في هذا اليوم تُقيم الكنيسة المُقدَّسَة تَذكار:
✵القدّيسان الملكان الـمُعادِلا الرُّسُل قسطنطين وهيلانة ✵الشّهيد في الكهنة خريستوفورس بطريرك أنطاكية ✵الشّهيد في الكهنة كيرياكوس، بطريرك أورشليم ✵الأمراء الأبرار قسطنطين وميخائيل وثيودوروس ✵القدّيس البارّ أغابيتوس مركوتشيفو ✵القدّيس البارّ كيرلّلس روستوف ✵الشّهداء الأبرار أجيرانوس بيزي ورفقته ✵القدّيس البارّ هوسبيتوس النّاسك الفرنسيّ ✵الشّهيد سوكندينوس قرطبة الاسبانيّ ✵الشّهداء الموريتانيّون تيموثاوس وبوليوس وأفتيخيوس.
* * *
✤ القدّيسان الملكان الـمُعادِلا الرُّسُل قسطنطين وهيلانة ✤
القدّيس قسطنطين الكبير هو أوّل أمبراطور مسيحيّ صار، بنعمة الله، وكما دعته الكنيسة “رسول الرَّبّ بين الملوك”.
الأبوان والمكان والزّمان
كان ابن جنرال رومانيّ لامع اسمه قسطانس كلور وأمّه القدّيسة هيلانة. وُلد حوالي العام 280 م. موطئ رأسه غير محدّد بوضوح. ثمّة مَن يقول في طرسوس أو نائيسوس، بقرب الدّردانيل، أو بيثينيا أو يورك في بلاد الإنكليز أو سواها هناك. ويبدو أنّه ترعرع في ساحات المعارك وأخذ عن أبيه لا فنّ الحرب وحسب، بل، كذلك، أن يسوس، بحكمة، الخاضعين له وأن يرأف بالمسيحيّين. ممّا يُنقَل عن أبيه أنّه لمّا كان قيِّمًا على بلاد الإنكليز وبلاد الغال (فرنسا) جاءته توجيهات أن يبطش بالمسيحيّين. أمّا هو فلم يحكم على إنسان واحد بالإعدام لأنّه مسيحيّ، رغم أنّه هو نفسه لم يكن مسيحيًّا. والحكّام الخاضعون له الّذين تعرّضوا لبعض المسيحيّين من ذاتهم ما لبث أن أوقفهم عند حدّهم. وإذ كان عدد من ضبّاطه وخدّامه من المسيحيّين خيّرهم بين أن يضحّوا للأوثان وأن يخسروا وظائفهم وحظوتهم عنده. فآثر بعضهم مصلحته على إيمانه وضحّى. هؤلاء، من تلك اللّحظة، احتقرهم وأعفاهم من خدمته لأنّه قال إنّ الّذين يؤثرون مصالحهم ويخونون إلههم لا يمكنهم أن يحفظوا الأمانة له. على هذا أبقى لديه الّذين تمسّكوا بإيمانهم ومسيحهم. هؤلاء، دون سواهم، أمّنهم على نفسه وعلى حكمه. كذلك جاءه سفراء من عند الأمبراطور ذيوكلسيانوس يتّهمونه بأنّ خزانة الدّولة، لديه، فارغة ولا يبالي بما يختصّ بالمال العام. فاستمهلهم لبعض الوقت ثم بثّ بين أصدقائه والشّعب خبر حاجته لاستعارة مبالغ من المال يردّه لهم بعد أيّام. للحال امتلأ بيته ذهبًا وفضّة وجواهر جزيلة القيمة. فلمّا أرسل في طلب السّفراء تعجّبوا فسألهم أن يشهدوا لما عاينوا وأنّ محبّة الشّعب وغناه للأمير خير خزينة. كذلك ورد أن قسطانس، والد قسطنطين، كان كثير العطف على فقراء المسيحيّين. وثمّة مَن يقول إنّه قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة آمن بإله واحد.
هذا عن أبيه، أمّا عن أمّه هيلانة فالأقوال، عن نشأتها، عديدة لعلّ أبرزها أنّها الابنة الوحيدة لـ “كول” الملك الإنكليزيّ الّذي إليه يُعزى بناء أسوار مدينة كولشستر Colchester وتجميلها. منه، كما قيل، استعارت هذه المدينة اسمها. وهي الزّوجة الأولى لقسطانس كلور وقسطنطين هو ابنها البكر. يبدو من أفسافيوس القيصريّ صاحب “تاريخ الكنيسة”، إنّها لم تصر مسيحيّة إلّا بعد أن حقّق قسطنطين، ابنها، النّصرة العجائبيّة على أعدائه. ويبدو أنّها سلكت في الكمال المسيحيّ بجدّ كبير، لا سيّما في التّقوى وعمل الإحسان. روفينوس المؤرّخ يقول عن إيمانها وغيرتها المُقدّسة أنّهما لا مثيل لهما. كذلك أكّد القدّيس غريغوريوس الكبير، في القرن السّادس الميلاديّ، أنّها أشعلت النّار عينها الّتي اشتعلت فيها، وذلك في قلوب الرّوم. كانت تتناسى قَدْرها كأمبراطورة فتبادر إلى مؤازرة الكنائس وتسلك بين النّاس بلباس عاديّ متواضع. صارت أمًّا للمحتاجين والمضنوكين. بنَت الكنائس وأغنتها بالزّينة والآنية الثّمينة.
في كنف هذَين الأبوين الفاضلَين إذًا نشأ قسطنطين فكان على مزايا كريمة ونبل في المسرى ورحابة في التّعاطي مع الآخرين وإنصاف في العدل وعطف على المحتاجين، مستعدًّا لأن يعفوا عن المتحاملين عليه بعد أن يكسر شوكتهم إلّا إذا تمادوا. هذه المزايا بالإضافة إلى الرّأفة بالمسيحيّين اتّسم بها قبل أن يعرف المسيح، فلمّا عرفه أخذ منه وازداد.
في الحجز
قضى قسطنطين سحابة من عمره في نيقوميذية، العاصمة الشّرقيّة للإمبراطوريّة الرّومانيّة، أسيرًا. سبب ذلك أنّ الإمبراطور ذيوكلسيانوس عيّن أباه قسطانس كلور قيصرًا، في الغرب، على بريطانيا وبلاد الغال واسبانيا. ولكي يضمن بقاءه أمينًا له، احتفظ بابنه قسطنطين– ربّما كما جرت العادة في ذلك الزّمان– لديه أسيرًا مكرّمًا في نيقوميذية، ولكن تحت الرّقابة. فتوّة قسطنطين، إذًا، أمضاها في وسط وثنيّ، في قصر ذيوكلسيانوس ثم غاليريوس من بعده.
بعض مزاياه
قالوا عنه إنّه كان مَهيبًا، صنديدًا في المعارك. أخلاقه القويمة وجودته حبّبا به كلّ الّذين عرفوه. وقد سما على سيرة المؤامرات والخسّة المُعتادة في قصور الملوك. لكنّ مزاياه الطّيِّبة حرّكت المحاسد، لا سيّما غاليريوس قيصر الّذي خشي جانبه ووُدّ لو يتمكّن من التّخلّص منه بطريقة “بطوليّة” نظيفة. لذا كثيرًا ما كان يُقحمه في معارك خطرة. لكن، بتدبير الله، كان، كلّ مرّة، يخرج منتصرًا ويسمو رفعة في عيون النّاس.
زمن الصّراعات
أخيرًا تمكّن قسطنطين من الإفلات من تقييد غاليريوس له، وتحوّل إلى الغرب، على جناح السّرعة. كان أبوه مُشرفًا على الموت. لكنّه أسند إليه كرسيّ الحكم في الغرب، فأعلنه العسكر أمبراطورًا في 25 تمّوز سنة 306 م. إثر ذلك توفّي والده في يورك فدخل قسطنطين في صراع مع الطّامعين، من الأباطرة والقياصرة، في حكم الشّرق والغرب معًا. أهمّ هذه الصّراعات مواجهته لمكسنتيوس الّذي أخذ عن أبيه مكسيميانوس في رومية، وكان ظالمًا ماجنًا. أهل رومية استجاروا بقسطنطين الّذي كانت عاصمته، يومذاك، آرل الفرنسيّة فتسلّق جبال الألب واجتاح، بيسر، مدن إيطاليا من الشّمال، وتابع سيره إلى أن وصل إلى ضواحي رومية حيث حشد مكسنتيوس قوّات تفوق قوّات قسطنطين عددًا وعدّة.
وقيل إنّ قسطنطين صعد إلى مكانٍ عالٍ وعاين أعداءه وعرف تفوّقهم فارتبك. فإذا بصليبٍ هائل يظهر في السّماء عند الظّهيرة، قوامه نجوم وحوله استبانت الكلمات التّالية باللّغة اليونانية: “بهذه العلامة تغلب”. ثم في اللّيلة التّالية ظهر له الرَّبّ يسوع نفسه وأوصاه بإعداد صليب مماثل للصّليب الّذي عاينه في الرّؤيا وأن يرفعه بمثابة راية✠ على رأس جيشه. إذ ذاك تلألأت علامة الغلبة من جديد في السّماء. فآمن قسطنطين من كلّ قلبه أنّ يسوع المسيح هو الإله الأوحد، خالق السّماء والأرض، الّذي يُعطي النّصرة للملوك ويرشد الكلّ إلى النّهاية الّتي سبق فرآها من قبل كون العالم.
وهكذا، ما إن طلع النّهار، حتّى شرع قسطنطين في إعداد صليب كبير من الفضّة وأعطى الأمر أن يُوضع على رأس العسكر عِوَضَ النُّسور الملكيّة. و”كعلامة للنّصرة على الموت ونصبًا للخلود”. مذ ذاك أخذ قسطنطين يتعلّم المسيحيّة وينكبّ باجتهاد على قراءة الكتب المُقدَّسة. فلمّا دارت رُحى المعركة المَصيريّة عند جسر ملفيوس، المعروف اليوم بـ “Ponte Mole” على بعد ميلين من رومية، في 28 تشرين الأوّل سنة 312 م.، حقّق قسطنطين، بنعمة الله وقوّة الصّليب، نصرًا كاسحًا وغرق مكسنتيوس وضبّاطه في نهر التّيبر.
دخل قسطنطين رومية دخولًا مظفّرًا فحيّته الجموع بمثابة محرّر ومنقذ ومحسن. وقد رفع راية الصّليب فوق النُصُب الرئيسيّة في المدينة، كما أقيم تمثال للإمبراطور حاملًا في يده الصّليب بدل الرّمح، علامة نصرة وشعار سلطان اقتبله من المسيح. وعند قاعدة التّمثال جُعلت هذه الكتابة: “بهذه العلامة الخلاصيّة الّتي هي علامة الشّجاعة الحقّ، أنقذت مدينتكم من نير الطّاغي وأعدّت للمشيخة وشعب رومية مجده السّالف”.
هذا وقد ردّ قسطنطين للمسيحيّين كلّ الممتلكات الّتي سبق لمكسنتيوس أن صادرها منهم، كما أرجع المنفيّين وحرّر الأسرى. وأوعز بالبحث عن رفات الشّهداء الّذين سقطوا أثناء الاضطهاد الكبير. المسيحيّون، بعد هذه النّصرة، وبعد تشنيع واضطهاد طال أمدهما بات بإمكانهم أن يخرجوا من الظّلّ ويتمتّعوا بحماية الحاكم. بعد ذلك بأشهر التقى قسطنطين الأمبراطور ليسينيوس، أمبراطور المشرق، في ميلانو (313م) فوقّع الاثنان مرسومًا وضع حدًّا لاضطهاد المسيحيّين وأجاز لهم ممارسة إيمانهم بحريّة في كلّ أرجاء الإمبراطوريّة. ممّا جاء في ذاك المرسوم:
“إذ أدركنا، منذ زمنٍ بعيد، أنّ الحريّة الدّينيّة يجب أن لا يُحرم منها أحد، بل يجب أن يُترك لحكم كلّ فرد ورغبته أن يتمّم واجباته الدّينيّة وفق اختياره، أصدرنا الأوامر بأنّ كلّ إنسان، من المسيحيّين وغيرهم، يجب أن يحتفظ بعقيدته وديانته… لذلك قرّرنا، بقصد سليم مستقيم، أن لا يُحرم أحد من الحرّيّة لاختيار واتّباع ديانة المسيحيّين، وأن تعطى الحريّة لكلّ واحد لاعتناق الدّيانة الّتي يراها ملائمة لنفسه، لكي يُظهر لنا الله في كلّ شيء لطفه المعهود وعنايته المعتادة.
وعلاوة على ذلك نأمر من جهة أماكن المسيحيّين الّذين اعتادوا الاجتماع فيها سابقًا… إذا ظهر أنّ أحدًا اشتراها إمّا من خزانتنا أو من أيّ شخصٍ آخر وجب ردّها لهؤلاء المسيحيّين من دون إبطاء ولا تردّد، ومن دون مطالبتهم بتعويض. وإن كان أحد قد قبل تلك الأماكن كهبة وجب ردّها لهم بأسرع ما يمكن…
ولكي يعرف الجميع تفاصيل أوامرنا الرّحيمة هذه نرجو أن تنشروا رسالتنا في كلّ مكان وتعلنوها للجميع…”
القدّيس قسطنطين، من ناحيته، لم يكتفِ بإطلاق حرّيّة العبادة للمسيحيّين، بل أخذ في ترويج المسيحيّة. منح الكنيسة مُساعدات نقديّة لبناء كنائس جديدة وتزيين أضرحة الشّهداء. كما أعاد للمعترفين ما سبقت مصادرته منهم. وممتلكات الشّهداء الّذين لا وريث لهم أعطاها للكنيسة. كذلك ردّ للأساقفة اعتبارهم وكان يستقبلهم إلى مائدته ويساند المجامع المحلّيّة لإحلال السّلام والاتّفاق.
ولكن، فيما أخذ نور الحقّ يلتمع، على هذا النّحو، في الغرب، كانت ظلمات الوثنيّة والتّعسّف تشتدّ على الكنيسة في الشّرق. مكسيميوس دايا كان من أشرس الّذين اضطهدوا المسيحيّين. وفي إطار التّنازع على السّلطة قام على ليسينيوس فقهره هذا الأخير وأعلن نفسه سيّد الإمبراطوريّة في الشّرق بلا منازع. ليسينيوس، الّذي سبق له أن أبرم اتّفاقًا مع القدّيس قسطنطين، ما لبث أن انقلب عليه. فاستعر، في كنفه، اضطهاد المسيحيّين من جديد. ما رمى إليه هو التّخلّص من قسطنطين ليكون هو الإمبراطور الأوحد لكلّ الإمبراطوريّة. المسيحيّون حلفاء قسطنطين والمحظيّون لديه، إذن، يجب خنقهم. لهذا فرض ليسينيوس على الأساقفة، في الشّرق، القيود وأغلق الكنائس ونفى المسيحيّين الّذين طالتهم يده وصادر ممتلكاتهم وعاقب بوحشيّة كلّ الّذين تجاسروا فمدّوا يد العون للموقوفين. كما فرض على الموظّفين الكبار أن يقدّموا الذّبائح للأوثان. فساد الظّلم والعنف في كلّ مجالات الإدارة.
لمّا بلغ قسطنطين تغيّر الأحوّال في المشرق وما يلاقيه المسيحيّون من إجراءات تعسّفية، قام فجمع جيشًا قويًّا تحت راية الصّليب الأقدس واتّجه صوب الشّرق فدحر ليسينيوس في أدرينوبوليس أوّلًا ثمّ في خريسوبوليس بصورة نهائيّة. كان ذلك في 18 أيلول سنة 324 م.
سلام الشّرق والغرب
على هذا النّحو ارتفع الكابوس عن كاهل الكنيسة في الشّرق أيضًا كما سبق له أن ارتفع عن المسيحيّين في الغرب. وفي مرسوم أصدره قسطنطين وأذاعه في كلّ الإمبراطوريّة أعلن أنّ الله وحده يجب اعتباره صاحب انتصاراته وأنّه هو اختارته العناية الإلهيّة ليكون في خدمة الصّلاح والحقّ. وقد جعل على المُقاطعات حكّامًا جُدُدًا حرّم عليهم تقديم الأضحية الوثنيّة وأرسل إلى كلّ الأصقاع الخاضعة لسلطانه ما يُفيد طعنه بالوثنيّة وتحريضه على الهداية إلى المسيح. حثّ أتباعه جميعًا على حذو حذوه ولكن دون أن يرغم أحدًا على ذلك.
مدينة جديدة
بهذه الإمبراطوريّة المسيحيّة الّتي استمرّ حكمها ألف سنة ويزيد، كانت تليق عاصمة جديدة أكثر موافقة، من النّاحية الجغرافيّة، من رومية، وخالية، في آن، من ذكريات الوثنيّة والتّعسّف. وإذ تلقّى قسطنطين، كما ورد، علامة إلهيّة، اختار مدينة صغيرة– في ذلك الزّمان– اسمها بيزنطية، كانت تشغل موقعًا مفصليًّا بين الشّرق والغرب. وقد أوعز إلى أوفراتا، رئيس مهندسيه، ألّا يدّخر جهدًا ولا يقتصد مالًا ليجهّز المدينة بكلّ النّصب والطّرق العامّة الّتي شاءها أن تفوق بعظمتها ومجدها سائر مدن العالم.
اثناء وضع حجر الأساس للمدينة الجديدة في 8 تشرين الثاني سنة 324م أُعطيت اسم القسطنطينية، رومية الجديدة وكُرِّست، فيما بعد، لوالدة الإله. في وسط القصر الملكي ارتفع صليب هائل مزيَّن بالحجارة الثمينة. وفي الميدان وُضع على قمّة عمود من الرخام السمّاقي تمثال لقسطنطين أُودعت فيه بقايا مقدّسة. كما أُقيمت، عند أسفل العمود السلال التي قيل إنها استُعملت في أعجوبة تكثير الخبز. سار العمل بسرعة كبيرة. وبمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين لتولّي قسطنطين الحكم، أي في 11 آب سنة 330م، احتُفل، بأبّهة زائدة، بتدشين العاصمة الجديدة.
مجمع نيقية
بعد أن أحرز قسطنطين انتصاره على ليسينيوس، جعل همّه الأوّل أن يستعيد وحدة الكنيسة ويرسّخها، بعدما تهدّدتها هرطقة آريوس، الكاهن المصري. لتحقيق هذا الهدف بعث، بواسطة هوسيوس، أسقف قرطبة، رسائل إلى ألكسندروس الإسكندري وآريوس عبّر فيها عن ألمه إزاء الانقسام الحاصل، ثم دعا كل أساقفة المسكونة إلى نيقية، إلى أول مجمع مسكوني مقدّس، وذلك عام 325م. هذا التلاقي، الأول من نوعه، والذي أتى بأساقفة من أطراف المسكونة، كان تعبيراً كاملاً عن ملء الكنيسة ووحدة الأمبراطورية المسيحية. وقد جلس الأمبراطور في وسط الأساقفة، مرصّعاً بالجواهر. افتتح الجلسات موجّهاً الشكر إلى الله لهذا الإجتماع وحثّ المشتركين على السلام وأن يحلّوا الخلافات التي بذرها إبليس في بيت الله. كما اشترك في المداولات، ونجح بوداعته واتّزانه في مصالحة المتخالفين. ثم عمد المجمع إلى إدانة آريوس وأتباعه. كذلك تقرّر الاحتفال بالفصح المجيد، حيثما كان، في تاريخ واحد، بمثابة علامة لوحدة الإيمان. وبعدما جرى ختم الجلسات دعا قسطنطين الآباء القدّيسين، بمناسبة عيد حكمه العشرين، إلى مأدبة كبرى، قدّم لهم بعدها الهدايا السخيّة وأعادهم بسلام إلى أبرشياتهم.
أمبراطورة للمسيح
في السنة التالية، 326م، جرت عمادة الأمبراطورة هيلانة. ثم قامت برحلة حجّ إلى فلسطين. ثمّة مَن يذكر أن غرض هيلانة كان التكفير عن جريمة مزدوجة ارتكبها ابنها قسطنطين. فقد قيل له إن ابنه كريسبوس، وهو ابنه البكر من زوجته الأولى مينرفينا، يتآمر عليه، ففتك به. لكنه اكتشف بعد حين أن زوجته الثانية الحيّالة، فاوستا، هي التي لفّقت التهمة ومرّرتها لقسطنطين، بطرقها الخاصة، لتضمن الحكم لأولادها الثلاثة. فما كان من قسطنطين إلاّ أن وضع حدّاً لها هي أيضاً. بعض المؤرخين يقدّم، هنا، هاتين الجريمتين، وربما جرائم أخرى أيضاً، سبباً للطعن في قداسة الأمبراطور. يُذكر أن القتل الذي جرت نسبته إلى قسطنطين إنما سببه جرائم عامة ضدّ الدولة. فإذا كان قسطنطين، في موقعه، كرأس للدولة ورأس للسلطة القضائية في الدولة، قد عمد إلى ما لا بدّ منه في إطار ممارسة الحكم فإلى أي حدّ يمكن اعتبار ما ارتكبه جرائم شخصية؟ هذا سؤال يطرحه المدافعون عن قداسة قسطنطين. سيرة الرجل، في كل حال، لا تدلّ البتّة على أنه كان محبّاً للقتل ولا لسفك الدم. العكس هو الأصحّ. رجل الدولة لا يمكنه أن يكون إلاّ رجل دولة!
أنّى يكن من أمر، إذاً، فقد خرجت هيلانة الملكة إلى فلسطين حاجّة. وقد تسنّى لها خلال رحلتها أن تكتشف موضع الجلجلة وأن تُخرج الصليب الأقدس من تحت الركام (راجع كيفية التعرّف إلى صليب الرب يسوع في يوم عيد الصليب في 14 أيلول). هذا وقد أمر قسطنطين بتشييد بازيليكا (كنيسة كبيرة) فخمة، في المكان، جعلها باسم كنيسة القيامة. هذه جرى تدشينها في العام 335م، بمناسبة الذكرى الثلاثين لتبوّئه سدّة الحكم.
إلى ذلك زارت القدّيسة هيلانة أماكن مقدّسة أخرى وبنت كنائس في بيت لحم وجبل الزيتون. وقد ورد في شأنها أيضاً أنها أطلقت الأسرى وبدّدت الحسنات في الشرق كلّه. وبعدما أكملت سعيها رقدت في الرب عن عمر ناهز الثمانين. جرت مراسم دفنها في القسطنطينية وتمّ نقل جسدها، فيما بعد، إلى رومية حيث يُشاهد اليوم تابوتها الحجري (Sarcophage) في متحف الفاتيكان.
مما قيل عن القدّيسة هيلانة إنها كانت دمثة، طيِّبة المعشر، لطيفة، وادة لكل فئات الناس، لا سيما لمَن كانوا في موقع الخدمة الكنسيّة. لهؤلاء، كما قال روفينوس المؤرّخ، كانت تبدي من الاحترام ما يجعلها، أحياناً، تخدمهم بنفسها وهم إلى المائدة، كما لو كانت واحدة من الإماء. تضع الصحون وتسكب الشراب وتمسك وعاء الماء لتغسل أيديهم. هذا وقيل إنها بنَت ديراً للعذارى القدّيسات في أورشليم. كما جمّلت مدينة دريبانوم في بيثينيا، إكراماً للقدّيس لوقيوس حتى ان القدّيس قسطنطين الملك أطلق على المدينة، فيما بعد، اسم والدته (Helenopolis).
سلام وعدالة
وبالعودة إلى الكلام على قسطنطين الملك نقول إنه، بنعمة الله، نجح بحكمة استمددها من فوق في إشاعة السلام وتوفير الأمن على الحدود حتى أن مَن سُمّوا “برابرة” حوّلوا سيوفهم إلى أدوات زراعية. وهكذا انصرف رجل الله إلى تثبيت أساسات الأمبراطورية المسيحية الجديدة ومؤسّساتها. وقد شجّع، بكل الوسائل المتاحة، انتشار المسيحية، كما حوّل، في العمق، القوانين الرومانية بحيث أخضعها لروح الرأفة الإنجيلية. ومنذ أن ارتقى سدّة العرش، رسم أن يكون يوم الأحد يوم عطلة في كل الأمبراطورية. كما أزال عقوبة الموت صلباً ومنع ألعاب المصارعة وعاقب بشدّة على الاغتصاب وقلّة الحشمة. بعد ذلك شجّع مؤسّسة العائلة كأساس للبناء الإجتماعي مُحِدّاً من الطلاق ومُديناً للزنى وسنّ قوانين جديدة بشأن حقوق الإرث. كما ألغى القوانين التي كانت سائدة في حقّ الذين لا يتركون عقباً مشجِّعاً بذلك على الرهبانية التي عرفت في أيامه انطلاقة مهمّة، وأفرز للعذارى المكرّسات هبات سخيّة. هؤلاء كان يحترمهن احتراماً كبيراً. وعندما انتقلت الإدارة إلى القسطنطينية سنة 330م، منع قسطنطين الاحتفال بالأعياد الوثنية وحال دون وصول الوثنيّين إلى سدّة المسؤولية في الدولة. كذلك كان سخي التوزيع على كل محتاج، على المسيحيّين وغير المسيحيّين معاً، يؤازر الأرامل ويقدِّم نفسه أباً للأيتام. واهتمّ، أيضاً، بحماية الفقراء من ابتزاز الأقوياء، وآثر ازدهار شعبه فخفّف الضريبة السنوية بنسبة الربع، كما أعاد النظر في تقدير قيم الممتلكات بغية إعادة توزيع الأعباء المالية.
ميزات شخصية
كان قسطنطين هادئاً، ساكناً، سيّداً على الأهواء التي تضني المقتدرين بعامة. على القطع النقدية ظهر واقفاً ونظره إلى السماء كما ليؤكّد، بذلك، أن على الحاكم أن يكون رجل صلاة، وسيط سلام واتفاق في مُلكه. في قصره، كما قيل، أفرز صالة كان يعتزل فيها ليصلّي ويتأمّل في الكتاب المقدّس. كما كان يمضي لياليه، أحياناً، في كتابة الأحاديث التي كان يحثّ الشعب فيها على محبّة الحقيقة والفضيلة. وإذ علم ذات يوم أن أحداً ألقى حجراً على رسم يمثّله وطُلب منه أن يكون عقابه للجاني صارماً، مرّر يده على وجهه وابتسم قائلاً: “لست أُحسّ بأي جرح في وجهي وأنا بصحّة جيّدة”. ثم ترك المتّهم يذهب في سبيله. كل مَن كان يدنو منه ملتمساً خدمة مباركة كان واثقاً من حصوله عليها. في ذلك الحين، كما عبّر العديد من الآباء القدّيسين، كان بالإمكان القول إن الله كان هو الحاكم بالفعل بين الناس.
معموديته ورقاده
بعد أن احتفل قسطنطين بتبوّئه الثلاثين للعرش بقليل سنة 335م، حمل شابور الثاني، ملك الفرس، على المسيحيّين في مملكته. ثم، إذ تنكّر لتحالفه مع قسطنطين، اجتاح أرمينيا. لذلك أعدّ الأمبراطور التقي جيشاً قوياً وخرج بنفسه للدفاع عن المسيحيّين. لكنه مرض في هيلينوبوليس ونُقل على وجه السرعة إلى ضواحي نيقوميذية حيث جرت عمادته. المعمودية، في ذلك الزمان، كان المؤمنون يؤجّلونها، أحياناً، إلى سنّ متقدّمة، وقليلاً إلى ما قبل رقادهم توقيراً منهم لسرّ المعمودية وظنّاً أن المؤمن بعد أن يعتمد لا يجوز له أن يخطئ وإلاّ لا تكون له مغفرة بعد. وفاته، كانت في يوم العنصرة المجيدة من العام 337م. كان لا يزال يلبس الأبيض نظير المعتمدين حديثاً. وثمّة صلاة تُنسب إليه قبل وفاته جاء فيها: “الآن عرفت أني مغبوط حقاً. الآن عرفت أني صرت مستحقّاً للحياة الأبدية. الآن عرفت أني أشترك في النور الإلهي”.
حال وفاته نُقل جسد القدّيس قسطنطين المعادل الرسل إلى القسطنطينية حيث جرت الصلاة عليه بحضور شعبي كثيف، ثم أُودع كنيسة القدّيسين الرسل، وسط الأضرحة الحجرية الفارغة للإثني عشر رسولاً.