في هذا اليوم تُقيم الكنيسة المُقدَّسَة تَذكار:
*القدّيس البارّ بيمين *أبونا الجليل في القدّيسين ليبيريوس الـمُعتَرِف، أسقف رومية *أبونا الجليل في القدّيسين هوسيوس، أسقف قرطبة الإسبانيّ *القدّيس الخصيّ الحبشيّ *الشّهيدة أنثوسا الصُّغرى *الشّهيد فانوريوس *الشّهيد في الكهنة كوكشا الكييفيّ مع بيمين الصَّوّام *أبونا الجليل في القدّيسين كيساريوس آرل *الشُّهَداء الرُّوس الجدد استفانوس نمكوف ورفاقه *الشّهداء الرُّوس الجُدُد يوحنّا سميرنوف مع مثوديوس وديمتري.
* * *
✤ القدّيس البارّ بيمين ✤
أصل القدّيس بيمين من مصر. اسمه باليونانية معناه “راع”. في سنّ الخامسة عشرة انضمّ إلى إخوته الستّة الذين كانوا يتعاطون النسك في برّية شيهيت. أخوه الأكبر كان أيوب أو أنوب وأخوه الأصغر بائيسيوس. حين كان، بعدُ، فتيّاً ذهب فسأل شيخاً في شأن ثلاثة أفكار. لكنّه أثناء الكلام نسي أحدها. فلما عاد إلى قلاّيته وتذكّر، عاد للحال إلى الشيخ – والمسافة كانت طويلة – ليُطلعه على فكره. وإذ عَجب الشيخ لاهتمامه في أن يكون له قلب نقيّ لدى الله تنبّأ له: “يا بيمين، سوف يكون اسمك معروفاً في كل مصر وستكون، بالفعل، راعياً، كاسمك، لقطيع كبير جداً. لما أغار البربر على برّية شيهيت، سنة 407 م، نجا الإخوة السبعة من المذبحة وانطلقوا إلى نيتريا حيث أقاموا في ترنوني التي هي اللطرانة الحالية في صعيد مصر، على ضفاف النيل. هناك ذاع صيت بيمين حتى أخذ الأتقياء يغادرون الشيوخ الذين اعتادوا عليهم إليه سؤلاً لمشورته. حين كان زائر يفد على أخيه الأنبا أيوب (أنوب) سائلاً كان يحيله على بيمين لأنّه كان يعرف أنّ لأخيه موهبة التعليم. لكنْ كان بيمين يحجم عن الكلام في حضرة أخيه الأكبر، كما أبى عليه تواضعه أن يكلِّم أحداً في إثر سواه من الشيوخ رغم أنّه فاق الجميع.
لما درت بمعتزَل السبعة أمُّهم طلبت وجههم فامتنعوا بإصرار، فذهبت إلى أمام الكنيسة وانتظرت قدوم الأشياخ في الاجتماع الأسبوعي. فلما رآها أولادها ارتدّوا على أعقابهم للحال. ركضت في إثرهم فألفت الباب موصَداً فأنّت وصاحت، فقال بيمين لأمّه من الداخل: “أتؤثرين أن تبصرينا ههنا أم في الدهر الآتي؟” فأجابت: “ولكن ألست أمّكم؟ ألست أنا مَن أرضعكم؟ والآن سبت، أما أستطيع أن أراكم؟” فأردف: “إذا أمسكتِ نفسَك حتى لا ترينا ههنا فستريننا هناك إلى الأبد”. فانصرفت الأم التقيّة فرحة وهي تقول: “إذا كنت سأراكم هناك فلست أرغب في أن أراكم ههنا”.
سأل الأب يوسف أخاه الأنبا بيمين عن الطريقة الأنسب للصوم فأجابه إنّه يفضّل أن يأكل الإنسان قليلاً جداً كل يوم ولا يشبع. أجاب يوسف: لكنّك لما كنت صغيراً كنت تصوم يومين يومين في وقت من الأوقات. فأردف بيمين: صحيح، وأحياناً كنت أصوم ثلاثة أيام وأحياناً أربعة وأكثر. كل الأقدمين تقريباً مرّوا بهذه الخبرة، لكنّهم خلصوا، في النهاية، إلى أن الأوفق للإنسان أن يأكل كل يوم قدراً ضئيلاً من الطعام، وبهذا أرشدونا إلى الطريق المأمون الميسّر إلى الملكوت. بهذه الطريقة لا يسقط الإنسان في الكبرياء ولا يذلّ في الإعتداد بالذات.
فاجأه أحد الإخوة يوماً وهو يغسل قدميه فعثر فأجابه بيمين: لم نتعلّم أن نقتل الجسد بل الأهواء. وكان يقول أيضاً: كل ما يفوق الحدّ يكون من إبليس.
كان الأنبا بيمين رقيقاً جداً، كلّه محبّة، يهتمّ بأعمال الرحمة والمحبّة. وقد قدّم لتلاميذه ذات يوم هذا المَثَل. قال كان لرجل ثلاثة أصدقاء. سأله الأول أن يأتي معه إلى المَلِك فسار به إلى منتصف الطريق. وسأله الثاني الأمر عينه وذهب به حتى بلاط القصر. أما الثالث فدخل به إلى داخل البلاط وأوقفه بين يدَي المَلِك وتكلّم عنه في كل ما يريده من المَلِك. فلمّا سأله الإخوة أن يفسِّر لهم المَثَل قال: الصديق الأول هو “النسك والحرمان”. هذان يبلِّغان الإنسان منتصف الطريق لكنّهما أعجز من أن يُكمِلاها معه. والصديق الثاني هو الطهارة. أما الثالث فهو “الحبّ” أو أعمال الرحمة التي تدخل بالإنسان إلى حضرة الله وتشفع فيه بدالة قوّية. هذا المَثَل أخذه بيمين عن أحد العامة ممَن جاؤوا لزيارة الرهبان. ولما ألحّ عليه القدّيس أن يقول له كلمة تنفعه قال له هذا المَثَل.
ومما قيل عن ترفّقه بالخطأة أن رئيس أحد أديرة الفرما جاءه مرة مستعيناً. كان قد طرد بعض الرهبان لأنّهم ينزلون إلى المدن ويفقدون روح رسالتهم. لكنّه شعر بتبكيت ضمير فسأل بيمين في الأمر. قال له بيمين “أيّها الأخ، هل خلعت عنك الإنسان العتيق حتى لم يبق فيك شيء البتّة؟” قال: “لا! للأسف لا زلت أعاني الكثير من عبوديته”. فأجابه الأنبا بيمين: “إذاً لماذا تقسو هكذا على إخوتك وأنت لا زلت تحت الآلام؟ اذهب وابحث عن ضحاياك وأحضرهم إليّ”. ففعل وكانوا نادمين. فقبلهم بيمين ونصحهم وأطلقهم بسلام إلى ديرهم.
ومما يُظهر محبّته أيضاً أنّه إذ كان في إحدى قرى مصر كان بجواره راهب يسكن مع امرأة. فإذ درى القدّيس بأمره لم يوبّخه، بل لما حان وقت ولادتها أرسل مع أحد الإخوة نبيذاً، ربما كدواء، قائلاً إنّ الأخ المنكوب قد يكون في حاجة إليه في هذا اليوم. فتألّم الأخ جداً وعاد إلى نفسه، ثمّ أتى إلى الأنبا بيمين وقدّم توبة صادقة، إذ ترك المرأة وانطلق إلى البرّية وسكن في قلاّية مجاورة للقدّيس. وكان يستشيره في كل شيء إلى أن تكمّل بنعمة الله.
لم يكن الصمت عند القدّيس بيمين غاية في ذاته. قال: “الصمت من أجل الله جيّد كما الكلام من أجل الله جيّد”. من أقواله في هذا الشأن: “قد تجد إنساناً يظنّ أنّه صامت لكنّه يدين الآخرين بفكره، فمَن كانت هذه شيمته فهو دائم الكلام… وآخر يتكّلم من الصبح إلى المساء لكن كلامه فيه نفع للنفس. مثل هذا أجاد الصمت”.
حين كان زائر يرغب في الحديث إليه في الأمور السامية كان يلزم الصمت. ولكن إذا سأله في الأهواء وفي كيفية تعافي النفس كان يجيبه بفرح. إجاباته كانت موزونة على قياس سامعيه ليجعل طريق الفضيلة لديهم سالكة.
عن الأفكار قال: كما أنّ الثياب الكثيرة الموضوعة في الخزانة لمدة طويلة تتهرّأ، هكذا الأفكار إذا لم نسلك فيها تتلاشى مع الوقت.
وقد علّم أن ثلاثة تنفع في تنقية النفس، أن يلقي المرء بنفسه أمام الله ولا يقيس نفسه ويلقي عنه كل مشيئة ذاتية. كذلك قال: بلوم النفس والصحو تنبني النفس وتتقدّم إلى الكمال. حين كان يرى أخاً نائماً في الكنيسة كان يجعل رأسه على ركبتيه ليريحه. أما صحوه، من جهة نفسه، فكان صارماً فيه عالماً أن مبدأ كل الرذائل هو التشتّت. وقبل أن يخرج من قلاّيته كان يُمضي ساعة جالساً يفحص أفكاره.
قال: الإنسان بحاجة إلى التواضع حاجته إلى نَفَس منخاريه. وإنّه بلوم النفس الذي يجعلنا نقدّم أخانا على أنفسنا يكون لنا وصول إلى هذا التواضع الذي يسبغ علينا، في كل ظرف، راحة. من جهة نفسه كان يأنف من نفسه حتى كان يقول: في الموضع الذي يُلقَى فيه الشيطان ألقي أنا بنفسي وأجعل ذاتي دون الكائنات غير الناطقة لأنّي عارف أنّهم دوني بلا عيب. سألوه كيف يجعل نفسه دون المجرم فقال: المجرم أخطأ مرة أما أنا فأخطئ كل يوم.
جاءه، مرة، زوّار ذوو رفعة من البلاد السورية ليسألوه في نقاوة القلب. لم يكن بيمين يعرف اليونانية ولمّا يوجد ترجمان. وإذ لاحظ ارتباك زائريه شرع يحدّثهم فجأة باليونانية قائلاً: “طبيعة المياه رخوة وطبيعة الحجر قاسية. ولكن إذا علّقنا قِرْبة فوق الحجر وتركنا الماء تنقط نقطة نقطة فإنّها تخرق الحجر. هكذا الأمر بالنسبة لكلام الله. كلام الله بطبيعته كالماء رقةً وقلبنا قاس، فإن سمع الإنسان، بتواتر، كلام الله فإنّه يفتح القلب على مخافة الله.
لازم بيمين البرّية سبعين سنة وعاصر الآباء القدّيسين أرسانيوس ومكاريوس الكبير ومكاريوس الإسكندري، وتنيّح حوالي العام 460 م.