في هذا اليوم تُقيم الكنيسة المُقدَّسَة تَذكار:
✵الشَّهيدة في العذارى ثيودوسيّة الصّوريّة ✵الشّهيدة ثيودوسيّة القسطنطينيّة ✵أبونا الجليل في القدّيسين ألكسندروس الإسكندريّ ✵الشّهداء أولبيانوس ورفقته ✵الشّهيدان الرّجل والمرأة المجهولان ✵الجديد في الشّهداء أندراوس أرغيريس خيوس ✵الجديد في الشّهداء يوحنّا التسالونيكيّ الملقّب بـ”الصّغير” ✵القدّيس البارّ يوحنّا أوستيوغ الرّوسيّ الـمُتبالِه ✵القدّيس البارّ إرمياء المتوحّد ✵أبونا الجليل في القدّيسين لوقا سيمفروبول الرُّوسيّ الـمُعترِف ✵الشّهيد الولد كيرلّلس القيصريّ ✵أبونا الجليل في القدّيسين مكسيمينوس الفرنسيّ، أسقف تريف الألمانيّة ✵أبونا الشّهيد في الكهنة ثيودوروس الصّربيّ.
* * *
✤ القدّيس البارّ إرمياء المتوحّد ✤
هو السُّور الحَصين الّذي أخزى الشّيطان في زمانه وصار مَسكِنًا للرَّبّ يسوع المسيح، ابن الله الحيّ. كان كاملًا في طهارته كيوحنّا الحبيب البتول، صاحب الإنجيل الرّابع، الذي اتّكأ على صدر الرَّبّ في العشاء الأخير.
نسك في بريّة منوف في مصر. هناك كان يقرّب لله صلوات كثيرة بدموع حارّة وتخشّع طيلة اللّيل والنّهار. فحسده العدوّ باغِضُ الخير، ولم يتركه في هدوء. ظهر له الشّيطان مرّة بهيئة إنسان مِنْ نور وأراد أن يجرّبه. فلمّا وقع نظر القدّيس عليه شعر بالفزع منه، وسأله: مَن أنت؟! فقال له الشّيطان: “أنا هو إلهك!” فقال: “إنّ صوت إلهي وكلامه ألذّ من العسل في فمي وأحلى، وهو يشدّد كلّ أعضائي. أمّا كلامك أنت فما إن سمعته حتّى تطعّمت مرارته، وقد حطم كلّ أعضائي الدّاخليّة”. أجاب الشّيطان: “أما تعلم كلمة إلهك أنّه متى ظهر ترعب منه؟!” فقال القدّيس لتوّه: “أمّا علامة صليب إلهي فلم أرها فيك!” فأردف الشّيطان قائلًا: “تعال، اسجد لي! أنا هو إلهك!” فردّ إرميا: “لن أسجد لك حتّى أصلّي أوّلًا!” ولمّا قال هذا قام وبسط يديه نحو الشّرق فصارت هيئته كهيئة صليب وأخذ في الصّلاة. أمّا الشّيطان فحوّل طرفه نحو الغرب وكان قائمًا كمثل صنم من حجر. فالتفت إرميا وقال له: “لما لا تكون كما تراني؟!” فأجابه الشّيطان: “من أجل أنك خالفت وصيّتي وأنا إلهك، فالآن آخذ منك الملك الّذي وعدتك به، من أجل معصيتك لي كآدم. فإنّه أكل من الشّجرة وعصى فأخرجته من الفردوس وأخذت منه سبحه الكبير. وأنت أيضًا إن أطعتني أدخلتك أورشليم السّماويّة حيث أصفيائي وأبراري”. إذ ذاك عرف القدّيس أنّه الشيطان، لكنّه أطال روحه معه حتّى يظهر حربه. قال إرميا: “إن كنت أنت المسيح فما بالك وحدك وليس معك أحد من ملائكتك؟!” وإذ كانا يتكلّمان، أمر الشّيطان بعض أبالسته، فجاز بهما شبه إنسان مسكين أعرج كريه المنظر جدًّا وعليه ثياب بالية. فلمّا بلغ المكان الّذي كان الشّيطان واقفًا فيه خرّ له ساجدًا، فقال له الشّيطان: “مَن أنت وماذا تريد؟” فأجابه الرُّوح النَّجِس قائلًا: “أنا هو الشّيطان!” فقال المحال الّذي كان يكلّمه: “إن كنت أنت الشّيطان فما بالك تعرج، وما هذا الثّوب البالي الّذي عليك؟!” فقال الرّوح النَّجِس: “أنا فقير ولا شيء عندي، أمّا أنت فتفتخر بحسنك وجمالك لأنّك المسيح!” فقال له الشّيطان: “مَن الّذي أتى بك إلى ههنا؟ من أين جئت ومَن تطلب في هذه البريّة؟!” فأجاب الرُّوح النَّجِس: “جئت أطلب إرميا لأقاتله لأنّي قد علمت أنّه اتكل عليك!” حينئذ قال له الشّيطان: “اذهب عنه أيّها الخبيث، لأنّك منذ الآن لست تقوى عليه لأنّه هو لي إناء مختار!” فأجاب الرُّوح النَّجِس: “إن كان إرميا لك إناءً مُختارًا فليخرّ لك ساجدًا ليكون كمثل ما أنت فيه!” فقال المحال: “قد أطاعني وهو أيضًا يُطيعُني!” إذ ذاك قال الشَّيطان لإرميا، الرّكن الوثيق: “أطعني وتعال اسجد لي لئلّا ُتبدِّدَ تعبك كلّه وتكون غريبًا عن ملكي ومدينتي أورشليم السّماويّة! ألم تر الشّيطان كيف يدور ويحتال عليك مريدًا أن يقاتلك وقد عرف أنّك أنت إرميا… وأنا هو المسيح وهو سجد لي ظنًّا منه أنّي أغفر له وأردّه إلى مرتبته القديمة!” فأجاب القدّيس، عبد الرَّبّ يسوع، وقال للشّيطان: “عرفت حيلك الرَّديئة كلّها أيّها الحسود، مبغض جميع الخيرات! أنا لا أسجد لك بل أسجد لإلهي يسوع المسيح الّذي ينبغي له السّجود مع التّسبحة إلى الأبد، آمين!” في كلّ ذلك، كانت ملائكة الله تنظر جهاد إرميا القدّيس وخبرته وقتاله مع الشّيطان وتعطيه الغلبة. حينئذ أجاب الشّيطان: “أطعني وتعال اسجد لي! أنا هو إلهك! لا تكن ضالًّا لئلّا تصير غريبًا عن ملكي! ألم تسمع أنت بيوحنّا البتول أنّه كان طاهرًا مثلك فترك جميع ما كان له واتّكل عليّ، فاستحقّ أن يتّكىء على صدري من أجل طهارته. وأيضًا أخوه يعقوب. وقد أحببتهما من أجل طاعتهما ونقاوة قلبيهما. والآن أقول لك قم اسجد لي لكيما تتّكىء على صدري في يوم ملكي!” فردّ عليه إرميا قائلًا: “مِنَ الآن لا أنخدع بكلامك هذا أيّها الخبيث! قد عرفت تملقك وحيلك الرّديئة يا أركون الخطيئة الّذي أخذ منه سبحه من أجل تعظّمه فصار غريبًا عن مجمع الملائكة، من أجل أفكاره الرّديئة. أمّا أنا فقد أخذت مسكنك وصرت عنك غريبًا وورثت ملكك، وخزيت أنت مع حيلك الشّرّيرة وجميع الّذين أطاعوك! ابتعد عنّي يا صيّاد الخطيئة، الذّئب الخاطف! لستُ أطيعك يا أركون الظّلمة، الظّالم لعباد الله!” وفيما كان إرميا مُسترسِلًا في مثل هذه الأقوال القويّة الثّابتة الواثِقة، تبدّل منظر الشّيطان فصار مُفزعًا وصار كنمرٍ خبيث، عيناه تتّقدان نارًا وأضراسه خارج فمه كخنزير وحشيّ، ويخرج من فمه بخار النّار، ثم حوّل الشّيطان وجهه إلى إرميا يريد أن يقطعه من الوسط. فمن ساعته بعث الرَّبّ الإله ملاكًا طرح الشّيطان إلى الأرض خازيًا حتّى باد. ثم أنّ سحابة مضيئة خطفت البارّ إرميا فحملته وأنزلته في ناحية دمشق.
في دمشق أعطى الرَّبّ الإله عبده إرميا أن يلتقي ملكًا اسمه يوحنّا كان مماثلًا له في النّسك وضبط الهوى. فمضى إليه ونظر العجائب الّتي أظهرها الله لديه من سجود الأشجار الّتي في بستانه. وقد أعلمه يوحنّا أنّه سيكون له في الدّنيا ثلاثة أديرة، أحدهما في سورية واثنان في أرض مصر، الواحد قبلي مصر في ناحية أشمين والآخر في بريّة منوف غربي دمياط حيث كانت قلّايته القديمة.
في تلك الأيّام، انحرف الملك أنسطاسيوس عن الإيمان القويم، فمضى القدّيس إليه وردّه عن ضلاله. وقد بعث إليه الملك، في منوف المصريّة، وزاد في ديره ورتبته وبنى فيه قلالي للرُّهبان.
فلمّا تلألأ أبونا إرميا العجيب في هذه الأفعال العظيمة وامتلأ أيّامًا رقد رقودًا مغبوطًا، ووضع جسده في ديره الّذي ابتناه الملك. وقد أضحى ينبوعًا للأشفية لمن يقصدونه. كانت جملة حياة القدّيس إرميا المُتَوَحِّد ثماني سنين ومائة.
أخذنا سيرته من المخطوطات القديمة. استعرناه من كتابنا “القدّيسون المَنسيّون في التّراث الأنطاكي”.