في هذا اليوم تُقيم الكنيسة المُقدَّسَة تَذكار:
*القدّيس البارّ بولس الصّعيديّ النّاسك الأوّل *القدّيس البارّ يوحنّا الكّوخيّ *الشّهيد بنسوفيوس الإسكندريّ ورفقته *القدّيس البارّ قوزما المنشىء *الرّهبان السّتّة المجهولة أسماؤهم *القدّيس البارّ غفرائيل مؤسس دير لسنوف البلغاريّ *القدّيس البارّ برخوروس مؤسس دير فرانسكي البلغاريّ.
* * *
✤ القدّيس البارّ بولس الصّعيديّ النّاسك الأوّل ✤
القديس البار بولس الصعيدي هو أول ناسك شهد له التاريخ. لا بد أن يكون آخرون قد سبقوه إلى الصحراء لكننا لا نعرف عنهم شيئاً. أما بولس فقد شهد له القديس أنطونيوس الكبير وأرخ له القديس أيرونيموس (+420م) نقلاً، كما ذكر، عن تلميذي القديس أنطونيوس، أمانس ومكاريوس. وقد أتى على ذكره كل من القديس أثناسيوس الكبير و القديس يوحنا كاسيانوس والقديس فولجنتيوس وبولينوس النولي وسواهم.
ولد القديس بولس هذا في صعيد مصر أيام الإمبراطور الروماني الكسندروس ساويروس. قرابة العام 228م، كان أبواه غنيين، فثقفاه باللسانين اليوناني والقبطي وربياه تربية مسيحية صالحة لأنهما كانا مسيحيين تقيين.
فقد بولس والديه وهو في سن الخامسة عشرة وكانت له أخت وحيدة تزوجت. فلما ثارت على كنيسة المسيح موجة اضطهاد حركها داكيوس وفاليريانوس، وكانت وطأتها شديدة. لاسيما على مصر والصعيد، اختبأ بولس في بيت وسط الحقول. ولكن بلغه أن صهره عزم على إبلاغ الجنود الرومانيين عنه آملاً في وضع اليد على ميراثه، فقام وهرب إلى مكان أبعد. باحثاً بين الوحوش عما افتقده من سلام بين الناس.
ويبدو ان بولس لم يبتعد كثيراً، أول أمره، ربما لأنه كان يأمل بالعودة القريبة إلى دياره. لكنه وجد نفسه أليف الصحراء فطاب له التوغل فيها. وقد استمر كذلك إلى أن بلغ جبلاً استبان فيه ما يشبه الكهف. فشق طريقه عبر جرائد نخلة كانت على تشابك وكثافة سدا المكان. فإذا به أمام صحن واسع، وبقرب النخلة مياه رقراقة تجري قليلاً ثم تغور في الأرض. وقد بدا أن الموضع سبقت السكنى فيه. أثار بيوت صغيرة كانت في الجوار، وأزاميل وسندانات ومطارق أوحت بأن صناعة ما كانت هناك. بعض الدارسين قال أن قوماً كانوا يصكون فيه عملة مزيفة زمن مرقص أنطونيوس وكليوباترا.
هذه التسهيلات المعيشية البسيطة جعلت بولس ينظر إلى المكان وكأن العناية الإلهية هيأته ليكون له منزلاً. فتخلى عن العالميات وأقام في الكهف بقية أيام حياته. لقد وفر له الموضع الطعام والشراب والمسكن. حتى ثوبه صنعه من جرائد النخل. ما خلا ذلك انصرف بولس بالكلية إلى الصلاة والتسبيح.
لا يعرف أحد كيف عاش ولا التجارب التي تعرض لها. فقط نعرف أن حياته كانت أدنى إلى سيرة الملائكة منها إلى سيرة البشر وأنه بقي كذلك إلى سن الثالثة عشرة بعد المائة حين كشف الله أمره للقديس أنطونيوس الكبير.
كان القديس أنطونيوس الكبير قد بلغ يومذاك التسعين. ويبدو أن فكراً خطر بباله أنه لم يقم أحد قبله في الصحراء سار في الحياة الكاملة نظيره. فجاءه، في رؤى الليل، من قال له أن في فكره وهماً لأن ثمة في الصحراء من هو خير منه وأعرف وأن عليه أن يسرع الخطى إليه. فلما انبلج الفجر، قام فأخذ عصاه وسار غير عابئ بثقل الأيام عليه والنسك. همه كان أن يتبع الصوت الإلهي إلى حيث يهديه. فلما كان الظهر احتدت الشمس، وأنطونيوس مجد في سعيه، فالتقى وحشاً نصفه إنسان ونصفه حصان، فحسبه شيطاناً. وإذ رسم على نفسه إشارة الصليب سأله باسم الله أن يدله على مكان خادم الله فأخرج الوحش أصواتاً غير مفهومة. ثم رفع ذراعيه كما ليشير إلى الموضع وولى الأدبار. أي نوع من الحيوانات كان هذا الوحش؟ في ظن القديس إيرونيموس، أنه طيف شيطان جاء يرهب القديس أو أحد الحيوانات الجائلة في أفريقيا، خصوصاً في صعيد مصر. بليني الصغير أكد أنه عاين بأم العين في رومية حيواناً محنطاً من هذا النوع.
أنى يكن الأمر، فقد تابع القديس أنطونيوس سيره. فالتقى من جديد، في واد محجر، وحشاً شكله ما بين الإنسان والماعز يدعونه “ستير” أكد القديس أيرونيموس نقل واحد من نوعه من الإسكندرية إلى أنطاكية مملحاً بعد موته ليكون منظراً لقسطنطين الملك.
تبع القديس أنطونيوس أثر خطى الحيوانات يومين كاملين. أخيراً بلغ جبلاً رأى ذئبة تنحدر عليه مضنكة من العطش، ثم تتوارى في موضع ثم تبتعد. اقترب القديس من المكان فإذا به أمام كهف القديس بولس. تطلع إلى داخل الكهف فبدا له مظلماً، فتلمس طريقه تلمساً فعاين نوراً ضئيلاً يلتمع من بعيد فتيقن أن هذا هو مسكن الرجل الذي أعلن له الله عنه.
أسرع أنطونيوس الخطى جدلاً فاصطدمت رجلاه ببعض الحجارة فترددت في المكان أصوات منكرة، فلما فطن لها بولس من الداخل قام فأقفل الباب. كانت هذه أول مرة اخترق فيها أحد هدوءه منذ أن وصل إلى المكان. وإذ رأى القديس أنطونيوس أن الباب قد رد في وجهه، ارتمى أرضاً، عند العتبة، ورجا بولس ألا يحرمه من التعزية التي جاء يلتمسها من بعيد بمشقة كبيرة. مؤكداً أنه لن يغادر الموضع البتة قبل أن يحظى ببركة القديس أو يموت عند الباب. فما كان من بولس سوى أن فتح له وطالعه بابتسامة رقيقة. وإذ تعانقا سمى كل منهما الآخر باسمه.
ثم رفع الاثنان صلاة الشكر إلى الرب الإله وجلسا يتحدثان، قال بولس: “ها إن الذي بحثت عنه مضنى بأتعاب جزيلة وقد أعيته الشيخوخة وغطاه الشيب. هوذا الإنسان الذي أشرف على النهاية وهو مستعد لأن يستحيل رماداً. ولكن، لأن المحبة تحتمل كل شيء، قل لي، رجاء، كيف حال العالم؟ هل هناك مبان جديدة؟ من هو الذي يسود اليوم؟ أما زال هناك قوم عميان لدرجة أنهم يعبدون الشياطين؟ فأجاب أنطونيوس على كل أسئلته. وفيما هما يتبادلان الحديث إذا بغراب يأتيهما برغيف خبز ويلقيه أمامهما، فشكر الرجلان الله على عظم رحمته. قال بولس: “أترى كم صالح هو الله الذي يعطينا طعامنا في حينه؟ لقد صار لي في هذا الموضع ستون سنة والله يرسل إلي نصف خبزة كل يوم. واليوم، وقد أتيتني زائراً، ضاعف الحصة لأنه يهتم بالذين يخدمونه.
ثم قام الاثنان للأكل، فبعدما صليا انتظرا كل منهما الآخر أن يكسر له الخبز ويعطيه. بولس احتراماً لحق أنطونيوس كضيف عليه وأنطونيوس توقيراً لشيبة بطرس. فلما أصر الاثنان على نحو طفولي بديع اتفقا على أن يمسكا الرغيف معاً ويكسراه، كلاً من ناحيته.
أمضى الرجلان ليلهما في الصلاة. في اليوم التالي، رغبا في متابعة الكلام، فقال بولس لأنطونيوس: “من زمان، يا أخي، وأنا عارف بإقامتك في هذه البرية. من زمان كشف لي الله أنك تبذل نفسك في خدمته. ها إن ساعتي الأخيرة قد دنت، ولطالما اشتاقت نفسي إلى الاتحاد بالرب يسوع فإنه لم يبق لي سوى أن أتلقى من يده إكليل البر. وقد أرسلك المعلم الإلهي لتدفن جسدي، أو بكلام أوفق، لترد التراب إلى التراب”.
فلما سمع أنطونيوس بولس يتكلم على قرب مفارقته أجهش في البكاء ورجاه ألا يتركه وحيداً أو أن يسأل الله في أن يتبعه. فأجاب بولس: “ليس لك أن ترغب بما فيه خيرك، في الوقت الحاضر. لاشك أنه سرور لك أن تنعتق من ثقل هذا الجسد المائت، لكن إخوتك بحاجة إلى مثالك. لذلك أسألك، إن كنت لا أثقل عليك كثيراً، أن تذهب وتأتيني بالرداء الذي سبق فأعطاك إياه أثناسيوس الأسقف لتلتقي به وتدفنني”. طلب منه بولس ذلك لا لأنه كان يهتم كثيراً بأمر دفنه، ملفوفاً في رداء أو غير ملفوف. بل لأنه شاء أن يبعد أنطونيوس عنه بضعة أيام ليوفر عليه ألم معاينته يموت، علاوة على أنه كان راغباً في إعلان أنه يموت على شركة والقديس أثناسيوس، المدافع الصلب عن الإيمان الأرثوذكسي في وجه الهرطقة الآريوسية.
دهش أنطونيوس لنعمة الله الساكنة في هذا الشيخ الجليل وأكبر من كشف له أمر الرداء. وبعدما ذرف الدمع وقبل عيني الشيخ ويديه عاد إلى ديره.
سار أنطونيوس في طريق العودة بهمة. الشوق إلى بولس جدد كالنسر شبابه. فلما بلغ ديره فرح به تلاميذه. وبدل أن يخبرهم عن بولس أخذ يضرب على صدره ويقول: “ويل لي أنا الخاطئ الشقي الذي يحمل اسم ناسك عن غير حق! لقد رأيت إيليا، رأيت يوحنا في البرية… رأيت بولس في الفردوس”. وإذ حرك الفضول في تلاميذه سألوه أن يفصح فأجابهم: “ثمة وقت للكلام ووقت للصمت! ومن دون أن يفكر في طعام يأخذه معه. قبض على الرداء وأسرع خارجاً. همه كان أن يدرك بولس قبل موته!
مشى أنطونيوس مقدار ثلاث ساعات. فجأة رأى بولس صاعداً إلى السماء في نور وضاء وسط الأرواح المغبوطة. فوقع على الأرض وغطى رأسه بالرمل وصاح: “آه يا بولس، لماذا تركتني؟ لماذا لا تسمح لي بتوديعك؟ أكان يجب أن أضيعك هكذا سريعاً بعدما التقيتك متأخراً؟
ثم قام وأسرع الخطى من جديد. فلما وصل إلى المغارة. وجد جسد القديس في حال الركوع فظن أنه ما زال حياً فركع بقربه وأخذ يصلي. وإذ انتبه إلى أن بولس لا يتنفس بصوت مسموع كما ألفاه في المرة الأولى، عرف أنه قد مات، فقام وألقى بنفسه على عنقه وقبله قبلة حزينة وبكى عليه طويلاً.
أخيراً قام أنطونيوس وسحب جسد بولس خارج المغارة ليدفنه وهو يردد التسابيح والمزامير. لكنه لما رغب في نبش حفرة يواري فيها الجسد لم يجد ما يستعين به فارتبك. وإذا بأسدين يظهران من عمق الصحراء ويتقدمان ليربضا عند جسد بولس ويداعبانه بذيليهما وهما يزأران وأنهما في حال النحيب عليه. ثم أنهما أخذا يفران الأرض بمخالبهما ويلقيان الرمل من هنا ومن هنا، إلى أن أحدثا حفرة تكفي لضم جسد بولس. فلما انتهيا من عملهما تقدما من انطونيوس مطأطئي الرأس ولعقا يديه ورجليه، فأدرك أنطونيوس أنهما يتوددان إليه ليسألاه البركة فباركهما على هذا النحو: “أيها السيد، يا من بغير مشيئته لا تسقط ورقة واحدة من الشجر على الأرض ولا يهلك أقل طيور السماء. أنت أعط هذين الأسدين ما تعرف أنه ضروري لهما”. فلما قال هذا أشار إلى الأسدين بالانصراف، فانصرفا. وقام هو إلى الجسد فجعله في الحفرة ورد عليه التراب وعاد إلى ديره. شيء واحد حمله معه من المكان، رداء بولس المصنوع من جريد النخيل، الذي أخذ، مذ ذاك، يلبسه في أعياد الفصح والعنصرة.