هذا اليوم تُقيم الكنيسة المُقدَّسَة تَذكار:
النّبيّ عاموص *الشّهداء فيتوس ورفيقاه مودستوس وخريسنتيا *الشّهيد ذولاس الكيليكيّ *القدّيس البارّ ذولاس المصريّ *القدّيس البارّ هورسياز الباخوميّ *الشّهيدة غروس *الشّهيد نرسيس *أبونا الجليل في القدّيسين سمعان النّوفغوروديّ *القدّيسان البارّان غريغوريوس وكاسيانوس الروسيّان *القدّيس لعازر الصدّيق، الأمير الصّربيّ *القدّيس البارّ أفرام الصّربيّ البطريرك *أبونا الجليل في القدّيسين اسبيريدون البطريرك الصّربيّ *شهداء صربيا الجُدُد *القدّيس البارّ إيرونيموس *أبونا الجليل في القدّيسين أوغسطينوس، أسقف هيبو.
* * *
✤ القدّيس البارّ إيرونيموس ✤
وُلد سنة 347 م. في ستريدون بقرب أكويلا، في إيطاليا الشمالية، في كنف عائلة مسيحية. في الثانية عشرة من عمره انتقل إلى رومية للدراسة لدى دوناتوس الشهير الذي أيقظ فيه حس الخطابة. ولما كان الشاب الحدث ذا مزاج حاد وذاكرة نفاذة فإنه أقبل على الدرس بحماس وأبدى رغبة جامحة في المعرفة. وإن زيارات متكررة لمدافن الشهداء، في الدياميس، حركت فيه غيرة شديدة للمسيح. لكن معاشراته جعلت فتوته مضطربة وعاصفة أحياناً، وهو ما أسف له، فيما بعد، بعمق. في حدود العشرين من عمره، بعد قليل من اقتباله المعمودية، غادر رومية إلى Trêves التي كانت لا تزال مقر الإمبراطور. غرضه كان أن يجد لنفسه وظيفة إدارية مرموقة. هناك غمره إحساس لا يقاوم بالإلهيات، أن يترك كل شيء ويقيم في خدمة الله. توجه إلى أكويلا حيث انضم، برفقة صديقه وزميل الدراسة روفينوس، إلى حلقة من الإكليروس والعامة أولعت بالتأملات الإلهية وشكلت، بحسب تعبيره، “جوقاً من المغبوطين”. وإذ أخذ، مذ ذاك، يتعاطى الحياة النسكية دون هوادة، قرر أن يسير في خطى إبراهيم، أب الآباء، وكل الذين آثروا النفي الذاتي حباً بالله وأبحر باتجاه الشرق.
وصل إلى أنطاكية. أمضى الصوم الكبير في الانقطاع والتأمل الدؤوب في الأنبياء وقراءة المؤلفين الكلاسيكيين. أصابته حمى شديدة، في منتصف الصيام، وأشرف على الموت. خُطف بالروح وعاين نفسه أمام محكمة العلي. وإذ أشار إلى هويته المسيحية أجابه القاضي: “أنت تكذب. أنت شيشروني ولست مسيحياً!” وأمر بضربه بالسياط. فإذ تعرض لسياط الضمير وعد بتغيير السيرة: “يا رب، إذا كنت من الآن فصاعداً لأقتني كتبا دنيوية أو أقرأها فإني أكون قد جحدتك!” مذ ذاك كرس نفسه بالكامل لقراءة الكتاب المقدس. ودون أن يأخذ نصيحة أحد، اقتحم برية خلكيس، جنوبي شرقي أنطاكية، تحركه رغبة في محاكاة جهادات القديس أنطونيوس. لكن تبين أن تقديره لقواه على الجهاد كانت دون توقعاته فإنه رغم الأصوام والتقشف الذي فرضه على نفسه، ألفى عرضة، بصورة رهيبة، للأفكار والذكريات في شأن حياته السالفة. فإنه إذ كان يرهق جسده بالنسك تحرقه الشمس وتحتف به العقارب وحيوانات البرية فقد كان يخيل إليه أنه في حضن أطايب رومية تحيط به النساء الغانيات. ولكي يقاوم الضجر انكب على دراسة اللغة اليونانية وتعب في تحصيل العبرية والكلدانية، كما تعاطى المراسلة مع أصدقائه في أكويلا. على أن الله أسبغ عليه، في تجاربه، تعزيات سماوية. رغم ذلك وجد نفسه مجبراً على مغادرة البرية، فإن السلام فيها اضطرب نتيجة خلاف الرهبان فيما بينهم بشأن كنيسة أنطاكية المنقسمة على نفسها. إيرونيموس كان من مجندي حزب بولينوس. لذا بعث إلى البابا داماسوس يطلب منه أن يفصل في الجدل القائم في أنطاكية لكنه لم يحظ منه بأي جواب. فغادر إلى أنطاكية حيث سيم كاهناً، رغم تحفظاته، بيد بولينوس، وتابع درسه للكتاب المقدس لدى العلامة أبوليناريوس اللاذقي. وإذ اجتذبته بلاغة القديس غريغوريوس اللاهوتي وقداسته، انتقل إلى القسطنطينية حيث تتلمذ له ثلاث سنوات. هناك اكتشف بإعجاب أعمال أوريجنيس وشرع في ترجمتها. بعد استقالة القديس غريغوريوس من أسقفية المدينة المتملكة، دعاه بولينوس الأنطاكي والقديس أبيفانيوس لمرافقتهما إلى مجمع رومية (382م). خلال جلسات هذا المجمع لاحظ داماسوس المواهب الفذة التي تمتع بها إيرونيموس. فلما اُختتم المجمع استبقاه لديه سكرتيراً. وقد عرف البابا كيف يثير فكره بأسئلة تتناول المقاطع الكتابية الصعبة، كما كلفه بمراجعة الترجمات اللاتينية للإنجيل تبعاً للأصل اليوناني.
صيته كمفسر كتابي أتاح له أن يصير مرشداً روحياً لحلقة من النساء النبيلات التقيات اجتمعن حول القديسة مركلا (31 كانون الثاني) في قصرها في Aventin. وقد تسنى لإيرونيموس في هذا الإطار، تنظيم اجتماعات دورية أضاف خلالها إلى تفاسيره للنصوص المقدسة ودروسه العبرية مواعظ حماسية عن الحياة النسكية. غير أن حماسه الجامح لإعلاء شأن الحياة النسكية واستهجانه لمسلك الكهنة العالميين حرك عليه العديدين فاتهموه بنبذ الزواج. هؤلاء، بعد وفاة البابا داماسوس (384م)، أطلقوا عليه وشايات شائنة اضطرته إلى مغادرة رومية. لكنه عاد فالتقى باولا وابنتها أوستوخيا في أنطاكية، وهما من الحلقة النسائية الأنفة الذكر. فخرج معهما في رحلة حج طويلة طالت الأرض المقدسة ومصر، ابتغاء لقاء بعض آباء البرية فيها. أخيراً استقر إيرونيموس في بيت لحم حيث أسس، بقرب بازيليكا الميلاد، ديرين: أحدهما للرهبان والآخر للقديسة باولا والنساء التقيات اللواتي تبعنه. لهاتين الشركتين حرر سير القديس بولس الثيبي و القديس هيلاريون و القديس ملخس. كان، كل يوم، يعلق على الكتاب المقدس لباولا وتلامذته، كما كان يستقبل العديد من الحجاج المقبلين للتبرك من مغارة الميلاد والاستقاء من نبع معرفة قديس الله. لكنه هنا، بخاصة، انصرف إلى العمل الهائل المختص بترجمة الكتاب المقدس ووضع الشروحات المناسبة له. “أن تجهل الكتاب المقدس معناه أنك تجهل المسيح”. هذا ما كان يقول به. وإن حرصه على دقة النص الأصلي دفعه إلى مباشرة ترجمة كل العهد القديم من العبرية. هذه كانت مهمة صعبة أتمها خلال خمسة عشر عاماً من العمل الدؤوب.
بالإضافة إلى هذه الأعمال الكتابية لم يدعه مزاجه المتهور يلزم الصمت في شأن الأمور الكنسية يومذاك، فانكب، بنفس الحدة التي دفعته إلى الجهاد ضد الأهواء في البرية، على الجهاد من أجل الحقيقة ضد الهرطقة فحمل على تلاميذ أوريجنيس ودخل في خلاف مع صديقه روفينوس وأسقفه يوحنا الأورشليمي.
هذا وقد حول تدفق المهجرين من الغرب إلى بيت لحم، إثر سقوط رومية في يد البرابرة سنة 410م، أقول حول القديس إلى خدمتهم وصرفه، بعض الشيء، عن الكتابة. رغم ذلك استمرت أعماله الكتابية والجدلية التي خصص لها قسماً كبيراً من لياليه. وقد كتب، بخاصة، ضد البيلاجيانيين. بقي كذلك إلى أن رقد بالرب في 30 أيلول سنة 420م.
طروباريّة القدّيس إيرونيموس (باللّحن الثّامن)
لِلبَرِيَّةِ غَيْرِ الـمُثْمِرَةِ بِمَجارِي دُمُوعِكَ أَمْرَعْتَ. وبِالتَّنَهُّداتِ التي مِنَ الأَعْماق أَثْمَرْتَ بِأَتْعابِكَ إِلى مِئَةِ ضِعْفٍ. فَصِرْتَ كَوكَباً لِلمَسْكونَةِ مُتَلأْلِئاً بِالعَجائِب. يا أَبانا البارَّ إيرونيموس فَتَشَفَّعْ إِلى المَسِيحِ الإِلَهِ أَنْ يُخَلِّصَ نُفُوسَنا.