في هذا اليوم تُقيم الكنيسة المُقدَّسَة تَذكار:
*ميلاد ربّنا وإلهنا ومخلّصنا يسوع المسيح بالجسد *ذكرى سجود المجوس *ذكرى الرّعاة الّذين عاينوا السّيّد طفلًا.
* * *
✤ ميلاد ربّنا وإلهنا ومخلّصنا يسوع المسيح بالجسد✤
“لمّا حان مِلء الزّمان أرسل الله ابنه مولودًا من امرأة، مولودًا تحت النّاموس ليفتدي الّذين تحت النّاموس لننال التّبنّي”.
(غلاطية 4: 4– 5)
بميلاد الرَّبّ يسوع المسيح بالجسد من مريم البتول حلّ ملء الزّمان فتحقّق قصد الله للعالَمين وتمّت مواعيده. هذا هو الّذي به وعد الله بأنبيائه (رومية 1: 2) وعنه تحدّث موسى والأنبياء والمزامير (لوقا 24: 44) وله تشهد الكتب المُقدّسة (يوحنّا 5: 39). إليه، منذ فجر التّاريخ، كان اشتياق كلّ نفس على نحو اشتياق العروس إليه في نشيد الأنشاد لمّا هتفت: “أنا لحبيبي وإليّ اشتياقه” (نشيد 7: 10). واليوم اكتمل الزّمان فبات بإمكاننا أن يخاطب بعضنا بعضًا كما خاطب فيليبّس نثنائيل لمّا قال له: “قد وجدنا الّذي كتب عنه موسى في النّاموس والأنبياءُ يسوع ابن يوسف الّذي من النّاصرة” (يوحنّا 1: 5).
الميلاد في الإنجيل
الكلام على ميلاد الرَّبّ يسوع بالجسد ورد مفصّلًا في إنجيلَين وحَسْب وهما إنجيل متّى (1: 18 – 2: 23) وإنجيل لوقا (2: 1 – 20).
أمّا متّى الإنجيليّ فجعل ولادة الرَّبّ يسوع في أيّام هيرودس الملك المعروف بـ “الكبير”. هذا ملك على اليهوديّة بين العامَين 37 و4 ق. م. هنا يُطرح سؤال: كيف يمكن أن يكون هيرودوس قد رقد في تاريخ سابق لميلاد الرَّبّ يسوع إذا كان َّ يسوع قد وُلد في زمانه؟ الجواب هو أنّ التأريخ على أساس ميلاد الرَّبّ يسوع بدأ في القرن السّادس للميلاد بسعي راهب اسمه ديونيسيوس اكسيغوس. هذا حسب، خطأ، أنّ ولادة السّيّد كانت في السنة 753 لتأسيس مدينة روما (رومية). ولكن تبيّن، فيما بعد، أنّ هيرودوس رقد قبل ذلك بأربع سنوات، أي في السّنة 749 لتأسيس روما، فتكون وفاة هيرودوس قد حدثت، وفق تقويم ديونيسيوس الميلاديّ، في 4 ق. م. أمّا ولادة الرَّبّ يسوع فليس تاريخها معروفًا بصورة محدّدة دقيقة. ويوقعه الدّارسون ما بين السّنة التّاسعة والسّنة الرّابعة قبل الميلاد.
أمّا لوقا الإنجيليّ فجعل ولادة الرَّبّ يسوع بعد ولادة يوحنّا بن زكريا بما يقرب من الأشهر السّتّة (راجع لوقا 1: 26، 36). هذا الأخير حبلت به أليصابات أمّه في زمن هيرودوس الملك (1: 5 وما يتبع). ومع ذلك فقد ربط لوقا ولادة الرَّبّ يسوع بحدث تاريخيّ من زمن أوغسطوس قيصر (29 ق. م – 14 ب. م) هو إحصاء السّكّان في “كلّ المسكونة”، على حدّ تعبير لوقا، أي في كلّ الأمبراطوريّة الرّومانيّة، لأغراض ضريبة أوّلًا. هذا المسح السّكّانيّ أسماه لوقا “الاكتتاب الأوّل”. الوالي الرّومانيّ على سوريا، في ذلك الحين، كان يُدعى كيرينيوس، ويُظنّ أنّه تولّى الإشراف على السّياسة الرّومانيّة في الشّرق الأدنى منذ العام 12 ق.م.
كانت ولادة الرَّبّ يسوع في بيت لحم الواقعة في اليهوديّة تمييزًا لها عن بيت لحم الواقعة في زبولون. تبعد عن أورشليم حوالى ثمانية كيلومترات لجهّة الجنوب. لوقا يدعوها “مدينة داود” لأنّ داود كان منها (راعوث 1: 2، 19؛ 4: 11)، وفيها اقتبل المسحة الملوكيّة بيد صموئيل النّبيّ (1 صموئيل 16). كذلك بقرب بيت لحم ماتت راحيل قديمًا ودفنت ونُصب عمود على قبرها (تكوين 35: 19 – 20). وعن بيت لحم كتب ميخا النّبيّ يقول: “أمّا أنت يا بيت لحم، أفراثة، وأنت صغيرة أن تكوني بين ألوف يهوذا، فمنك يخرج لي الّذي يكون متسلّطًا على إسرائيل ومخارجه منذ القديم منذ أيّام الأزل” (ميخا 5: 2).
ليس الموضع الّذي وُلد فيه الطفل يسوع، في بيت لحم، محدّدًا. متّى الإنجيليّ يكتفي بذِكر بيت لحم بعامّةٍ، فيما يذكر الإنجيليّ لوقا أنّه لمّا ولدت مريم ابنها البكر قمّطته وأضجعته في المذود (إذ لم يكن لهما موضع في المنزل” (2: 7). المكان، إذًا، مزرب للحيوانات. ولكن، هل كان مزربًا تابعًا لأحد الخانات أم لأحد المنازل في القرية، وأي منزل يكون؟ ليس واضحًا. تجدر الإشارة إلى أنّ أوّل مَن ذكر أنّ الولادة كانت في مغارة في بيت لحم كان القدّيس يوستينوس الشّهيد (القرن 2 م).
أمّا مدينة النّاصرة الّتي تقع على بُعد ستّة وثمانين ميلا شمالي أورشليم، في الجليل، فهي المدينة الّتي أقام فيها يوسف ومريم قبل وبعد ولادة الرَّبّ يسوع. هذا حسب نصّ لوقا الإنجيليّ (2: 39). أمّا عند متّى فالبادي أنّ يوسف ومريم كانا يسكنان في اليهوديّة، وربّما في بيت لحم بالذّات، ثمّ انتقلا إلى النّاصرة، إثر حلم، بعد ولادة الرَّبّ يسوع، خوفًا من أرخيلاوس ابن هيرودوس الّذي كان على اليهوديّة وكان بطّاشًا (متّى 2: 22 – 23).
وُلد الرَّبّ يسوع من مريم البتول بعدما حُبل به فيها من الرَّوح القدس (متّى 1: 20؛ لوقا 1: 35) من غير أن تعرف رجلًا. مريم كانت عذراء مخطوبة لرجل من بيت داود اسمه يوسف (لوقا 1: 27). هو دُعي رجلها (متّى 1: 19) وهي دُعيت امرأته (متّى 1: 20) لأنّ الخطوبة، في الشّريعة الموسويّة، عقد زواج ملزِم ولو نقصه العرس ليكتمل وأن يأخذ الزّوج امرأته إلى خاصّته (راجع تثنية 22: 13 وما يتبعها). تردّد يوسف، أوّل أمره، لمّا عرف أنّ مريم حبلى. خطر بباله أن يطلّقها. وإذ كان بارًّا ولم يشأ أن يعرِّضها للفضيحة وللموت رجمًا همَّ أن يفعل ذلك سرًّا. في الشّريعة الموسويّة تُرجم الزّوجة وكذلك العذراء المخطوبة إذا تبيّن أنّها عرفت رجلًا غير رجلها (راجع تثنية 22). هنا تدخّل ملاك الرَّبّ وكشف له حقيقة أمر مريم ودعاه لأن يأخذها إلى خاصّته غير مُرتاب، وأن يُعطي الإبن الموعود اسم يسوع. تسمية المولود الجديد كانت، في العرف، امتيازاً لأب الولد، وكانت بمثابة إقرار منه أنّه ابنه الشرعي (راجع لوقا 1: 57 – 63). تجدر الإشارة إلى أنّ الابن الشرعي عند اليهود كان يحسب من نسب أبيه بغضّ النظر عما إذا كان من صِلبه أم لا. لهذا السبب جاز القول عن يسوع إنّه ابن يوسف (متّى 13: 55؛ لوقا 4: 22) – مع أنّه دعي أحياناً “ابن مريم” (مرقص 6: 3) – وتالياً أنّه ابن داود ولو لم يكن هناك ما يؤكّد، في النصوص الكتابية، أنّ مريم أمّه كانت هي أيضاً من “بيت داود وعشيرته”. على أنّ هذا لم يمنع بعضاً من الآباء والمعلّمين المسيحيّين من تأكيد نسبة مريم إلى آل داود، منذ وقت مبكّر، كالقدّيس أغناطيوس الأنطاكي (+ 107 م) والقدّيس يوستينوس الشهيد (+ 165 م) وأوريجنيس المعلّم (+ 254 م) والقدّيس يوحنّا الذهبي الفم (+ 407 م).
هذا وأنّ الهمّ الأوّل لمتّى الرسول في روايته كان التأكيد أنّ هذا هو المسيح المخلّص الموعود به لإبراهيم وداود. لذا افتتح إنجيله بهذا القول: “كتاب ميلاد يسوع المسيح بن داود بن إبراهيم” ثمّ فصّل. كذلك حرص على تبيان أنّ مَن تحدّثت عنه الكتب المقدّسة هو إيّاه الربّ يسوع. لذلك لم يكفّ عن التّرداد أنّ هذا وذاك من تفاصيل ما حدث كان إتمامًا لقول الرَّبّ بهذا أو ذاك من الأنبياء.
أمّا لوقا الرّسول فكان له في إنجيله أفق مختلف. همّه كان بالأحرى التّأكيد أنّ ولادة الرَّبّ يسوع كانت حدثًا تاريخيًّا وأنّها تمّت إلى آدم وبالتّالي إلى كلّ شعوب الأرض (راجع سلسلة أنساب الرَّبّ لديه وقارنها بالسّلسلة الواردة في إنجيل متّى). الخلاص، إذًا، لكلّ المسكونة، يهودًا وأمميّين.
الاحتفال بالميلاد
أولى علائم الاحتفال بعيد ميلاد الرَّبّ يسوع له المجد في مصر قرابة العام 200 م. الإشارة إلى ذلك وردت على لسان القدّيس كليمنضوس الإسكندريّ. ويبدو أنّ المصريّين كانوا يحتفلون بميلاد الرَّبّ يسوع في 20 أيّار. ثمّ في النّصف الأوّل من القرن الرّابع الميلاديّ تحدّد أن يكون السّادس من كانون الثّاني، في مصر، عيدًا لميلاد الرَّبّ يسوع وظهوره. ولكن بدا من خلال مواعظ للقدّيس غريغوريوس النّيصصيّ أنّ المؤمنين في بلاد الكبّادوك كانوا يحتفلون بالعيد نفسه ولكن في 25 كانون الأوّل. أمّا في أورشليم فتجاهلت الكنيسة عيد الميلاد حتّى القرن السّادس م. فيما يبدو أنّ القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفم أدخله إلى أنطاكية في حدود العام 386 م، وإلى القسطنطينيّة ما بين العامَين 398 و402 م. أمّا في روما (رومية) فقد أخذت الكنيسة تحتفل بميلاد السّيّد منذ العام 354 م. لماذا اختير الخامس والعشرون من كانون الأوّل موعدًا للاحتفال بالعيد؟ لا نعرف تمامًا. ولكن يغلب الظّنّ أنّ ذلك مرتبط بقصد الكنيسة في إفراغ الأعياد الوثنيّة من مضمونها الوثنيّ وصرف أنظار المُهتدين الجدد عن الأوثان، الّتي كانوا يعبدونها، إلى المسيح، وكذلك تنقية الأعياد والممارسات، الّتي سبق لهم أن اتّبعوها، ممّا لا يتّفق والإيمان الجديد. تغيير وجهة هذه الأعياد من دون الطّعن بها في الشّكل أو السّعي إلى إلغائها كان عمل حكمة فذًّا لأنّ ما هو راسخ في وجدان النّاس لا يُلغى بقرار. تحويله أيسر وأكثر واقعيّة. من ذلك مثلًا عيد مولد الشّمس الّتي لا تُقهر. هذا كان يُحتفل به عند الوثنيّين يوم 25 كانون الأوّل بالذّات. القدّيس كبريانوس القرطاجي (القرن 3 م) يذكر أنّ الاحتفال بميلاد الشّمس الّتي لا تُقهر إنّما يجد كماله في الاحتفال بميلاد الرَّبّ يسوع الّذي هو وحده شمس البرّ الّتي لا تُقهر.
لاهوت الميلاد
في الميلاد نحتفل بالتّجسّد الإلهيّ، أنّ ابن الله الوحيد صار إنسانًا. عندما نقول ابن الله الوحيد نقصد مَن ورد الكلام عنه بشيء من التّفصيل في دستور الإيمان حيث جاء: “أؤمن… وبربّ واحد يسوع المسيح. ابن الله الوحيد. المولود من الآب قبل كلّ الدّهور. نور من نور. إله حقّ من إله حقّ. مولود غير مخلوق. مساوٍ للآب في الجوهر. الّذي به كان كلّ شيء. الّذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا نزل من السّماء وتجسّد من الرّوح القدس ومن مريم العذراء وتأنّس…”. ولكن ما معنى ذلك؟ ما معنى أنّ ابن الله الوحيد صار إنسانًا؟ معناه انّ ابن الله الوحيد اتّخذ، كشخص، طبيعتنا البشريّة، اتّحد بها، صارت له وفيه. كلّ ما هو بشريّ فينا اشترك هو فيه. ليست هناك وضعيّة أو إمكانيّة بشريّة واحدة إلّا ولها أصول طبيعيّة، اشترك الرَّبّ يسوع المسيح فيها. شيء واحد لم يشترك الرَّبّ يسوع معنا فيه: الخطيئة. ابن الله المتجسّد منزّه عن الخطيئة. اتّخذ طبيعتنا ولم يعرف خطيئتنا أي لم يختبرها. ليست الخطيئة من طبيعة الإنسان بل من عمل إرادته. الله خلقنا أصحاب إرادة نريد أو لا نريد. نقبل أو نرفض. فكانت لنا من ذلك رفعة عظيمة لأنّ الله جعلنا نظيره، على صورته كما تقول كتبنا. أعطانا أن نختار بين أن نكون معه وأن نكون من دونه. الاختيار هنا مرتبط بالمحبّة. لا إكراه في المحبّة. فإذا ما أحببناه اتّحدنا به، نحن فيه وهو فينا. صرنا مثله. وإذا لم نحبّه انقطعنا عنه. هذا الانقطاع عن الله نسمّيه خطيئة. مَن التصق بالله لم يعرف خطيئة. لذا قيل: “كلّ مَن وُلد من الله لا يخطئ” (1 يوحنّا 5: 18). ثمّ الخطيئة تلوّث الطّبيعة البشريّة، تضعفها، تستعبدها، تذلّها، تميل بها إلى اتّجاهات ليست مطبوعة عليها في الأساس. الخطيئة الأولى كانت بآدم وحوّاء. كلّ إنسان، مذ ذاك، احتضن، رغمًا عنه، طبيعة بشريّة معيوبة ومعطوبة. هذا العيب الّذي انطوى، في الحقيقة، على آثار الخطيئة والميل التّلقائيّ إليها، ورثناه عن الّذين سبقونا. وحده الرَّبّ يسوع كان خاليًا من هذا العيب. والسّبب أنّه الوحيد الّذي لم يولد من زرع بَشَريّ. لذا قلنا إنّ الرَّبّ يسوع كان من دون خطيئة. وقد وضعته أمّه من دون ألم لأنّها حبلت به من دون هوى (القدّيس غريغوريوس بالاماس).
وإذ تجسّد ابن الله الوحيد من مريم البتول حمل خطايانا وكلّ ما ترتّب عليها في جسده. حملها وكأنّها خطاياه هو. هذه هي صورة عبد الله كما رسمها إشعياء النّبيّ في الإصحاح 53 من نبوءته لمّا قال عنه إنّه “حمل آلامنا واحتمل أوجاعنا… طُعن بسبب مَعاصينا وسُحق بسبب آثامنا. نزل به العقاب من أجل سلامنا… كلّنا ضللنا كالغنم… فألقى الرَّبّ عليه إثمنا كلّنا… وبسبب معصية شعبي ضُرب حتّى الموت” (إشعياء 53: 4 – 8). والرّسول بولس عبّر عن تدبير الله الآب، في هذا الشّأن، بكلمات قويّة فقال إنّه “جعل الّذي لم يعرف خطيّة خطيّة لأجلنا لنصير نحن برّ الله فيه” (2 كورنثوس 5: 21). “صار لعنة لأجلنا” (غلاطية 3: 13) على حدّ تعبيره. وأوّل مَن لامس سرّ تدبير الله هذا، سرّ البراءة المبذولة كان لصّ اليمين لمّا قال عن نفسه وبالأحرى عن النّاس أجمعين: “أمّا نحن فبعدل لأنّنا ننال استحقاق ما فعلنا. وأمّا هذا فلم يفعل شيئًا ليس في محله. ثمّ قال ليسوع اذكرني يا ربّ متى جئت في ملكوتك”. فجاءه الجواب على الفور: “الحقّ أقول لك إنّك اليوم تكون معي في الفردوس” (لوقا 23: 41 – 43).
لماذا فعل الله ما فعله؟ لأنّه محبّة. لا نقول فقط لأنّه يحبّ. هو الحبيب وهو المحبوب وهو المحبّة في آن. المحبّة هي الله فينا. والمحبّة تفترض أن يشترك الحبيب في ما لحبيبه. لهذا اتّخذ ابن الله الوحيد جسدنا واشترك في شقائنا وعانى من خطايانا. كما تفترض المحبّة أن يبادر الحبيب إلى نجدة حبيبه، إلى مواجهة ما أخفق حبيبه في مواجهته، إلى خوض معركته عنه، إلى إطلاقه من أسر الخطيئة والموت له. لهذا لمّا دخل الرَّبّ يسوع مجمع النّاصرة، في مستهلّ بشارته، قرأ من سِفر إشعياء النّبيّ هذه الكلمات: “روح الرَّبّ عليّ لأنّه مَسَحني لأُبشِّر المساكين. أرسلني لأشفي المُنكسري القلوب لأُنادي للمأسورين بالإطلاق وللعمي بالبصر وأُرسل المنسحقين في الحريّة وأكرز بسنة الرَّبّ المقبولة” (لوقا 4: 18 – 19). ثمّ عقّب بالقول: “اليوم تمّ هذا المكتوب في مسامعكم” (الآية 21). والرَّبّ يسوع فعل ذلك، مات لأجل الجميع “كي يعيش الأحياء فيما بعد لا لأنفسهم بل للّذي مات لأجلهم وقام” (2 كورنثوس 5: 15). المحبّة تستدعي المحبّة. “يا بنيّ أعطني قلبك” (أمثال 23: 26).
وإذا كان الرَّبّ الإله قد اتّخذ ما لنا فقد أعطانا أيضًا ما له. أعطانا نفسه. أعطانا روحه. أعطانا جسده. هو لنا بمثابة آدم الجديد. ولدنا من جديد بروحه القدّوس. ولدنا من فوق (يوحنّا 3). “ولدنا ثانية” (1 بطرس 1: 3). كلّ ما حقّقه الرَّبّ يسوع في جسده: الغلبة على الموت، الغلبة على الخطيئة، الغلبة على الشّرّير… كلّ هذا مدّه إلينا، بات لنا إذا ما نحن آمنا به واعتمدنا باسمه، إذا ما أضحى هو حياتنا ورجاءنا، إذا ما أسلمنا أنفسنا إليه بالمحبّة، إذا ما عشنا من أجله. هذا هو مضمون الإيمان الحيّ الخلاصيّ بالمسيح. “مَن آمن واعتمد خلص. ومَن لم يؤمن يُدَن” (مرقص 16: 16). والخلاص لا يعني الخلاص من الخطيئة والموت وحسب، ولا يعني العودة إلى الحالة الّتي كان عليها آدم قبل السّقوط فقط، بل، بالأحرى، اقتناء روح الرَّبّ، أن تكون حياته فينا، أن نعرفه، أي أن ندخل معه في شركة المحبّة، أن تكون محبّته فينا، أن نعاينه كما هو. “أيّها الأحبّاء الآن نحن أولاد الله ولم يُظهر بعد ماذا سنكون. ولكن نعلم أنّه إذا أُظهر نكون مثله لأنّنا سنراه كما هو” (1 يوحنّا 3: 2). الخليقة الجديدة، بهذا المعنى، الخليقة بآدم الجديد، أعظم بما لا يُقاس من الخليقة العتيقة بآدم الأوّل. وفي تدبير الله أنّ الخليقة الأولى كانت من أجل الثّانية. هذا تسمّيه كتُبنا ويسمّيه آباؤنا تأليهًا. “نحن ذرّية الله” (أعمال 17: 29). “شركاء الطّبيعة الإلهيّة” (2 بطرس 1: 4). القول المزموريّ: “أنا قلت إنّكم آلهة وأبناء الله العليّ أجمعون” (مزمور 81: 6) حسبه الأقدمون مجازيًا. أمّا وقد تجسّد ابن الله الوحيد وأعطانا أن نصير، بالإيمان به، أبناء للعليّ (يوحنّا 1: 12 – 13)، فلم يعد كذلك لأنّ الإنسان قد صار بالنّعمة، بالتّبنّي، بروح الرَّبّ، إلهًا حقًّا. وقد أوجز آباؤنا تدبير الله، في هذا الشّأن، بالقولة المشهورة: “صار الله إنسانًا ليصير الإنسان إلهًا” (القدّيس أثناسيوس الكبير وغيره).
يبقى على الإنسان، متى آمن بالرَّبّ يسوع، أن يحفظ الأمانة إلى آخر أيّام حياته على الأرض. “كن أمينًا إلى الموت فأعطيك إكليل الحياة” (رؤيا 2: 10). والأمانة تحتاج إلى تعب وجهاد. “بضيقات كثيرة ينبغي أن ندخل ملكوت السّموات” (أعمال 14: 22). كيف لا والجسد ضعيف! الله لم يلغ ضعف النّاس بل سكن فيه. السّقوط دائمًا وارد. المهمّ متى سقطنا أن ننهض من جديد. هذا العزم على النّهوض من جديد، على متابعة السّير من جديد، على طلب وجه السّيّد من جديد، هو ما نسمّيه التّوبة. المهمّ ألّا نيأس، أن يكون لنا رجاء، أن نثبت على الأمانة ومَن “يثبت إلى المنتهى فهذا يخلص” (متّى 10: 22). كلّ ما نمرّ به، في نهاية المَطاف، ينفعنا إذا كنّا نحبّ الله ونلتمس إرادته. كلّ ما يأتي علينا من ضيقات ومشقّات يعزّز فينا تواضع القلب إذا ما وضعنا رجاءنا في الله، وما بغير التّواضع نماثل الله ونستوعب عطيّته الّتي لا يعبّر عنها. “تعلّموا منّي فإنّي وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم” (متّى 11: 29). لقد كان التّواضع طريق ابن الله الوحيد إلينا بالتّجسّد لكيما يكون التّواضع طريق المؤمنين إليه بالقداسة. التّواضع طريق الكاملين.