في هذا اليوم تُقيم الكنيسة المُقدَّسَة تَذكار:
*القدّيسة البارّة نسطاس (أنسطاسية) الرّوميّة *أبونا القدّيس البارّ أبراميوس وابنة أخيه مريم الرّهاويّان *الشّهيد في الكهنة زينوبيوس الصّيدونيّ *الشّهداء كيرلّلس وميناس وميناوس *الشّهيد سابا، قائد الجيش *أمّنا القدّيسة البارّة حنّة *الشّهيدة مَلطية *الشّهيد الجديد في الكهنة أثناسيوس الإسبارطيّ *الشّهيد الجديد تيموثاوس الآثوسيّ *القدّيس البارّ أبراميوس روستوف *القدّيس البارّ نسطر الأمّي من لافرا كهوف كييف *الشّهداء الرّوس الجدد نيقولاوس بروباتوف ومَن معه *القدّيس الشّهيد يوحنّا رودينسكي *القدّيس الشّهيد أفجانيوس إيفاشكو.
* * *
✤ تذكار أبينا البار أبراميوس وابنة أخيه البارّة مريم الرّهاويَّين ✤
قولة القدّيس أفرام فيه
كتب لنا سيرة القدّيس أبراميوس صديقه الحميم القدّيس أفرام الذي يغلب الظنّ أنّه هو إيّاه أفرام السرياني المعروف (306 – 373 م).
يقول القدّيس أفرام عن رفيقه في مقدمة الترجمة أنّه “رجل عجيب ذو سيرة بديعة كاملة“. كيف لا وقد أبدى تلك الأمانة غير المنقوصة حيال ربّه، وحتى الموت! لذلك يدعوه إبراهيم الثاني بعد إبراهيم الخليل، أبي المؤمنين، ويعتبر نفسه بإزائه “إنساناً غليظاً جاهلاً“. كما يقرب سيرته بخوف ورعدة خشية أن تخفق كلماتُه في رسم صورة أمينة له، فيتحدّث بإسهاب عن صبره العجيب على كافة ألوان الشدائد والضيقات والتجارب، معتبراً إيّاه “ماسة لم تثلمها الآلام“.
نشأته
ولد القدّيس أبراميوس في بيت من ذوي اليسر بالقرب من مدينة الرها، فيما بين النهرين. كان والداه تقيّين نبيلَين فأنشآه على التقوى وكرامة الخلق، كما أفسحا له في المجال لتلقي العلوم فحصّل منها قسطاً وافراً. وإذ رغبا في تقديم ولدهما في مراقي العظمة بين الناس، خطبا له، وهو بعد صغير، فتاة ظنّا أنّها سوف تكون له خير معين في هذا الاتجاه.
كبر أبراميوس وكبر فيه حبّه للتوحّد وحياة التأمّل، وكان والداه يخشيان عليه أن تجنح به هدأته وتأملاته نحو النسك، فرغبا إليه بالزواج، فامتنع، فأصرّا، فأذعن.
وجرى الاحتفال بالعرس، سبعة أيام كاملة، كان أبراميوس خلالها في غير مكان وكأن الأمر لا يعنيه. فلما حضر اليوم السابع، اخترق قلبَه شعاعٌ من النعمة الإلهية، فقام لتوّه، وهو لا يعرف بعد زوجته، وخرج سرّاً من البيت وتوارى. لم يأخذ معه شيئاً سوى زهده، طالباً وجه ربّه. كان يومذاك قد بلغ العشرين.
على بركة الله
وقادته النعمة إلى قلاّية معزولة لا تبعد كثيراً عن المدينة. هناك أقام في الصلاة سبعة عشر يوماً لم يذق خلالها أي طعام ولا بلّ ريقه بنقطة ماء. أول خروجه كان كمَن يريد أن يلتهم الحياة الإلهية التهاماً.
في هذه الأثناء، كان والداه يبحثان عنه في كل مكان. لم يدعا موضعاً إلّا بحثا فيه عنه، إلى أن بلغاه مغلِقاً على نفسه في تلك القلاّية. فلما رأياه اندهشا من حاله، وأدركا بالنعمة أنّ ولدهما قد اختار النصيب الصالح الذي لن ينتزع منه. وبدل أن يصرّا عليه بالعودة معهما، أسلما أمرهما لله وتركاه لسعيه ومضيا. فسدّ أبراميوس الباب على نفسه ولم يترك إلاّ نافذة صغيرة تصله بالعالم كان القوم يأتونه ببعض الطعام من خلالها، بين وقت وآخر.
نسكه
هكذا باشر القدّيس أبراميوس حياته النسكية بهمّة لا تعرف الكلل، فكان يجدّ كمَن لا بدن له، مستغرقاً في الدموع والأصوام والأسهار والصلوات. لم تكن عزيمته لتهن يوماً واحداً، ولم يدع يوماً واحداً يمرّ دون أن يسكب فيه الدموع مدراراً. تعزيات البدن كانت غريبة عنه. وكان فكر الموت رفيقه الدائم. توبته كانت بلا قرار، لذلك كل ما كان يأتيه من جهاد، كان، على مرارته، حلواً وعذباً لأنّ شوقه إلى النور الإلهي كان فائقاً. وكما قال الرسول بولس: “… من أجل فضل معرفة المسيح…“.
ورغم ما كان عليه أبراميوس من شدّة في النسك فإنّه كان عذب المحيا سليم البدن، قوياً، طيّب المزاج.
محبّته للناس
ولم يطل به المقام حتى ذاع صيته في تلك الأنحاء، فبدأ الناس يتوافدون عليه. كل يخبّر عنه، فيتقاطرون ليتأكّدوا مما سمعوه طالبين منه النصح، سائلينه البرَكَة والدعاء. وكان القدّيس أبراميوس يبدي حيالهم محبّة وتواضعاً وحناناً عظيماً. يقول عنه القدّيس أفرام، بهذا المعنى: “كان تواضعه على أعمق ما يكون التواضع وكانت محبّته للناس متساوية، لم يعرف محاباة الوجوه أبداً. كان يقابل الجميع، أغنياء وفقراء، صغاراً وكباراً، بنفس الحرارة والحنان المسيحيَّين. لم يكن للمرارة مكان في قلبه ولا عرف لسانه الكلام القاسي. كل أقواله كانت مملّحة بالمحبّة واللطف. لم يكن أحد يملّ سماعه، بل كانت الأذن تطلب المزيد من أقواله. والقداسة الطافحة من وجهه كانت تشدّ الناس إلى التطلّع إليه فلا يشبعون“.
مرحلة جديدة من حياته
وتوفي والدا أبراميوس بعد عشر سنوات من دخوله الحياة الملائكية. ولما كانا قد خلّفا له ثروة طائلة فإنّه بعث إلى صديق له صدوق طلب منه تدبير شؤون تلك الثروة بحيث تعود إلى الفقراء والأيتام وقفاً حتى نفاذها.
في ذلك الوقت أيضاً، أو ربما بعد ذلك بقليل، واجهت أسقف المنطقة التي كان أبراميوس ناسكاً فيها مشكلة كأداء. فإنّ بلدة كان سكانها مستغرقين في وثنياتهم لم تقبل كلمة الإنجيل رغم كثرة الكهنة والشمامسة، وحتى المتوحّدين الذين بعث بهم إليها لهدايتها. وإنّ العليّ ألهم الأسقف أن يرسل إليهم أبراميوس. فجاءه، إلى منسكه، وأبدى ما لديه. وبالتوسل والتهديد أذعن أبراميوس لأمر الله. فجعله الأسقف كاهناً وأوفده إلى تلك البلدة الوثنية المتحجرة.
هكذا بدأت المرحلة الثانية من سيرة أبراميوس الممدوحة، رسولاً لا يعبأ بالأخطار والجراح والضرب، صابراً على قساة الرقاب حتى نفاذ الكلمة الإلهية إلى قلوبهم.
أبراميوس رسولاً
أول ما صنعه أبراميوس أنّه بنى كنيسة جميلة ببعض الأموال المتبقية من تركة والديه. لم يتعرّض له الوثنيون بأذى، ربما لأنّ الله منعهم من ذلك وربما لأنّهم خشوا السلطات الرسمية التي أخذت تنظر إلى المسيحيّين بعين الرضى بعد مرسوم ميلانو (313 للميلاد).
كان القدّيس أبراميوس يئن ويتنهّد في روحه، كل يوم، للظلمة التي كان هذا الشعب قابعاً فيها. وكان يصلّي ويقول: “أيّها السيّد! ردّ هذا الشعب الضال إليك، اجمعه في هذا البيت المقدّس. افتح أعين قلبه، أضئه بنور نعمتك لكي يعاين بطلان أصنامه ويعرفك أنت الإله الحقيقي وحدك“.
وبقي كذلك إلى أن جاء يوم احتدّت فيه روحه وقال له روح الربّ أن يقلب هياكل الأوثان كلّها ويحطّم الأصنام، فقام عليها ودكّها كلّها إلى آخرها. فكان لذلك وقع الصاعقة في نفوس الناس فانقضّوا عليه وأشبعوه ضرباً ولكماً وأخرجوه خارج البلدة وألقوه هناك. لكنّه عاد في منتصف الليل ودخل الكنيسة وأقام فيها مصلّياً باكياً مسترحماً الله على قساوة قلب هذا الشعب.
وحلّ الصباح واكتشف الوثنيّون أنّه في الكنيسة يصلّي. فجاؤوه مندهشين. وما أن فتح فاه ليكلّمهم حتى هجموا عليه من جديد وضربوه وجرّوه من قدميه بحبل وأخرجوه من البلدة، ثمّ انهالوا عليه بالحجارة فأغمي عليه فظنّوه قد مات فألقوه بين الأقذار وعادوا.
وفي منتصف الليل عادت روحه إليه فأخذ يصرخ ربّه ويقول: “لماذا، ربّي، تصرف وجهك عن ضعتي؟ لما تحوّل عينيك عنّي؟ لما تتغاضى عن رغبة قلبي؟ لماذا تحتقر جبلّة يديك؟ أتوسّل إليك يا إله الصلاح الذي لا حدّ له، ألق بناظر رأفاتك على هذا الشعب المسكين. أنعم عليه بأن يعرفك وأنّك أنت الإله الوحيد ولا إله سواك“.
وردّ الربّ قوى أبراميوس إليه فقام ودخل المدينة تحت جنح الظلام وأخذ يسبّح الله في الكنيسة إلى صباح اليوم التالي.
وعاد الوثنيّون إلى الكنيسة فألفَوه هناك كأنّهم لم يُخرجوه في اليوم السابق، فثارت ثائرتهم عليه من جديد.
وهكذا بقي القدّيس أبراميوس مدة ثلاث سنوات يحتمل الاضطهاد والضرب والتعيير وكل إساءة يمكن تصوّرها. كان الشيطان قوياً في هؤلاء القوم، قوياً بشراسته ودناءته وقذارته، لكن الربّ الإله كان في أبراميوس أقوى، تواضعاً وصبراً ومحبّة ودموعاً إلى المنتهى. كالماس كان لا يتزعزع. لا غضب عليهم ولا قسا. محبّته كانت في ازدياد وشراستهم وقساوة قلوبهم في تضاؤل. وبدأوا قليلاً قليلاً يسمعونه. كان يخاطبهم بروح القوّة حيناً وبالوداعة أحياناً. الشيوخ بينهم كان يعاملهم كآبائه والشباب كإخوته والصغار كأولاده. هذا رغم ما كانوا يقابلونه به من إزدراء وإحتقار.
وجاء اليوم الذي كان لا بدّ فيه للصلوات والدموع أن تستجاب. فلقد نفذت النعمة الإلهية إلى قلوب سكان البلدة فاعترفوا بإله أبراميوس إلهاً لهم حقيقياً وحيداً. فعمّدهم وعلّمهم الإنجيل سنة كاملة. ثمّ في ليلة لا يدرونها تركهم لاهتمام الأسقف وعاد إلى نسكه، فبكوه بكاء مرّاً.
حرب الشيطان أيضاً وأيضاً
وحارب الشيطان أبراميوس بعدما عاد إلى طريقة حياته. حاربه بكل الأسلحة الموفورة لديه. هاجمه بأفكار الكبرياء والمجد الباطل. حاول أن يوهمه أنّه قد بلغ من القداسة شأواً عظيماً فتكسرت نصاله على صخرة تواضع القدّيس وصبره. ظهر له بصور وأشكال مرعبة، بأصوات وصراخ فلم يؤثّر في القدّيس قيد أنملة. كل تدابير الشيطان كانت تزيد من حبّه لإلهه وفرحه في الإمّحاء أمام عظمته واقتبال مشيئته.
محنة قاسية: ابنة أخيه
وكانت التجربة الأخيرة في حياته ما حلّ بابنة أخيه وحزنه الشديد عليها. فإنّ أخاً للقدّيس أبراميوس توفي وترك ابنة اسمها مريم في ربيعها السابع. هذه حملها بعض أقارب القدّيس إليه فأخذها وربّاها على حياة الفضيلة فنمت في النعمة والقامة إلى أن بلغت العشرين وكانت على جانب كبير من الجمال.
وإن راهباً مزيّفاً كان يتردّد على القدّيس وينظر إلى مريم بطرف عينه، إلى أن بدأ يتودد إليها. وبقي هذا الراهب المزيف سنة كاملة على هذا المنوال إلى أن تمكّن من الإيقاع بها. فلما أفاقت من دوار الخطيئة انتابها حياء وخجل فظيعَين. وإذ لم تُرِد أن تجرح عمّها يئست من حالها فقامت وغادرت المكان إلى المدينة وأخذت تتعاطى الفجور سنتين كاملتَين.
وافتقد أبراميوس ابنة أخيه فلم يجدها فتعجّب. وإذ لم يَبِنْ لها أثر حزن لها أشد الحزن. فراح يصلّي من أجلها إلى أن علم في رؤيا أنّ مريم قد سقطت في الخطيئة. ولكن أين هي؟!
ومرّت الأيام ومريم غارقة في الفجور والقدّيس في صلاته إلى أن جاء مَن أخبر أبراميوس عن مكانها. كانت قد مرّت على خروجها سنتان. فقام القدّيس للحال وطلب زيّ ضابط وغطى رأسه ومعظم وجهه بقبعة واسعة من قبعات ذلك الزمان، وجمع بعض المال وركب حصاناً وجاء إلى المدينة.
هناك في المدينة، قدّم نفسه كأحد طالبي الفتاة. وبعدما أكل لحماً وشرب خمراً معها، اختلى بها. وفي خلوته كشف عن وجهه فعرفته، فطأطأت رأسها خجلاً، فأخذ هو يتوسّل إليها بدموع: “يا ابنتي مريم، ماذا حصل لك؟ أين جمال طهارتك؟ أين دموعك وأسهارك؟ كيف هبطت من علو السماء إلى هذا الجبّ السحيق؟ لِمَ لم تكشفي لي التجربة التي أثارها الشيطان عليك؟ أكان عليك بعدما سقطتِ في الخطيئة الأولى أن تسقطي في خطيئة أعظم، خطيئة اليأس؟ لقد تألّمت عليك كثيراً. ولكن يا ابنتي، لا تخشي، فليس غير الله منزّهاً عن كل عيب… لا بأس عليك يا ابنتي ماري فأنا أحمل خطيئتكِ عنكِ وأنا أجيب عنها أمام عرش الله. فقط اتبعي نصيحتي ولنعد معاً إلى بيتنا الأول… ارحمي شيخوختي ولا تأبي أن تتبعيني…“.
وسحّت دموع مريم من عينيها وسجدت لأبراميوس وأمسكت بقدميه وسبّحت الله على حنانه العظيم إلى الصباح.
وأطلّ الصباح فقام الاثنان من الصلاة والدموع وانطلقا إلى القلاّية لمتابعة ما انقطع.
وكانت توبة مريم عظيمة حتى إنّ الله منّ عليها في ثلاث سنوات بموهبة صنع العجائب علامة من عنده على رضاه عنها.
ولم يعش القدّيس أبراميوس طويلاً بعد توبة ابنة أخيه، فرقد رقود الأبرار القدّيسين وهو في السبعين وقد مضى عليه خمسون سنة في النسك والجهاد. كان ذلك عام 370 للميلاد. وقد علّق القدّيس أفرام على رقاد صديقه بالقول إنّه خرج من العالم بعدما نجا من كل الفخاخ التي نصبها له عدو البشر، وإن وجهه عند خروجه كان يطفح بِشْراً وجمالاً حتى بدا كأنّ الملائكة حضرت لتلقى روحه الطاهرة.
أما مريم فعاشت خمس سنوات بعد رقاد عمّها ثمّ انضمّت إليه مكلَّلة بالمجد الأبدي.