في هذا اليوم تُقيم الكنيسة المُقدَّسَة تَذكار:
*القدّيسة الشّهيدة أنيسيّة *القدّيس الرّسول تيمون *الشّهداء سابينوس ورفقته *الشّهداء ماجستريانوس وآخرون *القدّيسة البارّة ثيودورة الّتي من قيصريدا *الشّهيد فيلاتير *القدّيسة ثيودورة الّتي من القسطنطينيّة *القدّيس البارّ لاون *القدّيس مكاريوس متروبوليت موسكو وكلّ روسيّا *القدّيس البارّ جدعون الجديد في الشّهداء.
* * *
✤ القدّيسة الشّهيدة أنيسيّة ✤
ولدت أنيسيّة لأبوين غنيّين شريفين في تسالونيكية اهتديا إلى المسيح وربّياها على محبة الحكمة والفضيلة. فلما بلفت عتبة المراهقة رقدا في الرب. تركاها سيّدة لعدد من الخدّام وتركا لها أموالاً طائلة. كان وقع الصدمة عليها شديداً. البارحة كانت تنعم بدفء والديها وها هي اليوم وحيدة. ما نفع الخدم وما نفع المال؟! كل ما تعلمته أنيسيّة من والديها عن سرعة تغيّر شؤون الأحوال الدنيا وبطلانها بان لناظريها الآن مثبتاً. ولما كانت قد تربَّت على محبة المسيح وحفظ وصاياه فقد أضحت الحياة لها المسيح والموت ربحاً (فيليبي21:1). فأعتقت عبيدها وزوّدتهم بما يحتاجون إليه من المال لتدبير شؤون حياتهم. كما وزّعت ما بقي لها من ممتلكات وحقول وقطعان وميراث على الفقراء والمحتاجين. لم تحتفظ لنفسها بشيء. تصرّفت كما تصرّف التاجر في الإنجيل، ذاك الذي طلب لآلئ حسنة، فلما وجد لؤلؤة واحدة كثيرة الثمن مضى وباع كل ما كان له واشتراها. تلك اللؤلؤة الواحدة الكثيرة الثمن كانت ملكوت السموات (متى13:45).
تخلّصت أنيسيّة من كل ما كان لها. حتى ثيابها وحلاها نبذتها ووزّعتها يميناً ويساراً. أحبّت أن تكون حرّة من كل ما يمكن أن يقيّدها إلى هذا الدهر. كما أحبّت أن تلقي رجاءها بالكلية على الله الحي وأن تعمل عمله كما تراه في قلبها. فلبست ثياباً عادية خشنة وأخذت تجوب المدينة تزور المرضى وتعين الأرامل والأيتام وتجمع الطعام واللباس للفقراء. أما معيشتها هي فبدأت تحصّلها من شغل يديها. عمر الشباب، في عينيها، كان عبئاً. ليتني كنت أكبر سناً! لسان حالها كان: “باطلة هي الفتوّة لأنك فيها تُعثر الآخرين أو يعثرك الآخرون. الشيخوخة خير من الفتوّة! كم أنا حزينة لطول الوقت الذي يفصلني عن السماء!”.
لم يتوقّف عمل الرحمة في قلب أنيسيّة عند حدود المرضى وذوي الأحوال الاجتماعية والمعيشية الصعبة. أخذت على عاتقها زيارة المساجين المعترفين من الذين طالتهم يد الاضطهاد. فسقت العطاش وأطعمت الجياع واعتنت بجراح من تعرّض منهم للضرب والتعذيب وعزّت القلوب وشدَّدت النفوس الضعيفة. ومن عشرة المعترفين والشهداء اشتهت أن تكون لها شركة في شهادة الدم للمسيح. هذا ما يشتهيه الزاهدون المفتقرون من أجل المسيح; يتأجّج فيهم الشوق إليه ويتوقون إلى بذل ما بقي لهم ذبيحة وقرباناً: أجسادهم! ولكن، هذه نعمة من عنده تعالى، يهبها لمن يشاء ويمسكها عمن يشاء، والله علاّم القلوب!
أقامت أنيسيّة على هذا الرجاء تزرع الرحمة من حولها، مجدّة في الأصوام والدموع والأسهار والصلوات. لا شيء عطّل عزمها. سارت قدماً رغم كل شيء وعبر كل تجربة وشدّة وضيق. كانت في يقينها وسعيها وتعبها تجسيداً لقولة الرسول القائل: “إني متيقّن أنه لا موت ولا حياة ولا ملائكة ولا رؤساء ولا قوات ولا أمور حاضرة ولا مستقبلة ولا علو ولا عمق ولا خليقة أخرى تقدر أن تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع ربّنا” (رومية38:8-39).
وحلّت الساعة التي أتاحت لأنيسيّة أن تمجد الله وتبذل نفسها لعريسها السماوي. عنُفت موجة الاضطهاد على المسيحيين من جديد، في أيام الإمبراطور الروماني مكسيميانوس، سنة 305 ميلادية. وقيل إن السلطات الرسمية شجعت أو تغاضت عن الذين كانوا يلاحقون أو يفتكون بمن اشتبهوا بهم أنهم مسيحيون. في تلك الأثناء، حدث أن أنيسيّة خرجت تروم الصلاة في الجماعة. وإذ عبرت بما يعرف بباب كاسندرا، دنا منها أحد الحرّاس الإمبراطوريين بعدما اشتهاها لنفسه، وتحرّش بها فصدّته ورسمت على نفسها إشارة الصليب. فشعر الجندي الوقح بالمهانة وسألها: “من أنت وإلى أين أنت ذاهبة؟!” فأجابته بلا تردّد ومن دون خوف: “أنا خادمة ليسوع المسيح وذاهبة لأصلّي مع الجماعة!” فكان كلامها في أذنيه سلاحاً استعمله ضدّها عسى أن ينال بواسطته ما رغبت به نفسه منها. فقال لها: “لن أسمح لك بذلك وسآخذك إلى الهيكل لتضحّي للآلهة. اليوم يوم عبادة الشمس!”. وإذ تفوّه الجندي بهذا الكلام مدّ يده وانتزع منها المنديل بحركة خاطفة. فعنّفته وبصقت في وجهه فاغتاظ واستل سيفه وطعنها. وقيل جرّرها إلى الهيكل جرّاً وحاول إجبارها على التضحية للوثن، فتطلّعت إليه وبصقت في وجهه، فضربها بالسيف فسقطت صريعة لتنضم إلى ركب الأبكار السماويين وتحظى بإكليل الغلبة.
هذا وقد ذكر أن رفات القديسة أنيسيّة كانت تفيض طيباً زكي العرف يشفي آلام البشر المتنوعة. والكنيسة تنشد لها الأنشودة المعبّرة التالية: “أيتها الدائمة الذكر أنيسيّة، إنك لما بدّدت الغنى. وكفيت الفقراء. حصلت عروساً عادمة الفساد للخالق. وقدّمت له مجاري دمائك كجهاز. وماثلته في آلامه التي كابدها. فأسكنك في الخدر الإلهي. كشهيدة لابسة الجهاد” (صلاة المساء. القطعة الثالثة على يا رب إليك صرخت).