ يعقوبَ مجتنِباً الزفر فبادره بالقول: “لا شكّ أنّ إيمانكم المسيحي يا يعقوب عظيم جداً!” فأصغى يعقوب بإمعان. فأردف التركي يقول: إنّ امرأته كان بها مسّ فعرضها على أطباء كثيرين، ولكن دون جدوى. فأخذها إلى البطريرك نيفون فصلّى عليها، وإذا بنور سماوي يملأ الكنيسة ويشفيها. وخلص المضيف إلى أنّه لو لم يكن يخشى عاقبة الردّة لصار مسيحياً. فلما سمع يعقوب ذلك تحرّك قلبه وبانت لعينيه عظمة الإيمان بالمسيح فقرّر الانصراف إلى الحياة الملائكية فقام وأنفق ما لديه على الفقراء، ثمّ سافر إلى جبل آثوس، إلى دير إيفيرون، وصار راهباً.
يعقوب راهبًا
قضى يعقوب في الدير ثلاث سنوات تنسّك بعدها في موضع خَرِب على اسم القدّيس يوحنّا السابق. صارع الشياطين ست سنوات متتالية وتمكّن منها بنعمة الله. خبر خلال هذه الفترة من حياته، وبدقّة، مؤشّرات الحضرة الإلهّية من جهة، والعلامات الدالة على خداع الشياطين من جهة أخرى.
ثمّ أنّ الله عزّى قلبه بشاب مجدّ، طالب رهبنة، جاء يشاركه الحياة النسكية تلميذاً. وكان القدّيس لا يتناول إلاّ كسرة من الخبز كل يوم وغالباً ما كانت نفسه ترقى إلى المناظر السماوية فيشبع من التأمّل فيها ناسياً حاجة الجسد. أما لياليه فاعتاد قضاءها في الصلاة قوّاماً.
أنعام الربّ عليه
سأله تلميذه، من باب الفضول المبارَك، مرّة، ما هي أنعام الربّ عليه فأجاب قائلاً إنّه بعدما قضى سنين في الجهاد الروحي بدأ يشعر في قلبه بتعزية ضئيلة أخذت تنمو وتتعاظم. وإن هو إلاّ زمن يسير حتى استحالت هذه التعزية حرارة حارقة حملت معها الفرح ومحبّة الله والقريب في آن. وهكذا، شيئاً فشيئاً، استحالت الحرارة نوراً داخلياً لطيفاً يفوق الوصف. هذا النور، الذي هو النعمة الإلهية، أخذ، بدوره، يعظم في نفسه ناقلاً إياه إلى ما يسمو على الخليقة المنظورة، فوق السماء والشمس. وقد تسنّى له أن يتخطى العالم الذي يتبع ليله نهاره، واجتاز إلى الجنّة التي زرعها الله لآدم الأول في عدن، ثمّ أُخذ إلى الموضع المهجور الذي هوى منه الملائكة الساقطون. وكان هذا في النور الذي استمر متعاظماً من البهاء بحيث فاق بهاء الملائكة. وقد بدا له أنّ ذهنه قد تزوّد بعيون كثيرة نظير الشاروبيم وأنّ روحه قد أضحت عن حقّ عرشاً لله. أخيراً، وفي نور أشدّ لمعاناً من ذي قبل، رأى المسيح نفسه تحيط به الظلمة النورانية للاهوت. مذ ذاك استقرّ السيّد في قلبه استقراراً نهائياً وأضحى هو، عن حقّ، ابناً لله بالنعمة فصار بإمكانه أن يقود إلى الله رهباناً كثيرين كانوا يأتونه سائلين النصح أو برَكَة حضوره. لم يعد هناك ما يخفى عن عين روحه الوضّاءة بالنور الإلهي. وبات عارفاً بمكنونات القلوب.
يعقوب معرِّفاً
حاز يعقوب بناء لطلب رهبان الجبل المقدّس على إذن خاص من أسقف ياريسوس المجاورة، منحه بموجبه حقَّ قبول الاعترافات مع أنّه لم يكن كاهناً. ورغم أنّ القدّيس كان أمّياً فإنّ قدرته على الإفراز، حتى في القضايا البالغة التعقيد، كانت مميّزة. فلقد كان في وسعه أن يلاحق الخطيئة حتى إلى أعماق النفس. كان ممتلئاً حبّاً لكنّه كان صارماً متطلباً لا سيما مع الكهنة. وكان يحدث أن يمنع البعض منهم من إقامة سرّ الشكر. وقد أثار ذلك حفيظة مكاريوس، متروبوليت تسالونيكي، فجاءه فاحصاً. وإذ استبانت لناظريه نعمة التمييز لديه أقرّ به رجلاً لله وسجد أمامه وعاد إلى مقرّه مرتاح البال. أما القدّيس يعقوب فكان ينتقل من دير إلى دير ينشر تعليمه النوراني ويصلح النسّاك المستكبرين مشجعاً المتهاونين ومساعداً الخجلين من كشف خطاياهم بكشفها لهم وتحريرهم من وطأتها عليهم.
منظر الملائكة
وفيما حضر مرّة هو وتلميذه قدّاساً إلهياً في كارياس، عاصمة الجبل المقدّس، خطفه روح الربّ فرأى منظر ملائكة قائمين حول القدسات، والنور الإلهي المستقر عليها يمتد إلى سائر الشعب بعدما دخل بها الكاهن ووضعها على المائدة وسترها. وكان هذا النور يحيط بالمائدة على نحو مهيب والملائكة واقفين خارج حدود النور في خوف ورعدة. وما أن تمّت الاستحالة حتى رأى السيّد نفسه في هيئة صبيّ فوق الصينية المقدّسة في نور لا يدنى منه. وقد أسرّ القدّيس يعقوب إلى تلميذه فيما بعد أنّه عاين الكاهن منتصباً في هذا النور أسود الهيئة بسبب خطاياه التي لم يعترف بها. وإن لم تغادر النعمة القرابين فبفضل إيمان الشعب الحاضر آنذاك.
حسد الشّيطان
كلّ هذه المواهب غير العادية التي منّ بها الربّ الإله على عبده يعقوب تسبّب في حسد الشيطان له فاضطر للخروج إلى البرّية في الجبل المقدّس، برفقة ستة من تلاميذه. وهناك في البرّية الداخلية نَعِم بأطايب الوحدة والسكون لبعض الوقت. جاءه ملاك الربّ يوماً وقدّم إليه ثلاث خبزات سوداء ليأكلها فعرف بالروح أنّ الربّ يدعوه إلى الاستشهاد.
ثمّ إنّ يعقوب ترك الجبل إلى البتراء، بالقرب من جبل الأوليمبوس، ثمّ إلى ناحية الميتيورة الغنيّة بالأديرة. ذاع صيت عجائبه ومواهبه فأوغر بعض الحسّاد صدر أكاكيوس الأسقف عليه فوشى به لدى الحاكم التركي في مدينة تريكالا فأوفد هذا كوكبة من جنوده وقبض عليه مع اثنين من تلاميذه، يعقوب الشمّاس وديونيسيوس المتوحّد.
استجوب الحاكم القدّيس يعقوب فلم يجد عليه ذنباً. مع ذلك ألقاه في السجن آملاً أن يقدّم له المسيحيّون مالاً لقاء إفراجه عن الموقوفين. لكن الأمور ما لبثت أن تعقّدت فتعرّض يعقوب وتلميذاه للتعذيب ثمّ سيق الثلاثة إلى المشنقة ونُفِّذ فيهم حكم الإعدام بعد ذلك بقليل.
وجاء رجال أتقياء واشترَوا رفات القدّيسين الثلاثة وأخذوها إلى قريتهم. وكان نور يفيض من ضريح كل منهم كل يوم من أيام الآحاد والأعياد.
وبقيت الأمور على هذه الحال إلى أن جرى نقل الرفات المقدّسة إلى دير القدّيسة أنستاسيا القريب من تسالونيكي حيث ما تزال، إلى اليوم، مصدر تعزية وبرَكَة للشعب المؤمن.