في هذا اليوم تُقيم الكنيسة المُقدَّسَة تَذكار:
*عيد بشارة سيّدتنا والدة الإله الدّائمة البتوليّة مريم *الشّهيدات بيلاجيا وثيودوسيا وذولا *القدّيس الجلاّد المهتدي *القدّيس البارّ سينوفيوس العجائبيّ *أبونا الجليل تيخن الرّوسيّ *القدّيس البارّ طمون الأنطاكيّ الحبيس *القدّيس البارّ برثانيوس الكييفيّ *القدّيس الصّربيّ يوستينوس بوبوفيتش.
* * *
✤ عيد بشارة سيّدتنا والدة الإله الدّائمة البتوليّة مريم ✤
يستند عيد البشارة، أساسًا، إلى النّص الكتابيّ الوارد في الإصحاح الأوّل من إنجيل لوقا، الآيات 26 إلى 38. دونك ما جاء في تلك الآيات:
“في الشّهر السّادس [بعد حبل أليصابات بالسّابق المجيد] أُرسل جبرائيل الملاك من الله إلى مدينة من الجليل اسمها ناصرة إلى عذراء مخطوبة لرجل من بيت داود اسمه يوسف واسم العذراء مريم. فدخل إليها الملاك وقال: سلام لكِ أيّتها المُنعم عليها، الرّبّ معك، مباركة أنت في النّساء. فلمّا رأته اضطربت من كلامه وفكّرت ما عسى أن تكون هذه التّحيّة. فقال لها الملاك لا تخافي يا مريم لأنّك قد وجدت نعمة عند الله. وها أنت ستحبلين وتلدين ابنًا وتسمّينه يسوع. هذا يكون عظيمًا وابن العليّ يُدعى ويُعطيه الرّبّ الإله كرسيَّ داود أبيه ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه نهاية. فقالت مريم للملاك كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلًا. فأجاب الملاك وقال لها: الرّوح القدس يحلّ عليك وقوّة العليّ تظلّلك فلذلك أيضًا القدّوس المولود منك يُدعى ابن الله. وهوذا أليصابات نسيبتك هي أيضًا حبلى بابن في شيخوختها وهذا هو الشّهر السّادس لتلك المدعوّة عاقرًا لأنّه ليس شيء غير ممكن لدى الله. فقالت مريم هوذا أنا أمة الرَّبّ. ليكن لي كقولك. فمضى من عندها الملاك”.
هذا هو، إذًا، النّص المُنبسط في أساس عيد البشارة. لماذا ارتؤي أن يكون العيد في الخامس والعشرين من آذار؟ ليس واضحًا لماذا ولكن ثمّة تعليلًا يُعطى لعلّه مُفيد ذكره. ففي النّصّ الإنجيليّ إنّ البشارة حدثت بعد ستّة أشهر من الحبل بالسّابق. أمّا الحبل بالسّابق فاعتبر أنّه جرى خلال شهر أيلول (23 أيلول في سنكساراتنا). في ذلك الوقت ظُنّ أنّ زخريّا دخل الهيكل يوم الكفّارة. فعلى هذه القناعة عُدّت البشارة في شهر آذار، بعد ستّة أشهر من ذلك، فيما حُسب عيد الميلاد بعد تسعة أشهر من عيد البشارة، أي بعد الزمن اللّازم بشريًا، للولادة.
هذا من ناحية. من ناحية أخرى ثمّة اعتقادات قديمة ربّما أثّرت في أن يُعيَّن الخامس والعشرون من آذار موعدًا للاحتفال بالذّكرى المَجيدة، أو لعلّ تعيين البشارة في هذا اليوم أولد هذه الاعتقادات. فلقد ظُنّ أنّ العالم خلقه الله في شهر آذار وأنّه في الخامس والعشرين منه خدعت الحيّة حوّاء وطُردت وآدم من الفردوس. هذا طبعًا في موازاة خلق العالم من جديد بكلمة الله المتجسّد بدءًا من يوم البشارة وكذلك شفاء الطّبيعة البشرية بطاعة مريم واستعادة الاحشاء الفردوسية بسكنى الأقنوم الثّاني للثالوث القدّوس في بطن مريم البتول. كذلك سرت قديمًا فكرة مؤدّاها أنّه في شهر آذار جرى خروج الشّعب العبريّ من أرض مصر وفي الخامس والعشرين منه قام الرّبّ يسوع من بين الأموات. وقيل إنّ القيامة العامّة والدّينونة الأخيرة سوف تحدثان في هذا اليوم أيضًا. هذه الفكرة، فكرة التّقابل بين السّقوط والخلاص، ذاعت بين الآباء وهي كذلك في التّراث بعامّة. دونك ما ورد، على سبيل المثال، في مؤلَّف للقدّيس إيريناوس اللّيّوني (130 – 200 م) ضد الهرطقات:
“كما حوّاء أغواها حديث ملاك حتّى انتزعها من الله وجعلها تتعدّى الوصيّة، كذلك نُقلت البشارة إلى مريم بحديث ملاك حتّى حملت الإله لمّا أطاعت كلمته. وكما أُغريت تلك لتعصى الله أُقنعت هذه بطاعته لكي تصير العذراء مريم محامية عن العذراء حوّاء. كذلك كما أُخضع الجنس البشريّ للموت بعذراء تحرّر من الموت بعذراء. وهكذا قُوِّم عصيان عذراء بطاعة عذراء أيضًا”.
إلى ذلك نضيف أنّ عيد البشارة كان معروفًا في كنيسة المسيح أقلّه منذ القرن الخامس للميلاد. الاحتفال به ذكره البابا جيلاسيوس الأوّل سنة 492. تعيين الخامس والعشرين من آذار موعدًا للذّكرى ربّما أمكن ردّه إلى القرن السّابع. مجمع توليدو، في الغرب، ذكره سنة 656 وكذلك مجمع تروللو سنة 692. موقع عيد البشارة في الكنيسة وَضُح، يومذاك، لمّا أورد مجمع تروللو أنّ القدّاس السّابق تقديسه يقام في كلّ أيّام الصّوم ما عدا السّبوت والآحاد وعيد البشارة.
بالنّسبة لمعنى العيد تمثِّل الذّكرى بداية تحقيق التّدبير الخلاصيّ للبشريّة. كلّ ما سبق أن وعد به الرّبّ الإله ودفع البشريّة في اتّجاهه عبر التّاريخ وعبر الشّريعة والأنبياء يأتي، في عيد البشارة، إلى أوّل نجازه. الكلّ انسكب في هذا الحدث الفذّ كالشّكل المخروطي يضيق تدريجًا ليصبّ في ثغرة واحدة، والثّغرة إلى الملكوت كانت والدة الإله، العذراء مريم. من هنا هتاف الكنيسة في هذا اليوم بالنّشيد التّالي: “اليوم رأس خلاصنا وظهور السّرّ الّذي منذ الدّهور فإن ابن الله يصير ابن البتول وجبرائيل بالنّعمة يبشّر. لذلك نحن معه فلنهتف نحو والدة الإله: إفرحي أيّتها الممتلئة نعمة الرّبّ معك” (طروباريّة العيد). خدمة المَديح الّتي كانت أساسًا خدمة تقام بمناسبة عيد البشارة تبيّن بالتّفصيل بعض الصّور الواردة في العهد القديم بمثابة إشارات وتماثيل لمريم والدة الإله. هي إيّاها بلاط الملك الوحيد والعرش النّاريّ للضّابط الكلّ والبخور الزّكيّ الرّائحة والسّلّم المصعدة الكلّ بالنّعمة من الأرض إلى السّماء وهي الحصن والسّور والثّبات والملجأ الشّريف للجميع. وهي أيضًا المركبة النّاريّة للكلمة والفردوس الحاوي في وسطه عود الحياة والجبل غير المقتطّع منه والصّدفة الّتي أبرزت اللّؤلؤة الإلهيّة وكرز الأنبياء والجزّة المندّاة الّتي سبق جدعون فعاينها قديمًا والعلّيقة غير المحترقة والسّحابة الكلّية الضّياء والعصا السّرّية الّتي أفرعت الزهرة الّتي لا يعتريها ذبول والدُّرج الّذي فيه رُقِّمت الكلمة بإصبع الآب. وهي كذلك مَن أدرك موسى في العليقة سرّ مولدها العظيم ومَن سبق الفتية الثّلاثة فرسموا ذلك بأجلى بيان بعدم احتراقهم. كلّ تشوّف البشرية كان إلى البشارة وإلى مريم.
إلى ذلك تتضمّن خدمة الغروب والسّحر في عيد البشارة قراءة الكنيسة للحدث الجلل وموقفها منه ومن والدة الإله بصورة أخصّ. فقراءات صلاة الغروب مثلًا أُوردت كما لتشير إلى مريم باعتبارها السّلّم المنتصبة على الأرض ورأسها واصل إلى السّماء والرّبّ مستند عليها (تك 28). كذلك قراءة حزقيال النّبي، من الإصحاحين 43 و54 تبرز الباب الّذي يكون مغلقًا لا يفتح ولا يعبر أحد منه لأنّ الرّبّ إله إسرائيل سيدخل منه ويكون مغلقًا. هذا الباب هو أيضًا صورة والدة الإله. والقراءة الثّالثة من أمثال سليمان الحكيم (الإصحاح 9) تعطي رسمًا آخر لوالدة الإله باعتبارها البيت أو الهيكل المكتمل ذا الأعمدة السّبعة.
هذا والخدمة كلّها تنشد الفرح بالحدث وبوالدة الإله. تذيع الدّهش وتنشر البشرى وتنقل السّرّ الفائق على كلّ عقل وترفع الدّعاء وتمدّ الشّكران والتّهليل.
آبائيًا، آباؤنا استرسلوا في الكلام على مضامين الحدث والمكانة الّتي شغلتها وتشغلها والدة الإله في تدبير الخلاص. أوّل ذلك تأكيد العديد منهم أنّ والدة الإله، العذراء مريم، هي زهرة البشريّة. بكلام القدّيس كيرلّلس الإسكندريّ “الرّوح القدس يجسّد قداسة الله والعذراء تجسّد قداسة الإنسان”. لذا لا يحسبنّ أحد أنّ حظوة مريم بنعمة الله نالتها باطلًا والكرامة المعطاة لها فارغة، فإنّ العذراء ما كانت لتجد نعمة لدى الله إلّا لأنها، بحسب تعبير القدّيس فوتيوس الكبير، “جعلت نفسها مستأهلة لكلّ اعتبار أمام خالقها فإنّها تزيّنت بحسن النّقاوة وأعدّت ذاتها مقامًا طيّبًا لمن ثبّت السّماء بكلمته. كذلك وجدت مريم نعمة عند الله لا فقط لأنّها حفظت عذريتها بل أيضًا لأنّ رغباتها كانت بلا عيب”.
انطلاقًا من كون مريم زهرة البشريّة يعرض نقولا كاباسيلاس، من ناحيته، لوالدة الإله باعتبارها صورة الجمال المحض. يقول أنّ الله جمع فيها الجمالات المبعثرة في سائر الكائنات المنظورة وغير المنظورة. جعل فيها مزيجًا لكلّ الكمالات الإلهيّة والملائكيّة والإنسانيّة فأضحت جمالًا رفيعًا مرتفعًا من الأرض إلى السّماء، مُتجاوزًا السّماء أحيانًا. كذلك يؤكّد كباسيلاس إنّ التّجسّد ليس عمل الله وروحه القدّوس وحسب بل هو أيضًا عمل مريم.
فالفرح بمريم ناشئ عن تدبير الله فيها وعن مساهمتها في تمام القصد الإلهيّ أيضًا. بكلام القدّيس فوتيوس هكذا نغبط مريم “إفرحي لأنّنا نرى شمس البِرّ تُشرق منك لتنير النّظام السّماوي والأرض معًا مشعشعة الكون ببهاء النّعمة الإلهيّة… إفرحي لأن فيك، وأنت عذراء، ذاك الّذي جبل من الأرض العذراء أوّلًا يُعيد اليوم جبل آدم من دمك العذري. إفرحي لأنّك إذ نسجت الحلّة البشريّة لكلمة الله سترت عورة المخلوق الأوّل”. من ذا تمسّك الكنيسة بتعبير “والدة الإله”. وحدها هذه العبارة يكمن فيها “كلّ سرّ تدبير الخلاص” (القدّيس يوحنّا الدّمشقي).
إزاء حلول ملء الزّمن في العذراء مريم لا يسعنا إلّا أن نذيع مسبِّحين الإله العليّ بذاك النّشيد:
“اليوم ينكشف السّرّ الّذي قبل الدّهور وابن الله يصير ابن البشر لكي أنّه باتّخاذه الأدنى يهبني الأفضل. لقد خاب آدم قديمًا فلم يصر إلهًا كما كان قد اشتهى فصار الإله إنسانًا لكي يصير آدم إلهًا. فلتبتهج إذًا الخليقة وتتباشر الطّبيعة لأنّ رئيس الملائكة انتصب لدى العذراء باحتشام وقدّم لها الفرح عوض الحزن. فيا إلهنا الّذي بتحنّن مراحمك تأنّست المجد لك” (القطعة على ذكصا كانين الإينوس).