في هذا اليوم تُقيم الكنيسة المُقدَّسَة تَذكار:
*ختانة ربّنا وإلهنا ومخلّصنا يسوع المسيح بالجسد *القدّيس باسيليوس الكبير، رئيس أساقفة قيصريّة الكبّادوك *الشّهيد ثيودوتوس *القدّيس غريغوريوس أسقف نازيانزا *الشّهيد ألماخوس*القدّيس فولجنتيوس أسقف رُسب *القدّيس البارّ ثيودوسيوس، رئيس دير تريغليا في بيثينيا *القدّيس الجديد في الشّهداء بطرس البليوبونيزي.
* * *
✤ القدّيس باسيليوس الكبير، رئيس أساقفة قيصريّة الكبّادوك ✤
“يا أبانا باسيليوس، لقد حويت فضائل جميع القديسين. فأحرزت وداعة موسى وغيرة إيليا واعتراف بطرس وتكلم يوحنا في اللاهوت. ولم تزل بولس صارخاً: من يمرض ولا أمرض أنا. من يشكك ولا ألتهب أنا. فبما أنك ساكن معهم ابتهل في خلاص نفوسنا”. (قطعة الأبوستيخين الثانية، صلاة الغروب)
تراث قداسة
ولد القديس باسيليوس الكبير أواخر العام 329م أو أوائل 330م. العائلة التي احتضنته كانت مميزة بتراثها وسيرتها ومواهبها ومكانتها. عنوانها كان التقى والولاء للرب يسوع. ولها الحياة النسكية فخر واعتزاز. جده من جهة أمه شهيد للمسيح وجداه من جهة أبيه معترفان. صودرت ممتلكاتهما ولجأا إلى جبال سبسطيا الأربعين وكانت الأيائل تطعمها كما جاء على لسان القديس غريغوريوس اللاهوتي (الحديث 20). ورد ذكرهما كقديسين في بعض التقويمات في 14 كانون الثاني. أما قديسنا فأنشأته جدته مكرينا الكبرى على الفضيلة لما كان عندها في منزل ريفي في قيصرية الجديدة في البنطس. مكرينا الكبرى كانت أيضاً قديسة تتلمذت على يد القديس غريغوريوس الصانع العجائب (17 تشرين الثاني). وقد شهد هو نفسه لها، في غير مناسبة. أنه لم ينس طيلة حياته ما خلفته في نفسه مواعظ جدته ومثالها الطيب. كذلك كان والداه مميزين. والده باسيليوس الأكبر كان فذاً في علمه، لاسيما في البيان والخطابة، راقياً في روحه. القديس غريغوريوس اللاهوتي يصفه بـ “معلم الفضيلة في إقليم البنطس”. كانت له أملاك واسعة في ثلاثة أقاليم في آسيا الصغرى، وسرى اعتقاد بين الناس أنه صانع عجائب. أمه أماليا كانت ورعة صالحة جميلة بين النساء. وقد أنجب الزوجان عشرة أولاد، خمسة ذكور وخمس إناث. يعيد لهما في بعض التقويمات في 30 أيار. خمسة من أولادهما صاروا قديسين. فبالإضافة إلى قديسنا المعيد له اليوم، عندنا نكراتيوس و غريغوريوس أسقف نيصص و بطرس أسقف سبسطيا و مكرينا المدعوة الحكيمة. ويفيد القديس غريغوريوس اللاهوتي أن بقية أفراد الأسرة لم ينقصوا عن إخوتهم في سلامة الطوية والسيرة النقية ولو اختاروا الحياة الزوجية.
قيصريّة الكبادوك
كانت ولادة القديس باسيليوس في قيصرية الكبادوك. الكبادوك معناها “ذات المنظر المستدير”. وهي ناحية شاسعة من نواحي آسيا الصغرى. تحيط بها أرمينيا من الشرق وكيليكيا من الجنوب وغلاطية وليكاؤنية من الغرب والبنطس من الشمال. الكبادوك تسمية أطلقها الفرس. قبل ذلك عرف سكانها بـ “السوريين” أو “السوريين البيض”. طولها التقريبي حوالي 400 كلم. كانت تعتبر واحدة والبنطس. يصل بعض قممها إلى ما يزيد على الألف من الأمتار علواَ. فيها الكثير مما يشبه الأبراج الصخرية المسننة والبساتين. بردها في الشتاء قارص وحرّها في الصيف لاهب وربيعها طوفان وبرد ورياح شديدة. مشهورة بأحصنتها والتندر الساخر لشعبها. يتسم شعبها بالجد والصرامة والرقة في آن. كان يحلو لجيرانها أن يخبروا بشأنها أن أفعى لسعت كبادوكياً فماتت الأفعى. وكانت لسكانها لكنة فظة قاسية على آذان الهيلينيين.
أما قيصرية فكانت العاصمة المدنية والكنسية لكبادوكيا. سكانها، في ذلك الزمان، كانوا في حدود النصف مليون. وهي مدينة مهمة فسيحة رخامية الأعمدة. غنية بقصورها. تزدان بالجنائن المعلقة. وتقع على الطريق الروماني الواصل أفسس بالمشرق. عند سفح جبل أرغايوس، وسينوبي ببابل والفرات. تجارتها واسعة مزدهرة. تتفاعل فيها تأثيرات حضارية شتى، فارسية وسورية وهيلينية.
في هذا المناخ الطبيعي والإنساني والحضاري ترعرع قديسنا.
نشأة القديس ودراسته
كان القديس باسيليوس معتل الصحة منذ طفوليته. وقد ذكر أخوه، القديس غريغوريوس النيصصي، أن مرضاً خطيراً أصابه وهو صغير كاد أن يقضي عليه لولا صلوات أمه وتضرعاتها. طفولته الأولى كانت في حضن جدته. كما ذكرنا، ثم اهتمت به أخته الكبرى مكرينا، رباه والداه على محبة الكلمةوجمال التعبير وحسن الأداء. فلما رقد أبوه تردد على دور العلم في قيصرية لبعض الوقت ثم انتقل إلى القسطنطينية وقيل إلى أنطاكية أيضاً. ويبدو أن احد معلميه كان ليبانيوس المعروف الذي شهد أنه كان يشعر بالغبطة كلما سمعه يتكلم. سنة 351م طلب العلم في أثينا حيث أقام خمس سنوات يدرس على كبار معلمي زمانه التاريخ والشعر والهندسة وعلم الفلك والمنطق والبلاغة والبيان والفلسفة والطبابة العملانية. ويظهر أن باسيليوس تمكن جيداً مما تعلمه وبرز فيه.
نقطة تحوّل
في حدود السنة 351م، لما غادر القديس باسيليوس إلى أثينا لمتابعة دراسته تحولت أخته الكبرى مكرينا إلى البيت العائلي في “أنيسي” فحولته ديراً منشئة رهبنة نسائية. كانت قد التزمت العفة بعدما توفي خطيبها. وقد انضمت إليها والدتها أماليا التي أخذت تعامل إماءها كمساويات لها، ورافقها بطرس، أصغر الأبناء، فيما اعتزل نكراتيوس برفقة خادم في مكان ما من البنطس وسلك في الفضيلة. فلما عاد باسيليوس إلى قيصرية اكتشف تغييرات جمة حصلت في محيطه العائلي: قسم من أحبائه صار رهباناً! لم يبال أول الأمر. ويبدو أنه صار أستاذاً في البيان والخطابة في جامعة قيصرية حيث راج صيته فانتفخ. شواهده برمتها كانت من التراث الكلاسيكي الأدبي والفلسفي. فخشيت عليه أخته مكرينا واتهمته بالاستكبار واحتقار الناس والإدعاء. فأثر كلامها فيه ولكن ليس إلى حد تغيير وجهة سيره. كانت الحاجة إلى صدمة أكبر تصيبه فتخرجه من سباته وغروروه. وحلت به الصدمة! فجأة رقد أخوه نكراتيوس الذي كان يصغره بسنة أو اثنتين. وكان أكثر إخوته جمالاً وأشدهم بأساً وأحدهم ذكاء وأوفرهم مواهب. خرج ليصطاد سمكاً فأعيد ميتاً. كأنما ضربته الصاعقة! لم تظهر عليه علامات المرض ولا كان ما يشير إلى إمكان وفاته. إذ ذاك بان لباسيليوس بطلان ما حصّله في أثينا وما سار عليه، فجلس عند قدمي أخته مكرينا يتعلم منها سر التخلي وحياة الفضيلة. ثم اقتبل سر العماد. معمودية الأطفال كانت ممارسة في ذلك الزمان، ولكن كانت ممارسة أيضاً عادة تأجيل المعمودية إلى سن متأخرة لأن الاعتقاد القوي كان أن من أزمع على المعمودية طلق حياة الخطيئة بالكلية وسلك في حياة الفضيلة وإلا خسر النعمة الإلهية. وقد روى القديس باسيليوس قصة هدايته في الرسالة 223 فقال: “بعد أن أمضيت زمناً طويلاً في الأباطيل وصرفت عهد شبابي في الكد والجد في تحصيل العلوم وبلوغ حكمة تنكرها الحكمة الإلهية، صحوت يوماً كما يصحو النائم من رقاد عميق، ولمحت النور الباهر المشرق من تعليم الإنجيل. فعرفت بطلان الحكمة التي كنت قد تعلمتها وأدركت فراغها وزوالها وأسفت أسفاً شديداً على ما مر من عمري حتى الآن… فتشت عن صديق يدلني على طريق التقوى… وأصبح جل اهتمامي أن أعمل على إصلاح أخلاقي بعد أن أفسدها طول اختلاطي برفقاء السوء. ثم قرأت الإنجيل ورأيت أن لا سبيل إلى بلوغ الكمال إلا بأن يبيع المرء ما له ويعطي الفقراء نصيبهم ويتخلى عن مطامع الحياة جميعا حتى لا يبقى للنفس ما يعكر صفوها من كل ما في الدنيا…”
نحو الرّهبنة
اتصل باسيليوس بأفسطاتيوس السبسطي الذي كان معروفاً، يومذاك، في الأوساط الرهبانية، بنظرياته وطريقته المتشددة. ولعل إرشادات أفسطاتيوس هي التي شجعته على القيام برحلة إلى المراكز البارزة للحياة الرهبانية في العالم المسيحي. مصر وفلسطين وسوريا وبلاد ما بين النهرين فزار كبار المتوحدين المعروفين في ذلك الزمان كما أقام في الأديرة المعروفة. أذهله تقشف النساك وعكوفهم على الصلوات الطويلة. والحق أن رحلته هذه نفعته نفعاً كبيراً. إذ أنه أطلع على مختلف أنماط الحياة النسكية ووقف على مبالغات بعض الرهابين التي اعتبر، كما ذكر هو فيما بعد، أنها تتخطى حدود الحرص والحكمة. كذلك مكنته المعطيات التي اجتمعت لديه من تبين مخاطر العزلة الكاملة وضرورة إيجاد طريقة تجمع، في آن، ما بين المرونة والدقة بحيث تحافظ على خير ما هو موجود وتنمية وتجتنب ما هو مشكوك فيه وتلغيه. فلما عاد إلى بلاده في الكبادوك بدا مستعداً للخوض في خبرات وتأملات رهبانية أبرزت اتجاهاته الشخصية في هذا الشأن.
رهبنته
اختار القديس باسيليوس، بعد جهد، مكاناً اعتبره أكثر الأمكنة التي عرفها ملاءمة للحياة الرهباينة: أيبورا الواقعة على ضفة نهر إيريس مقابل “أنيسي: حيث أنشأت أخته مكرينا ديرها. هكذا وصفه: “… مكان يتوافق تماماً ورغبتي الشديدة في النسك والعزلة… هناك جبال عالية تكسوها الأشجار المختلفة، تشق سفوحها وأعماقها وديان متعرجة. تنبسط عند أقدامها سهول خصبة تتفجر منها أنهار وجداول… مثل جزيرة لا يضاهيها جملاً وروعة ولا حتى جزيرة “كالبسو” التي تغنى بها هوميروس. وعلى مرتفع، وسط هذه البقعة، يقوم منسكي الذي يشرف على كل تلك الأرجاء… النهر يجري هادراً وتنظر الأزهار المتنوعة وتسمع تغريد الطيور الممتزج بخرير الماء. لكن المهم… تلك العزلة التي أتمتع بها… بعيداً عن ضجيج العالم. ولا يأتيها الزوار إلا نادراً.
لم يُقم باسيليوس في المكان وحيداً. انضم إليه بعض طلاب الحياة الرهبانية وكذلك، ولو بعد تردد، صديقه الصدوق القديس غريغوريوس اللاهوتي.
ذكر باسيليوس ما كان يقوم به في الموضع فحصر اهتماماته في أربعة: الاختلاء، الصلاة الممتزجة بالنشيد والتسبيح، قراءة الكتاب المقدس وكتب الآباء والتأمل. ولكن، تحدث سواه عن نسكه فأورد أخوه القديس غريغوريوس النيصصي أنه “لم يكن يملك إلا رداء واحداً وثوباً واحداً وخشبة وبساطاً يفرش على الأرض. وكان يأكل فقط الخبز والملح والأعشاب البرية ويشرب، ليطفئ ظمأه، الماء العذب النابع من الجبل.وهكذا، هذا الإنسان الذي تربى في الغنى والبحبوحة كان في هذه العزلة ناحل الجسم، شاحب الوجه بسبب الصوم. عائشاً دون امرأة ودون خيرات البتة. كما أضحى دون لحم يغطي جسمه ودون دم يجري في عروقه…” وقد ورد أن باسيليوس وصديقه غريغوريوس كانا يعملان بأيديهما ويحملان الحطب وينقلان الأثقال وأن آثارها بقيت على أيديهما طويلاً. كذلك قيل أن الخبز الذي اعتادا تناوله كان جافاً وشيء الصنع وشاق المضغ.
كان القديس باسيليوس في رهبنته، ويمكنك القول في حياته، عنيفاً حيال نفسه. كان يطيب له أن يستشهد بمتى الرسول القائل: “ملكوت السموات يُغصب والغاصبون يختطفونه” (12:11). فولاذي المعدن كان. بعض المعلقين قال أنه بدا في مشيته كما لو كانت الأرض ملكاً له. وما سار عليه طالب به رهبانه. لم يطلب من الآخرين غير ما التزم هو به.
اهتم القديس باسيليوس بالرهبنة المشتركة ووضع لها قواعد تحكمها. ولنا منه القوانين المطولة الخمسة والخمسون والقوانين المختصرة الثلاثمائة والثلاثة عشر. موهبته كمشرع كانت فذّة. لكنه لم يغفل أهمية المناسك قريباً من الأديرة المشتركة.
كهنوته
قيل عن القديس باسيليوس أنه صار قارئاً في حدود العام 359م وشماساً سنة 360م بيد أساقفة ديانوس، وربما لاونديوس. على أن ثمة من يذكر أن الذي سامه شماساً كان القديس ملاتيوس الإنطاكي. ثم جعله أفسافيوس القيصري كاهناً سنة 362 أو 363م. وصار رئيس أساقفة قيصرية سنة 370م.
علاقته باٍلأساقفة كثيراً ما كانت موجعة. ديانوس الضعيف وقع دستور إيمان هرطوقياً فقطع باسيليوس الشركة معه لبعض الوقت. وأفسافيوس الذي سامه كاهناً اصطدم به مرات. هذا الأخير كان موظفاً قبل أن يصير أسقفاً. وكان كثير الاهتمام باللياقات والاستقبالات، ودون باسيليوس معرفة إن بالإلهيات والإداريات أو بالتشريع ورعاية النفوس. لذلك كان الرجلان يتجادلان باستمرار. الغيرة استبدت بالأسقف إلى حد أنه لم تعد تُعرف أسباب الخلاف بينهما. فعاد باسيليوس إلى إيبورا. وقد راودته فكرة الوقوف في وجه الأسقف، وحتى مقاومته، لكن كان لصديقه القديس غريغوريوس اللاهوتي دور المهدئ فسكت ولو على مضض. وما لبث أفسافيوس الأسقف أن استدعى باسيليوس من جديد لحاجته إليه إثر تولي والنس الآريوسي السلطة (365م). القديس غريغوريوس اللاهوتي توسط فكتب لباسيليوس قائلاً: “عجل بالرجوع إلى قيصرية. الأسقف يبدي نحوك العواطف الكريمة المتوسلة… أعداء الإيمان القويم ينشطون…. الحقيقة في خطر”.
توفي أفسافيوس سنة 370م وانطرح موضوع خلافته. حميت المعركة. الآريوسيون كانوا أقوياء، والفريق الأرثوذكسي مشتت. غريغوريوس الشيخ ، والد القديس غريغوريوس اللاهوتي، لعب دوراً بارزاً. القديس باسيليوس، لهذا الأخير، كان الجواب. تهافت الأساقفة من كل حدب وصوب. القديس غريغوريوس الشيخ، رغم سنه ومرضه، تمكن من استقطاب العديدين. وثمة ما يوحي أن أساقفة من خارج حدود المتروبوليتية اشتركوا في اختيار رئيس الأساقفة الجديد. إحدى المآخذ على باسيليوس كانت أنه مريض، لا بل معتل الصحة. فسأل غريغوريوس المعارضين: ما المطلوب؟ أسقف أم مصارع! ثم القداسة واعتلال الصحة يبسيران يداً بيد! أخيراً نجح باسيليوس، ربما بفضل أصوات غريغوريوس الشيخ وصحبه، أو حتى صوت غريغوريوس بالذات. إلى هذه الدرجة كان الصراع عنيفاً!
على هذا النحو ربح باسيليوس معركة، ولكن كانت بانتظاره معارك. معركة الفساد في صفوف الكهنة كانت إحداها.
فبعد سنتين من توليه الأسقفية قال: “بادت كرامة الكهنوت! ليس بعد من يرعى رعية الرب بحكمة. قوم متكبرون يبذرون مال الفقير على ملذاتهم وتوزيع الهدايا. ليس بعد حفظ القوانين مصوناً. إجازة ارتكاب الخطايا باتت وسع الأرض. والذين وصلوا إلى مناصبهم بالمحاباة يردون لسادتهم الجميل بغض الطرف عن الخطايا والموبقات التي يرتكبونها. الحكم بالحق مات. كل يتبع نزوات قلبه. تخطى الشر الحدود”.
مجاعة ومرض
سنة 368 م، وباسيليوس كاهن، حلّت بقيصرية الفواجع. ضربتها عواصف البرد ثم جاء الطوفان. ثم الهزات الأرضية، فالجفاف. باسيليوس تحدث عن الطوفان الذي تخطى كل الحدود. شحت المواد الغذائية وانقطع الاتصال بالمقاطعات المجاورة فحصلت المجاعة. وقد كتب القديس غريغوريوس اللاهوتي يقول: “أن قيصرية قاست مجاعة هائلة لم يسمع بمثلها من قبل. كل سكان المدينة كانوا مرضى ولم تعد ترد إليهم أية معونة من الخارج. لم يبق في المدينة شيء يباع أو يمكن أن يُشترى. وفاق كل هذا فظاعة مشهد القسوة والجشع عند التجار والملاكين…”
انبرى باسيليوس لعمل الرحمة بلا هوادة. باع ما كان يمكن بيعه من أملاك تركها له والداه واشترى بثمنها طعاماً للجائعين. نظم مخزناً شعبياً جمع فيه ما تيسر له من أغذية وثياب. أخذ يوزعها بنفسه على البائسين والفقراء والمسنين. كان يطعم الجائعين بيديه ويغسل أقدامهم ويطوف على المرضى والمحتاجين بثيابه السميكة المغبرة في عز حر شهر آب. كذلك رفع صوته في مواعظ ألهبت النفوس أكثر مما ألهبت الشمس الأبدان. كثيرون فتحوا مخازنهم وبيوتهم على الأثر. وإلى تلك الفترة تعود أهم مواعظه في شأن العناية بالفقراء. بم تجيب الله الديان العادل أنت الذي يلبس جدران منزله ذهباً وعاجاً، ولا يكسو أخاه بثوب. أنت الذي يزين خيوله ولا يلتفت إلى بؤس أخيه. أنت الذي يدع السوس يقرض قمحه ويبخل به على الجائعين. أنت الذي يكدس الذهب ولا ينهض لمعونة المعوزين!”. وأيضاً “إن لم يكن عندك من الغذاء غير رغيف واحد وقرع بابك سائل، فأخرج هذا الرغيف الواحد من خزانتك وقل له: يا رب لم يبق لي إلا هذا الرغيف الواحد والمجاعة تهددني. لكني أفضل وصيتك على نفسي، وأعطي أخي الجائع من القليل الذي عندي. فأنت الآن أعن عبدك الذي هو في خطر. أنا أعرف رحمتك وأؤمن بقدرتك. فلا تحبس منتك طويلاً بل هبني إياها على حسب مشيئتك. فلو قلت ذلك لتغير الخبز الذي أعطيته في فقرك إلى حصاد وافر”.
صراعه مع السلطة
بقي الصراع بين القديس باسيليوس ووالنس الإمبراطور الآريوسي خفياًُ لبعض الوقت. ثم في السنة 371م. أصدر الإمبراطور مرسوماً بتجزئة قيصرية إلى قيصرية الأولى وقيصرية الثانية. همّه كان إضعاف باسيليوس، لا بل سحقه. لهذا فقد قديسنا العديد من أسقفياته بعد أن كانت قيصرية تعد خمسين أسقفاً وتمتد ولايتها على إحدى عشرة مقاطعة.وقد رد باسيليوس بأن رفع عدداً من كنائس القرى إلى أسقفيات وجعل عليها بعضاً من المقربين إليه أمثال صديقه القديس غريغوريوس اللاهوتي وأخيه القديس غريغوريوس النيصصي. وقد كانت المعركة على أشدها ضده إذ كان عليلاً طريح الفراش شهرين من الزمن يشكو الغثيان والأوجاع المبرحة في الكبد والأرق والوهن.
ثم في العام التالي 372م. أوفد والنس عامله مودستوس، حامل لقب كونت المشرق، ليعرض عليه إما الإذعان للهرطقة الآريوسية أو التخلي عن الإدارة الكنسية. وقائع الحوار بين الرجلين حفظها القديس غريغوريوس اللاهوتي في مقالته 43 وفي مقالة القديس غريغوريوس النيصصي الأولى ضد أفنوميوس. مما جاء فيه:
– مودستوس: كيف تجرؤ يا باسيليوس على تحدي سلطاننا العظيم؟ كيف تجرؤ على الوقوف في وجهنا وحيداً؟
– قد. باسيليوس: ماذا تعني؟
– مودستوس: تعرف تماماً تمام المعرفة ماذا أعني. الجميع رضخوا، إلا أنت، للديانة التي يأمر الإمبراطور بإتباعها.
– قد. باسيليوس: إمبراطوري أنا يمنعني من إتباعها. لا أستطيع أن أعبد خليقة، وأنا خليقة الله ومدعو إلى الاشتراك في حياته!
– مودستوس: من تظننا نكون، إذن؟ لا شيء؟!
– قد. باسيليوس: أنت حاكم وأحد البارزين، لكني لا أكرمك أكثر مما أكرم الله.
– مودستوس: أتعلم ماذا بإمكاني أن أفعل بك؟! أما تخاف من سلطاني؟!
– قد. باسيليوس: ماذا بإمكانك أن تفعل؟
– مودستوس: بإمكاني أن أصادر ممتلكاتك وأنفيك وأحيلك على التعذيب وأنزل بك عقاب الموت!
– قد. باسيليوس: أهذا كل شيء؟ لست أبالي به! لا يمكنك أن تصادر مقتنياتي لأني لا أملك شيئاً، إلا إذا كنت تريد ثوبي العتيق هذا أو الكتب القليلة التي في مكتبتي. والنفي، ماذا يضيرني؟ حيثما حللت في أرض الله. والتعذيب لا ينال مني لأني ليس لي بعد جسد يحتمل التعذيب. ضربة واحدة ويأتيني الموت. أما الموت فمرحى به لأنه يأتي بي سريعاً إلى حضرة الله المباركة. وإنني لأحسب نفسي ميتاً وأتعجل الوصول إلى القبر.
فتعجب مودستوس وتحير جداً وأجاب:
– مودستوس: لم يجسر أحد قبل اليوم على مخاطبتي بهذه اللهجة!
– قد. باسيليوس: ربما لأنك لم تلتق أسقفاً قط. وإلا لكلمك بالطريقة التي كلمتك بها. نحن الأساقفة قوم ودعاء مسالمون لأن شريعتنا تأمرنا بذلك. ونحن كذلك لا مع الرؤساء وحسب بل مع كل الناس بلا استثناء. ولكن قيل في سبيل الله لا نحسب حساباً لشيء، لا للتعذيب ولا للموت. فالتعذيب يقوي عزيمتنا. أهنا، هددنا، افعل ما يحلو لك. مارس سلطانك علينا! ولكن ليسمع الإمبراطور كلامي جيداً! لن تقنعنا أبداً بالانضمام إلى قوى الإثم مهما بلغ تهديدك لنا!”
فعاد مودستوس إلى والنس الإمبراطور وقدم له تقريراً بشأن القديس باسيليوس: “لقد دحرنا هذا القائد الكنسي. أنه فوق التهديد وأثبت من كل حجة وأقوى من كل إقناع”.
ولم يستسلم والنس. عاد بعد حين فأرسل أحد أبرز جنرالاته، تيرنتيوس، عساه بالإطراء والمديح والكياسة والكلام المليح يستميله إليه فباءت محاولته بالفشل.
ديموستينوس الخصي. مهجعي الملك وأمين مطبخه كان له، هو أيضاً، دور في محاولة إقناع القديس باسيليوس. هذا كانت له شهرة إيجاد الحلول السريعة للمسائل الشائكة. حاول أن يكلم القديس باللاهوت فبدى مضحكاً. شهر سيفاً في وجهه وهدده بانتزاع كبده. فأجابه القديس بابتسامة: ليتك تفعل، إذن لخلصتني من الألم الذي أشعر به في كبدي!
ثم أن والنس في أوائل العام 373م جاء بنفسه إلى كنيسة القديس باسيليوس فقابله قديسنا، وكان مع الملك ديموستينوس الأنف الذكر. لم يسع ديموستينوس أن يحفظ الصمت ولا بدا كأنه تعلم درساً من محاولته الأخيرة، فأخذ يجادل في مسائل اللاهوت. كان القديس هادئاً وديموستينوس محتداً. فجأة التفت القديس ناحية الإمبراطور وقال له: “يبدو أن لدينا ديموستينوس آخر لا يعرف أن يتكلم اليونانية! فخير له، والحال هذه، أن يهتم بصلصاته!”.
بعد ذلك عزم الإمبراطور على نفي القديس. ولكن، ثلاث مرات حاول أن يوقع أمر نفيه وثلاث مرات أنكسر قلمه. في المرة الثالثة جاءه خبر أن ولده غلاتوس، البالغ من العمر ست سنوات، يحتضر. وقد أرسلت إليه زوجته تقول له: “أتعلم لماذا يحتضر ولدنا؟ لأن إيمانك بالله غير مستقيم ولأنك تضطهد رجل الله!” فأرسل والنس في طلب باسيليوس وقال له: “إذا كان إيمانك مرضياً لله فاشف ولدي بصلواتك!” فأجاب القديس: “إذا كنت تنضم إلى جماعة الرأي القويم يحيا ولدك”. فوافق الملك. وكان أن رفع باسيليوس يديه وصلى فمن عليه الرب الإله بشفاء ابن الملك. فسر الملك سروراً عظيماً لكن قلبه لم يكن نقياً. ولما جاء الآريوسيين ليعمدوا الصبي، بعد حين، مات بين أيديهم.
فقط في السنوات الأخيرة من عمر القديس باسيليوس لم يعد والنس يزعجه. لاسيما بعد صراعات نشبت حول العرش.
المدينة الباسيليّة
من الأعمال الملفتة التي أطلقها القديس باسيليوس، أسقفاً، المدينة الباسيلية التي أقامها عند مدخل مدينة قيصرية. والتي يبدو أن عجلتها بدأت في الدوران ابتداء من منتصف السبعينات من القرن الرابع الميلادي. المشروع كان مجمعاً ضخماً ضم مستشفى ومدارس مهنية ودوراً للأيتام وملاجئ للبرص وفنادق وكنائس، عدا بيوت الأطباء والعاملين. كانت الباسيلية مدينة للفقراء والمرضى والمحتاجين. القديس باسيليوس وظف، في المكان، معلوماته الطبية التي سبق له أن حصلها في أثينا وغير مكان. وقد ورد أنه كان يضم البرص إلى صدره.
شهادة القدّيس غريغوريوس اللّاهوتيّ فيه
في أكثر من موضع، في مواعظ القديس غريغوريوس اللاهوتي، كلام عن القديس باسيليوس يعكس صورة أصيلة عنه لأن الرجلين ارتبطا بصداقة تمتنت مع الأيام منذ أن التقيا في قيصرية وعبرا بأثينا وإيبورا إلى آخر أيام باسيليوس. فلقد كتب غريغوريوس إليه مرة يقول: “أني أتنشقك أكثر مما أتنشق الهواء. وأنا سواء كنت حاضراً أم غائباً، لا أعيش إلا الوقت الذي أنت فيه معي”. وكتب عنه يقول: “لما حصل التعارف بيننا واتضحت رغبتنا المشتركة في درس الفلسفة الحقيقية أصبح كل واحد منا للآخر كل شيء. كان لنا سقف بيت واحد وطاولة واحدة ندرس عليها، وعواطف مشتركة. إن أعيننا كانت تحلق نحو هدف واحد، وعاطفتنا لم تكن إلا يتزيد وتترسخ يوماً بعد يوم….”
هذا وفي رأي القديس غريغوريوس أن من الناس من برزوا في إحدى المناقب وآخرون في إحدى أشكال الفضيلة وهي كثير، ولكن ما من احد بلغها كلها أو أدرك في المحمدة الواحدة شأواً بعيداً. أما باسيليوس فقد أتى على جميعها حتى أضحى مفخرة للطبيعة.
باسيليوس هو الكبير، قاعدة الفضيلة للجميع. وهو رجل سخي تخطى جسده قبل أن يترك هذا العالم. غناه كان الاستغناء عن كل شيء. كان همه أن يكون حقيقة لا أن يظهر فاضلاً. اختار طريق الفقر والعوز ولم يرغب في الكرامة. ولما فضل طرح كل الأشياء التي في حوزته جاز بخفة بحر هذه الحياة. كان يعيش بالقوت الضروري فقط. ولذته أن يمتع النظر في الزنابق والطيور. يفتخر بثوبه الوحيد وعباءته الوحيدة وافتراشه الأرض وانقطاعه عن الاستحمام. من أكرم البتولية أكثر من باسيليوس ومن سن الشريعة للجسد لا بمثاله فقط بل بجهوده أيضاً؟! عطف الجمال إلى الداخل، من الأمور المنظورة إلى الأمور الغير المنظورة. إي إنسان أكرم الفضيلة وعاقب الرذيلة، وكان عطوفاً مع المستقيمين جافياً مع المنافقين أكثر من باسيليوس، وهو الذي كانت ابتسامته في غالب الأحيان ثناء وسكوته توبيخاً يعذب الإثم في صميم الضمير؟ أي إنسان كان حلو المجالسة مثل ما عرفت في باسيليوس أنا الذي خدمته أكثر من غيري؟ من كان أرق منه كلاماً في رواية الأخبار وفي المزاح بأدب والتأنيب بلطف؟ لم يكن ليحول اللوم إلى خشونة ولا الصفح إلى تراخ. من فاقه في تطهير نفسه وتأهيلها للكلام عن الأمور الإلهية؟ من استنار أكثر منه بنور اعلم فأمعن النظر في أعماق الروح ومع الله استقصى أعمال الله؟ هذب الأخلاق كلها وعلم سمو التعاليم فمال بالأنظار عن الحاضرات وصرفها إلى المقبلات. جماله الفضيلة وعظمته التعليم باللاهوت وسيره الحركة المتواصلة المؤدية إلى الله في مصاعدها، وقوته بذر الكلام وتوزيعه. في اعتقادي أن أقدر الناس كلاماً من تفرد بحفظ أقوال باسيليوس فحملها على لسانه، وفقه لها الإسماع. وحده من كل الذين سبقوه أغنى الراغبين علماً. اقتدى بغيرة بطرس وحمية بولس والصوت الكبير لابني زبدى وببساطة التلاميذ واعتدالهم.
بعض ملامحه
ورد عن القديس باسيليوس أنه كان طويل القامة، نحيف الجسم، ناشف القسمات، أصفر اللون، نظراته تأملية، أصلع الرأس تقريباً، ذا لحية طويلة. كان بطيئاً في الكلام، كثير التفكير، خجولاً يتحاشى الجدل العلني، جريئاً، شجاعاً عندما يلتزم الدفاع عن قضية عادلة، محباً للعزلة والصمت، يتمتع بالقدرة على ضبط النفس. يحافظ على هدوئه وبرودة أعصابه. ذو أدب جم ومتوازن في التصرف. يبتسم عندما يرضى بالأمر ويسكت عندما يرفض. هذا وقد ورد أنه فقد أسنانه في حدود السادسة والأربعين. وكانت أوجاع بدنه عارمة لدرجة أنه من سن الثالثة والأربعين كان أعجز عن الإتيان بأية حركة من دون وجع.
على أن نفسه كانت قوية. لذلك كان يعمل بشكل شبه متواصل. يكتب ويملي ويزور الكنائس ويقارع أعداء الإيمان ويدافع عن الأرثوذكسية.
بعض ما كتب
عندنا منه شروحاته على “ستة أيام الخلق” التي قال عنها القديس غريغوريوس اللاهوتي أنه لما يقرأها يشعر بأنه متحد بخالقه ويفهم أسباب الخليقة فهماً أفضل. وله شرح للمزامير ومواعظ إيمانية ومواعظ عن عدد من القديسين كالأربعين شهيداً. وثمة مقالة له عن الروح القدس ورسائل تبلغ الثلاثمائة والخمسة والستين عدداً. وله أيضاً إصلاحاته الليتورجية وقوانينه الرهبانية.
بعض أخباره
جاءت القديس مرة امرأة فقيرة ظلمها موظف حكومي عساه أن يتوسط لديه لأنها حسبت أن الموظف كان يكن له احتراماً كبيراً. فأخذ القديس ورقة وكتب إلى الرجل الرسالة التالية: “هذه المرأة الفقيرة حضرت أمامي قائلة أن رسالة مني تعني لك الكثير. فإذا كان الأمر كذلك فهات على ذلك برهاناً وأرأف بهذه المرأة الفقيرة”. أخذت المرأة الرسالة وسلمتها للموظف. فلما قرأها أجاب عليها بالكلمات التالية: “تصديقاً لما ورد في رسالتك، أيها الأب القديس، فإني أرغب في إظهار الرحمة في شأن هذه المرأة لكني لا أستطيع لأنها ملزمة بدفع الضريبة العامة”. فكتب إليه القديس من جديد: “حسن أنك ترغب في إظهار الرحمة حيال هذه المرأة ولا تقدر. ولكن إن قدرت ولم ترغب في ذلك فإن الله سوف يحصيك مع المعوزين حتى لا تقوى على فعل ما ترغب أنت فيه”. ولم يمض وقت طويل على الرسالة حتى بلغ الإمبراطور ظلمة الناس فغضب عليه وأخذ وظيفته منه وسجنه.
باسيليوس وأفرام
سمع القديس أفرام السرياني، وهو في الصحراء، عن القديس باسيليوس فأخذ يصلي إلى الله أن يريه أي نوع من الرجال يكون. وإن هي سوى أيام قلائل حتى رأى، في انخطاف، عموداً من نار رأسه في السماوات، وسمع صوتاً يقول له: “أفرام، أفرام! كما ترى هذا العمود الناري كذلك باسيليوس! فقام القديس أفرام لتوه إلى قيصرية آخذاً معه مترجماً ينقل له الكلام إلى السريانية لأنه كان لا يعرف اليونانية. فلما وصل إلى هناك، وكان عيد الظهور الإلهي، دخل إلى الكنيسة فعاين باسيليوس في أبهة عظيمة فقال في نفسه: أترى تعبنا في المجيء عبثاً؟! كيف يمكن لهذا المتجلبب بالمجد والكرامة أن يكون عموداً نارياً؟!
في تلك الأثناء، عرف باسيليوس بالروح بحضور أفرام فبعث إليه برئيس شمامسته قائلاً: اخرج إلى باب الكنيسة الغربي فتجد راهباً قصير اللحية، قصير القامة. فقل له رئيس الأساقفة يدعوك. ففعل رئيس الشمامسة كما أمره باسيليوس. فلما وصل إليه، بعد لأي، قال له رئيس الأساقفة يدعوه. فأجاب أفرام عبر المترجم: لا شك أنك تقصد أحداً آخر لأننا نحن غير معروفين عند رئيس الأساقفة وقد وصلنا لتونا. فعاد رئيس الشمامسة إلى باسيليوس وكان حينذاك يعظ. فإذا بأفرام يرى ناراً تخرج من فم باسيليوس متكلماً. ثم قال باسيليوس لرئيس شمامسته: عد إلى الراهب الذي رأيته وقل له: يا سيدي أفرام، أتوسل إليك أن تأتي إلى الهيكل فإن رئيس الأساقفة يدعوك! فعاد رئيس الشمامسة وقال له ذلك الكلام عينه، فتعجب أفرام ومجد الله وسجد إلى الأرض قائلاً: حقاً أن باسيليوس كبير هو عمود من نار والروح القدس يتكلم فيه”.
ثم أن التمس القديس أفرام أن يرى باسيليوس على انفراد بعد الخدمة الإلهية. فلما التقى الرجلان قبل باسيليوس أفرام وقال له: “أهلاً بك، يا أبانا الذي ضاعف عدد تلاميذ المسيح في البرية، وبقوة المسيح طرد منها الشياطين. لم تحملت كل هذه المشاق لتأتي وتنظر رجلاً خاطئاً؟ جازاك الله خيراً عن تعبك! فأفضى إليه أفرام بكل ما في قلبه وتناول القدسات من يده. ولكن لما جلس الاثنان إلى المائدة ليأكلا شيئاً أن سأل أفرام باسيليوس منة قائلاً: لقد علمت، أيها الأب القديس، أن الله يعطيك ما تطلب. لذا أسألك أن تصلي من أجلي ليهبني المولى القدرة على التكلم باللسان اليوناني. فأجابه باسيليوس قائلاً: طلبك أكبر من طاقتي، ولكن، لنصلي إلى الله عسى أن يعطيك منية قلبك لأنه قال أنه “يتمم بغية خائفيه ويسمع تضرعهم ويخلصهم” (مزمور19:144). فبعدما صليا طويلاً راكعين، قال له باسيليوس: مر، أيها الأب المكرم. أن نقف على أقدامنا. في تلك اللحظة بالذات أخذ أفرام يفهم اليونانية وقال هو نفسه فيها: أعضد وخلص وارحم وأقمنا واحفظنا يا لله بنعمتك”. فمجد الله كل الذين كانوا حاضرين.
وقد بقي أفرام عند باسيليوس ثلاثة أيام، ولم يغادره إلا بعدما سامه باسيليوس شماساً وصاحبه المترجم كاهناً.
رقاد القديس باسيليوس
رقد القديس باسيليوس الكبير في أوائل كانون الثاني من العام 379م عن عمر ناهز التاسعة والأربعين أو الخمسين. وقد ذكره معاصروه، ومن بينهم القديس غريغوريوس اللاهوتي، أنه بعدما كان ممدداً على سرير الاحتضار وقد ضؤلت النسمة في منخاريه، إذا بالحياة تدب فيه من جديد كأنما كان قد ترك أمراً لم ينجزه ورغب في نجازه. وبالفعل فإنه امتلأ بحيوية ووضع يده على بعض من الخدم وسامهم كهنة وشمامسة. ثم عاد وتمدد من جديد وأسلم الروح. كل المدينة كانت حوله. كانت الخسارة أعظم من أن تعوض. كانوا كمن يحاول منع باسيليوس من مغادرتهم. بان الألم سيد الموقف وكل، حسب القديس غريغوريوس اللاهوتي، كان مستعداً لأن يتنازل عن قسط من حياته لحساب راعي النفوس الكبير. ولكن، عبثاً حاولوا، لأن الملائكة أخذته. وبعدما جُعل على كرسي ومشى به المشيعون في موكب مهيب، أخذ الناس يدوسون بعضهم بعضاً. وسقط عدد منهم صرعى. وقد التقى في مأتمه اليونانيين واليهود والغرباء. ولعل قوماً ظنوا أن مجيء المسيح ثانية كان على الأبواب. وقد جرت برفاته عجائب جمة. كما قيل أن نفسه استقرت قريبة من العرش الإلهي تحقيقاً لاسمه الذي معناه الملكي.
هذا هو النموذج الأول للأسقف القديس في كنيسة المسيح. كان معلماً للمسكونة وقمراً للإيمان الأرثوذكسي وأباً للرهبان ومشرعاً ومعيلاً للفقراء وعناية لكل الذين وضعوا رجاءهم على الله. ومعزياً للمضنوكين وسنداً للضعفاء ومؤدباً للملوك.
تعيد له الكنيسة الغربية في 14 حزيران، وكانت، قبل القرن التاسع للميلاد، تعيد له في أول كانون الثاني. جمجمته، إلى اليوم، موجودة في دير اللافرا الكبير في جبل آثوس.
طروباريّة للقدّيس باسيليوس (باللّحن الأوّل)
إلى كُلِّ الأَرضِ القابِلَةِ أقوالَك، أَيُّها الأبُ البَّارُّ ذَهَبَ صُوتُك، الذي بِهِ حَدَّدْتَ العَقائِدَ تَحديداً يَليقُ بالله، وأَعْلَنْتَ طبيعةَ الكائنات، وثقَّفت أخلاق البشر، يا ذا الكهنوتِ الملوكي باسيليوس، فتشفع إلى المسيح الإله في خلاص نفوسنا.
قنداق للقدّيس باسيليوس (باللّحن الثّالث)
إن سيّد الكل يحتمل الإهانة، فيختن زلاَّت البشر بما أنه صالحٌ، ويمنح اليوم الخلاصَ للعالم، فيبتهجُ في الأعالي رئيس كهنة الخالق، المتوشح بالضياء، مسارُّ المسيح الإلهي باسيليوس.
قنداق للقدّيس (باللّحن الرّابع)
لقد ظهرتَ قاعدةً غير متزعزعة للكنيسة، موزعاً للبشر كافَّةً سلطاناً لا يُسلبَ، خاتماً إياهم بعقائدك، أيها البار المظهر الأشياء السماوية باسيليوس.