في هذا اليوم تُقيم الكنيسة المُقدَّسَة تَذكار:
*القدّيسون الشّهداء سبسطيانوس ورفقته *القدّيس أفيوتوس المعترف *القدّيس البارّ فلورس، أسقف أميسوس *الشّهيدان فوقا وأرميلوس *الشّهيدان زكّا الشّماس وألفيوس القارئ *القدّيسة صوفيّا العجائبيّة *القدّيس البارّ ميخائيل السّينجلّوس المعترف *الشّهيد في الكهنة، مودستوس الأوّل، أسقف أورشليم *القدّيس البارّ سبسطيانوس الّذي من بوشكون *القدّيس البارّ سمعان الّذي من فركوتوريا.
* * *
✤ القدّيس البارّ سبسطيانوس الّذي من بوشكون ✤
كتبت أعمال استشهاد القدّيسين الشهداء سبسطيانوس ورفقته قبل نهاية القرن الرابع للميلاد، وثمة من يظنّ أن القديس أمبروسيوس الميلاني هو الذي كتبها.
كانت ولادة القديس سبسطيانوس في ناربون في فرنسا. والداه كانا من مدينة ميلانو الإيطالية. نشأ غيوراً للمسيح محبّاً للخدمة، يتمتّع بمواهب طبيعية جمّة. فلما بلغ الأشدّ انضوى تحت لواء الجندية، وقيل فعل ذلك لا رغبة في العسكرية أو الترقي بل في القربى من المسيحيين الذين كانوا عرضة للاضطهاد والتنكيل. وقد أمل في أن يعين من يقدر على إعانتهم وأن يشدّد من تخور عزائمهم أمام آلات التعذيب والموت حتى يثبتوا في الأمانة للرب يسوع إلى المنتهى. هذه كانت بمثابة دعوة من الله إليه. وكان سبسطيانوس مسيحياً متخفياً أوّل أمره. لذلك ترقّى بسرعة في سلسلة الرتب العسكرية حتى أضحى ضابطاً كبيراً في الحرس الإمبراطوري وأحد المقرّبين من الإمبراطور الروماني ذيوكليسيانوس.
وحدث، في ذلك الزمان، أن أخوين شابين من المسيحيين، مرقص ومرقلّينوس، وقعا في قبضة الجنود وتعرّضا لكل أنواع الضغط والإرهاب والتعذيب فقاوما ببطولة وصمدا، فحكم عليهما الوالي كروماتيوس بالموت. وفيما كانا ينتظران ساعة الصفر بين يوم و آخر تعرّضا، وعلى مدى شهر كامل، لمعاناة نفسية قاسية. زوجتاهما والأقارب أتوا إليهما بدموع يرجونهما أن يعودا عن قرارهما. وتكرّرت الزيارة مرّات حتى تسلّل التردّد إلى نفسيهما وباتا على قاب قوسين وأدنى من الإذعان لمشيئة الوالي والكفر بالمسيح. في ذلك الوقت بالذات أدركهما سبسطيانوس، بعون الله، وشجّعهما وقوّاهما بكلام إلهي فتشدّدا. الأهل والأقارب رجوهما أن يرأفا بنفسيهما. أبوهما أشار إلى شيبته وعدّد أدواءه وسألهما ألا يميتاه همّاً. أمهما توسّلت إليهما بلبن ثدييها الذي رضعاه. زوجتاهما وأولادهما صنعوا جلبة ومناحة تفتت الأكباد. أما سبسطيانوس فأبطل مفعول هذه الألغام العاطفية بروح القوة والثبات. من أقواله لهما: “يا جنديين باسلين للمسيح، أتريدان أن تخسرا الإكليل الأبدي من أجل إطراء الأقارب لكما؟! أتريدان أن تنزلا راية الظفر بسبب دموع النسوة؟! عابرة هي هذه الحياة الدنيا ومن دون أمانة ولا قيمة لأنه لا قوة لها حتى على خلاص الذين يرغبون فيها. ماذا تساوي هذه الحياة ولو عشنا فيها مائة عام؟! حين ينبلج اليوم الأخير ألا تبدو السنوات الغابرة والمباهج الأرضية كأنها لم تكن؟! إنها لحماقة في الحقيقة أن نخشى خسران هذه الحياة السريعة الزوال، فيما نقبل على تلك الحياة الأبدية المشبعة بالبهجة والمغانم والفرح. أذكرا كلام السيّد: “أعداء الإنسان أهل بيته” (متى36:10). ليسوا أصدقاء لكما أولئك الذين يعملون على صرفكما عن الله”. بمثل هذه الأقوال كان سبسطيانوس يعود إلى الشاهدين يوماً بعد يوم مثبِّتاً أقدامهما حتى نجح أخيراً في سعيه فأنجز الأخوان شهادتهما بفرح الرب. وقد ذُكر أن القديس سبسطيانوس هدى أيضاً والدي مرقص ومرقلّيانوس، المدعوين ترانكيلينوس ومرقيّة، إلى المسيح بعدما شفى ترانكيلينوس من داء المفاصل. كما رسم إشارة الصليب على فم امرأة اسمها زويي كانت قد فقدت النطق ست سنوات فاهتدت هي وزوجها نيقوستراتوس، حافظ السجن، إضافة إلى كلوديوس السجّان الذي أبرأ القديس ولديه وستة عشر سجيناً. هؤلاء جميعاً اجتمعوا في بيت نيقوستراتوس حيث وافاهم كاهن يدعى بوليكربوس فبشّرهم بالكلمة وعمدهم. وذكر أيضاً أن كروماتيوس، الوالي الشرّير، سمع من ترانكيلينوس كلاماً قوياً حرّك قلبه فأرسل في طلب سبسطيانوس فهداه. وكان كروماتيوس مريضاً يكاد داء المفاصل أن يشلّه فصلّى عليه القدّيس وختمه بإشارة الصليب فبرئ من دائه. على الأثر آمن تيبوريطوس، ابن كروماتيوس، واعتمد ووالده. أسقف رومية يومذاك كان غايوس (283-296م).
في تلك الأثناء حصلت اضطرابات سياسية حلّ بسببها ذيوكليسيانوس قيصراً محل كارينوس الذي هزمه ذيوكليسيانوس وقتله في إلّيريا سنة 285م. في عهده أضحى القديس سبسطيانوس مقرّباً إذ لم تكن مسيحية هذا الأخير قد انكشفت بعد. ويظهر أن حملة الاضطهاد على المسيحيين ما لبثت أن استعرت من جديد، فانقسم المهتدون الجدد فريقين، فريقاً خرج من المدينة إلى الريف بقيادة بوليكربوس الكاهن وكروماتيوس الوالي، وفريقاً بقيادة سبسطيانوس بقي في المدينة ليشهد للمسيح بالموت. واللافت، على ما ورد في أخبار الجماعة، أن أفرادها تهافتوا على البقاء في المدينة لا على الخروج منها لأن روح الشهادة فيها كانت على أحدّ ما تكون. وحده تيبورطيوس، من بين المجموعة التي غادرت إلى الريف، نجح في إقناع الأسقف غايوس بإعطائه البركة للبقاء في المدينة. الأسقف غايوس هو الذي فصل يومها في أمر من يبقى ومن يرحل.
من ذلك الوقت، أخذت المجموعة التي استقرت في المدينة تعدّ نفسها لموت الشهادة بالأصوام والصلوات، وبات أفرادها ينتظرون توقيفهم بين يوم و آخر.
وكانت زويي أولى من عانى التعذيب، إذ أُلقي القبض عليها فيما كانت تصلّي عند ضريح بطرس الرسول. علّقها الجلادون برجليها فوق النار فقضت اختناقاً وسط الدخان، ثم ألقوا جسدها في نهر التيبر.
وبعد زويي قضى ترانكيلينوس الذي شعر بالخجل أن زويي، وهي امرأة، تجرأت دونه على الخروج للصلاة فوق ضريح بطرس الرسول، وهو جالس في بيته، فخرج هو أيضاً للصلاة عند ضريح بولس الرسول فانقضّت عليه زمرة من الوثنيين ورجمته حتى الموت.
ثم جرى توقيف نيقوستراتوس وكلوديوس وكستوريوس وفيكتورينوس فعُذِبوا ثلاثاً ثم أُلقوا في البحر.
ثم تمَّ القبض على تيبوريطوس، إثر وشاية من أخ مزيّف ادّعى المسيحية. وكذلك أوقف كاستولوس، وكان موظّفاً في القصر، بعد وشاية من الأخ المزيّف عينه، فجعله الجلادون على مِخلعة ثلاث دفعات، والمخلعة دولاب يمدّد عليه المحكوم ويُمط جسده مطّاً، ثم دفنوه حيّاً. فيما سُمّر مرقص ومرقلّينوس إلى عمود وأبقي عليهما معذّبين أربعاً وعشرين ساعة ثم قضى عليهما الجند برمي السهام.
في كل هذه الأحداث المتلاحقة كان لسبسطيانوس دور القائد الذي ينفث البسالة في قلوب جنود المسيح ويدفعهم إلى معركة المعارك، إلى مواجهة الشر الكوني الكامن في النفوس.
أخيراً جاء دور سبسطيانوس فأوقف أمام ذيوكليسيانوس الذي قرّعه واتهمه بالجحود للثقة التي كان قد أولاه إيّاها، ثم حكم عليه بالموت وسلّمه إلى فريق من النبّالة من موريتانيا. هؤلاء أمطّروه بسهامهم حتى لم يعد موضع في جسده إلا تغطّى بالسهام والدم. وجاءت إيريني، أرملة كاستولوس الشهيد، لتواريه الثرى فألفته حيّاً فأخذته إلى واهتمت بأمره حتى تعافى. فلما بات بإمكانه الخروج من البيت توجّه إلى مكان اعتاد الإمبراطور أن يمرّ به وانتظره هناك. فلما مرّ الإمبراطور أظهر سبسطيانوس نفسه وقرّعه على ظلاماته بحق المسيحيين، فأصيب الإمبراطور بالذهول ولم يعِ ما إذا كان في الحلم أو في اليقظة. فلما عاد إلى نفسه أمر به جنده فقبضوا عليه وأمطروه ضرباّ بالعصي حتى قضى ثم ألقوه في حوض المجارير. وقد تراءى القديس لامرأة تقية اسمها لوشينا وطلب منها أن تخرج جسده من هناك ففعلت ووارته الثرى في الدياميس عند مدخل مقبرة كاليكستوس. وقد بنى البابا داماسوس (366-384م)، فيما بعد، كنيسة فوق رفاته هي إحدى كنائس روما السبعة القديمة.
يعتبر القديس سبسطيانوس من أكثر الشهداء إكراماً في الغرب، في مستوى القديس جاورجيوس أو ديمتريوس عندنا. رفاته اختلطت مع الأيام، وبفعل الظروف التاريخية، برفات القديسين غريغوريوس الكبير، بابا رومية، وميدار. غير أن جمجمته استقرّت بعد العام 1578م في اللوكسمبورغ. والتاريخ يشهد لعجائب جمة جرت برفاته. فقد ورد أن رومية نجت من الطاعون، سنة 680م، بفضل شفاعته. كما ورد أن ميلانو ولشبونة خبرتا شفاعته الأكيدة لما حلّت بهما كوارث شتى عبر القرن السادس عشر.