Menu Close

في هذا اليوم تُقيم الكنيسة المُقدَّسَة تَذكار: 

✵أعجوبة قبر الرَّسول القدّيس يوحنّا الحبيب ✵القدّيس البارّ أرسانيوس الكبير ✵القدّيس البارّ ميليس المرنّم ✵الشّهيد نيقوماس ✵الشّهداء العساكر المجهولو الإسم ✵القدّيس البارّ طراسيوس اللّيكاؤوني العجائبيّ ✵القدّيسة البارّة أميليا الكبّادوكيّة ✵القدّيس البارّ أرسانيوس الكييفيّ المجتهد ✵القدّيس البارّ أرسانيوس النوفغوروديّ المتباله ✵الشّهيد فيكتور الميلانيّ ✵القدّيسان البارّان ويرو وغوبريانوس الإيرلنديَّان.

* * *

✤ القدّيس البارّ أرسانيوس الكبير (+449 م)✤

أوّل مَن كتب سيرة القدّيس أرسانيوس الكبير كان القدّيس ثيودوروس السّتوديتيّ (759– 826 م). قبله كانت أخبار أرسانيوس مبعثرة. ثيودوروس هو أوّل مَن جمعها. الرّاهب كيرلّلس البيسانيّ (القرن السّادس)، في كتابته لسيرة القدّيس أفثيميوس الكبير، أورده وكذلك القدّيس يوحنّا السّلّميّ (570– 649 م). كما ورد بعض أخباره وأقواله في أخبار آبار البريّة، والقدّيس سمعان المترجم (+960 م) جعل له أيضًا سيرة مُتتابِعَة.

كيف وصفه القدّيس ثيودوروس السّتوديتيّ؟

قال عنه إنّ فضيلته كانت سامية وقد جعلته مُعادلًا، بمعنى، للملائكة. المتوحِّدون الّذين بلغوا حدّ الكمال الّذي بلغه هم قليلون جدًّا. وقد كان ارتفاعه ساميًا بمقدار عنايته بالسّلوك في تواضع القلب. يكفي وحده ليشرِّف ويعطي الرّهبانيّة بهاء عجيبًا. صمد، في قوّة فائقة وصبر لا يُقهر، في معاركه وأتعابه في حياة التّوحّد. شعوره بنخس القلب كان شديدًا ومُرهفًا لدرجة أنّ الدّموع الّتي كان يذرفها من عينيه كانت لا تنضب. خلاصة القول بشأنه أنّه أعطى أمثلة بديعة لكلّ فضيلة بحيث لا يسعنا أن نذكِّر به دون أن نشعر برغبة في الاقتداء به.

أخباره قبل الرّهبانيّة

كان مواطِنًا رومانيًّا من عائلة امتازت بنبلها وغناها. برع في العلوم حتّى أضحى أحد أبرز علماء إيطاليا، في زمانه، في اللّغة اليونانيّة واللّاتينيّة وبقيّة العلوم.

ذاعت شهرته حتّى بلغت أسماع الأمبراطور ثيودوسيوس الكبير فاستقدمه إلى القسطنطينيّة ليكون مربِّيًا لأولاده. وصل إلى القصر الملكيّ في حدود العام 383 م. كان قد بلغ التّاسعة والعشرين، ممّا يجعل مولده في حدود العام 354 م. أركاديوس ابن ثيودوسيوس كان في السّادسة من عمره ولم يكن هونوريوس، أخوه، قد أبصر النّور بعد.

كانت لأرسانيوس مكانة رفيعة في القصر. المتوحِّدون أسموه فيما بعد “أب الأباطرة”. القدّيس ثيودوروس السّتوديتيّ قال عنه إنّه احتلّ المكانة الأولى بعد الأمير. وهذا يتماشى مع ما ذكره القدّيس سمعان المترجم أنّ الإمبراطور جعل أرسانيوس في رتبة الشّيوخ وأعطاه لقب البطريق.

بدا أرسانيوس، في القصر، وجهًا بارزًا، يتزيّى من الأزياء بأفخرها وله من الأثاث أفخمه. وكان، إلى ذلك، يتعطّر من الأطياب بأثمنها، وله في خدمته ألف من الخدم يرفلون بأثوابهم الغنيّة.

باطل الأباطيل

على أنّ الله الّذي شاء لأرسانيوس، في ألطافه، أن يسمو إلى مراق أثبت من تلك الّتي بلغها، لم يسمح لكرامات هذا الدّهر أن تبهر عبده فوق الحدّ إذ ترك له أن يتبيّن بطلان هذا الألق. فلقد كان أرسانيوس، من حين إلى آخر، يعود إلى نفسه ويفطن أنّ رفعته وغناه كانا عابرين وأنّ الجميع، في نهاية المَطاف، مُجبرون على إخلاء مواقعهم. إذ ذاك لا يأخذون معهم سوى أفعالهم. وكانت النّعمة الإلهيّة، إلى هذه المُعاينة الدّاخليّة، تحرّك فيه خوفًا شديدًا على خسران نفسه. لذا كان يلقي بنفسه عند قدمي الله ويذرف لديه الدّمع ويرفع الصّلاة سائلًا إيّاه بصدق كبير أن يعرِّفه بما عليه أن يفعله ليخلص. ويبدو أنّه ثابر في هذا المنحى وزاد إلى أن حظي من إلهه بنعمة أخرجته من مخاض الرّهبة والتّسآل إلى ولادة جديدة للتّوبة. فذات يوم، إذ كان يطرح على ربّه همَّ قلبه إيّاه بدموع وتوسّلات مكسورة، إذ به يسمع صوتًا يقول له: “فرّ، يا أرسانيوس، من صحبة النّاس فتخلص”. جاءته الكلمة حين كان كلّه مهيّئًا لسماعها واقتبالها والسّلوك فيها. فقام سرًّا وارتحل. سافر في سفينة إلى الإسكندريّة ومنها انتقل إلى بريّة الإسقيط ليقتبل حياة التّوحّد. عمره كان حوالي الأربعين. إذن كانت السّنة في حدود 394 م.

… وجاء إلى المتوحِّدين

وجاء أرسانيوس إلى كنيسة المتوحِّدين في بريّة الإسقيط. هناك خاطبهم بدعة كبيرة سائلًا: “أتوسّل إليكم أن تقبلوني في عداد الرّهبان وأن تبيِّنوا لي الدّرب الّذي عليّ أن أتّبعه لأخلص”. استبان لهم شخصيّة مرموقة. سألوه مَن يكون، من أين يأتي، ماذا كان يعمل في العالم. حاول إخفاء هوّيته. قال إنّه غريب جاء يطلب الخلاص. أخيرًا تكلّم. أربكهم وتساءلوا مَن تراه من الشّيوخ موافق لتنشئة معلّم أولاد معلّم العالم على الفضائل الرّهبانيّة. وبعدما تشاوروا فيما بينهم وقع اختيارهم على القدّيس يوحنّا القصير فجاؤوا به إليه. أخبروه مَن يكون وما قصده. لم يردّ عليهم بكلمة. مدّ لهم المائدة وجالسهم إلّا أرسانيوس بقي واقفًا. لم يُعره القدّيس يوحنّا أي اهتمام. بدا غير آبه به. يا له من امتحان لرجل كان له القصر الملكيّ مستقرًّا! ولم يكن هذا سوى مقدّمة لامتحان أشقّ. فبعدما تركه يوحنّا في هذه الوضعيّة المهينة أخذ خبزة وألقاها على الأرض، في الوسط، ثم تطلّع إليه وقال له بلهجة لا مبالاة فيها: “كُلْ إذا شئت”. للحال جعل أرسانيوس نفسه على أربعة واتّجه نحو الخبزة ليأكلها وهو في هذه الوضعيّة. مثل هذه الوداعة النّادرة جعلت القدّيس يوحنّا يدرك صلابة عزم أرسانيوس على اقتبال الحياة النّسكيّة. لذلك اكتفى بهذا القدر من الامتحان وطلب صلاة الشّيوخ واستودعهم الله. وقد ورد أنّ الشّيوخ سألوا أرسانيوس، فيما بعد، ما الّذي خطر بباله عندما عامله يوحنّا على النّحو الّذي وصفنا، فأجاب اعتبر نفسه كلبًا وأكل الخبزة ككلب.

تلميذ لفترة قصيرة

لم تطل فترة تلمذة أرسانيوس إذ تلقّن، بسرعة، فروض الحالة الجديدة الّتي جعل نفسه فيها. وقيل حقّق، في فترة قصيرة، تقدّمًا كبيرًا في طريق الكمال وفاق، بتجلّده على أفعال التّوبة، كبار شيوخ البريّة، وكذلك بصبره وشجاعته وتصميمه على مواجهة الأهواء وإبليس. وكما كان مُميَّزًا بعلمه في العالم بات في البرّيّة مميَّزًا بتواضعه وتشدّده على نفسه. كلّ هذا جعل أباه الرّوحيّ يتبيّن عمل الله فيه فلم يستبقه طويلًا وتركه يذهب ليتعلّم على حدة وحده.

مغالاته في الابتعاد عن النّاس

وصلّى أرسانيوس وطلب من ربّه أن يهديه من جديد فجاءه صوت يقول له: “يا أرسانيوس فُرَّ من النّاس واحفظ الصّمت وأقم في الرّاحة: هذه هي الأساسات الأولى الّتي عليك إرساؤها لتُشيد بناء خلاصك”.

إثر ذلك توغّل القدّيس في البرّيّة حتّى إلى حوالي الخمسين كيلومترًا بعيدًا عن كنيسة الإسقيط ليتسنّى له أن يكون بمنأى عن خلطة النّاس. لازم قلاّيته وكانت مغارة ولم يعد يُغادرها. كما أخذ يعتمد، فيما بعد، على خدمة تلاميذ له. كان لا يستقبل أحدًا إلّا آسفًا ويسعى، في نطاق الممكن، إلى اجتناب زائريه. جاءه، مرّة، ثيوفيلوس، بطريرك الإسكندريّة ومعه آخرون وسأله كلمة منفعة. فلم يجبه على الفور. ولمّا فتح فاه كلّمه على هذا النّحو: “لو قلتُ لك شيئًا أكنتَ تلتزمه؟” فأجاب: “بالطّبع!” فأردف: “إذن حيثما عرفتَ أنّ أرسانيوس موجود لا تأتِ إليه”.

تمسُّك أرسانيوس بالوصيّة الإلهيّة الّتي نزلت عليه أن يغادر النّاس أبدًا كان كبيرًا. مرّة جاءه متوحّد ونَقَرَ على بابه ففتح له ظنًّا منه أنّه تلميذه. فلمّا وقعت عينُه عليه ألقى بنفسه أرضًا وغطّى وجهه وجعل يقول للمتوحّد الّذي رجاه أن يقف على قدميه، أقول جعل يقول له أن يذهب عنه أوّلًا، وهو فاعل ما طلبه منه. آخرون كانوا يأتون إليه فلا يستقبلهم بل يوعز إلى تلميذه أن يقدّم لهم ضيافة ويعتذر له منهم لأنّه لا يشاء أن يقطع تأمّله في السّماويّات. لقوم اضطّر لمقابلتهم قال: “طالما بقيت الفتاة في منزل أبيها فإنّ إكرامًا كبيرًا يكون لها. فإن خرجت خارجًا، فإنّه لا يعود لها نفس الاعتبار. هكذا شؤون النّفس، إذا عرضناها لكلّ النّاس…”. القدّيس يوحنّا السّلّميّ قدّم أرسانيوس نموذجًا لنسّاك زمانه قائلًا: “يا مَن يقيمون في البريّة تذكّروا هذا الملاك واعتبروا كيف كان يردّ القادمين إليه، حتّى من دون أن يكلِّمهم بكلمة لأنّه لم تكن له رغبة أن يتلهّي عن الله، الأمر الّذي يفوق كلّ أحاديث النّاس قيمة”.

وجاءه ناسك، مرّة، فاستقبله ولم يكلّمه بكلمة فذهب إلى القدّيس موسى الأسود. هذا أظهر له محبّة كبيرة وقدّم له طعامًا فسرّ النّاسك بزيارة الأخير أكثر ممّا سُرّ بزيارة الأوّل. فلمّا بلغ خبرُ ما جرى أحد الشّيوخ قام في الصّلاة وسأل الرَّبّ الإله أن يعرِّفه لماذا يهرب أرسانيوس من عشرة النّاس محبّة له فيما يقتبل موسى الأسود كلّ النّاس بالمحبّة عينها. فإذا بالشّيخ يقع في غيبوبة ويرى مركبَين يسيران على النّيل، في أحدهما أرسانيوس يقوده الرّوح القدس في راحة وسكون كبيرَين، وفي الآخر الأنبا موسى تقوده ملائكة الله وتملأ فاه عسلًا.

أحد النسّاك، المدعو مرقص، سأله، مرّة، لماذا يجتنب الحديث إلى الإخوة فأجابه قائلًا: “يعلم الله أنّي أحبّكم، ولكن ليس في وسعي أن أكون مع الله ومع النّاس في آن. فإنّ للملائكة رغم كونهم لا يُحصَون عددًا إرادة واحدة، فيما يختلف النّاس أحدهم عن الآخر اختلافًا كبيرًا. لهذا لا أشاء أن أترك الله لأتبادل الكلام مع النّاس”.

إلى ذلك كان أرسانيوس يقول إنّه كثيرًا ما ندم على كلامه، أمّا الصّمت فلم يحصل له أن ندم عليه مرّة واحدة. وكثيرًا ما كان يُسائل نفسه: “لماذا خرجت يا أرسانيوس من العالم”.

في شأن صلاته وأسهاره

وعلى قدر ما كان حرص أرسانيوس على حفظ الصّمت كان حرصه على حفظ الصّلاة.

جاءه أخ، يومًا، اصطفاه الله لمُعايَنَة عجائب مراحمه في مختاريه، فنظره، من النّافذة، كما لو كان كلُّه في النّار. على هذا النّحو توقّدت نفس أرسانيوس في الصّلاة.

في الكنيسة، على ما شهد تلميذه دانيال، كان ينتصب وراء أحد الأعمدة، إمّا لأنّه لم يشأ أن تُلهيه الأمور الخارجيّة وإمّا لأنّه لم يُرد أن يرى أحدٌ وجهه الّذي كان، بالفعل، كوجه ملاك.

ليالي القدّيس الطوال كان يقضيها في صلاة متواترة. دانيال خبّر أنّ الشّمس في السّبوت كانت تنحدر إلى مغيبها من ورائه، إذ كان يصلّي ووجهه متّجه نحو الشّرق وذراعاه ممدودتان إلى السّماء. على هذه الوضعيّة كان يبقى إلى أن تشرق الشّمس، في اليوم التّالي، وتسطع على عينيه. إذ ذاك، فقط، كان يأخذ قسطًا من الرّاحة، داعيًا النّوم إلى موافاته على هذا النّحو: “هيّا، الآن، أيّها العبد الشّرّير!”. لكنّه إذ كان يُغمض عينيه، كان لا يلبث أن يفتحهما من جديد وينهض. هذا لم يكن دأبه في السّبوت، في الحقيقة، وحسب، بل كلّ يوم من أيّامه. كان يقول إنّ الرّاهب إذا رغب في التّصدّي لأهوائه تصدّيًا حسناً كان عليه أن يكتفي، من النّوم، بساعة واحدة في اليوم. على أنّ إبليس لم يكفّ عن تجربة أرسانيوس في أمر النّوم وسواه من الأمور. وقد شكا أمره، مرّة، لتلميذَيه ألكسندروس وزوييل وسألهما أن يُمضيا اللّيل معه لينظرا ما إذا كان ينغلب للنّوم على غير وعي منه. ففعلا ولم يلاحظا سوى أنّه عند فجر اليوم التّالي أغمض عينيه وتنهّد ثلاث مرّات أو أربع بحيث لم يتمكّنا من الحكم ما إذا كان قد غفا فعلًا أم لا.

داخلياً لم يكن ثمّة ما يحوِّله عن صلاته، لكن أقلّ صوت يأتيه من الخارج كان يقطع عليه خلوده إلى ربّه. كان، مرّة، بمعيّة عدد من المتوحّدين، في موضع كثر فيه القصب. فإذا به يسمع ضجيجًا فسأل ماذا يكون فقالوا له إنّه الهواء ينفخ في القصب، فأجاب: “إنّي لأعجب كيف تقدرون أن تعتادوا على هذه الضجّة، فلو أقام المتوحّد في هدوء حقّاني فحتى تغريد العصفور يقلق، قليلًا، سلام قلبه وسكونه”.

في المحافظة على هدوء الرّوح والقلب كان يقول: “إذا بحثنا عن الله وجدناه وإذا عرفنا أن نحافظ عليه بقي معنا”.

علم المتوحّدين البسطاء والعلوم الإنسانيّة

ممّا أورده القدّيس ثيودوروس السّتوديتيّ عنه أنّه كان يكشف أفكاره لمتوحِّد مَصريّ متقدِّم في السّنّ لم يتلقّ من العلوم الإنسانيّة سوى القدر اليسير. فجاء إلى أرسانيوس مَن سأله: “كيف يا أنبا أرسانيوس، وأنت متعمِّق في العلوم اليونانيّة واللّاتينيّة تستشير هذا العجوز الفلّاح الطيِّب الجاهل؟” فأجابه: “صحيح أنّي متضلِّع، بعض الشّيء، في العلوم الّتي ذكرت، لكنّي لم أصل، بعد، إلى معرفة ألفباء هذا المسنّ الّذي تراه ريفيًّا”.

سأله أفغريوس، مرّة، عن بعض الرّهبان المصريّين الّذين بالكاد يبالون باكتساب العلوم الإنسانيّة: “لماذا نجدنا، بعدما انكببنا على الدّرس والعلوم، لمّا نكتسب أيّة فضيلة، فيما هؤلاء المصريّون الّذين يجهلون الآداب قد أجادوا في التّقوى؟ فأجابه القدّيس أرسانيوس: “هذا لأنّنا انشغلنا انشغالًا كاملًا بهذه العلوم الباطلة. في مقابل ذلك يحوِّل هؤلاء المصريّون كلّ عنايتهم، رغم غلاظتهم، ناحية الفضائل ويعملون لها بجدّ واجتهاد حتّى يقتنوها”.

فقره وتجرّده

على قدر ما كان غنى أرسانيوس في العالم صار فقره في البريّة. مرض مرّة واحتاج إلى كتّان، وكان الكتّان زهيد الثّمن، ومع ذلك لم يكن لديه ما يدفع به ثمنه. فلمّا قدّم له أحدهم ما يحتاج إليه إحسانًا، صلّى قائلًا: “أشكرك، يا إلهي، لأنّك أهّلتني أن أصير بحاجة إلى الحسنة باسمك”.

مرّة أخرى، مرض فجعله كاهن الإسقيط على سرير صغير في الكنيسة وجعل وسادةً تحت رأسه، فرآه شيخ فعثر وحسبه يتنعّم، فأخذه الكاهن وسأله عن مهنته في العالم فقال: كنت راعيًا؟ – وكيف كانت معيشتك؟ – شقيّة صعبة! – وكيف حالك الآن في قلاّيتك؟ – أنعم بالرّاحة. فشاء الكاهن أن يشفيه من حكمه على أرسانيوس فقال له: أترى الأنبا أرسانيوس، إنّه كان أب الأباطرة وكان له ألف خادم وكان ينام على سرير وثير بديع. أترى الفرق بينك وبينه؟ أنت أتيت إلى الرّاحة وهو إلى التّعب. أنت أتيت إلى الوفرة وهو إلى الشّقاء. للحال تبيّن للشّيخ خطأه فاستسمح وانصرف.

كذلك جاءه، مرّة، موظف كبير من موظّفي القصر حاملًا إليه وصيّة أحد أقربائه وكانت له رتبة المشيخة، وفي الوصيّة أنّه جعل أرسانيوس وريثًا لتركة كبيرة له. فهمّ أرسانيوس بتمزيق الوصيّة فرجاه الموظّف ألّا يفعل وإلّا قُطع رأسه. فأجاب قدّيسنا: “كيف أمكن قريبي أن يجعلني وريثًا له وقد مات منذ فترة وجيزة، فيما متّ أنا منذ زمن بعيد؟” على هذا ردّ الوصيّة ولم يأخذ لنفسه شيئًا من الميراث.

من جهة أخرى، نقل عنه الأنبا دانيال أنّه لما كان يصنع السّلال وكان ينقع جرائد النّخل في الماء، كان يحدث أن ينتن الماء فلا يشاء أن يجدِّده، بل يكتفي بإضافة المزيد إلى النّتن. وكانت تنبعث من الماء رائحة كريهة للغاية. لسان حال أرسانيوس كان: “حين كنت في العالم كنت أُكثر من استعمال العطور الفاخرة، لذلك حقّ عليّ الآن أن أصبر على هذه الرّائحة الكريهة لأُعوِّض عن متع الجسد، حتّى إذا ما تحمّلتها، بطول آناة، نجّاني الله، في يوم الدّينونة، من نتن الجحيم الّذي لا يُحتمل وأُعفيت من المصير البائس لذاك الغني الّذي عاش في الرّفاه والإسراف”.

هذا وقد اعترف تلاميذ أرسانيوس أنّ إمساكه عن الطّعام كان مُحيِّرًا لأنّه لم تكن لهم فكرة عن معيشته ممّا يقتات. فلسنوات عديدة، كما قال دانيال، أحد تلامذته، لم نكن نأتيه إلّا بكميّة صغيرة من الطّعام كلّ سنة، ومع ذلك فإنّها كانت لا تكفيه وحسب بل تزيد عن حاجته لأنّه كان يُعطينا منها أيضًا كلّما ذهبنا لرؤيته. أمّا الفواكه فكان يمتنع عنها إلّا متى نضجت جيّدًا، حينذاك كان يكتفي بمجرّد ذوقها قليلًا.

دموعه

كانت الدّموع ربيبة أرسانيوس، ترافقه دائمًا. حتّى حين يعمل في شغل الأيدي، لم يكن استغراقه في الإلهيّات لينقطع. كان مأخوذًا أبدًا بحضرة إلهه مذهولًا. لهذا السّبب كان دائمًا ما يستعين بمنديل ليمسح دموعه المُترقرقة من عينيه، أثناء العمل وخارج أوقات العمل سواء بسواء. ومن كثرة ما كان يبكي خطاياه ولمُعاينة الله سقط شعر جفنيه. ذِكرُ الموت كان حاضرًا لديه أبدًا. صرامة أحكام الله في عينيه كانت تزيده رعدة مقدّسة، حتّى قال عنه ثيوفيلوس الإسكندريّ حين دنت ساعة موته: “طوباك يا أرسانيوس لأنّه كانت عندك، كلّ حين، هذه اللّحظة المخوفة!”.

تنقُّله

مرّتان اضطرّت هجمات برابرة المازيك أرسانيوس إلى مغادرة الإسقيط إلى أبوقير. كذلك كلّما أخذته زيارات الزّوّار ولم يكن باليد حيلة كان يغيِّر مكانه. عن الإسقيط وهجرة الرّهبان منه اعتبر أن الأمر كان بتدبير من الله لأنّ الرّهبان، يومذاك، سقطوا في التّراخي وأدخلوا مفاسد إلى الأديرة. لذا قال: “جماهير الشّعب تسبّبت في خراب رومية وجماهير الرّهبان تسبّبت في خراب الإسقيط”.

وذات مرّة أراد أن ينفصل حتّى عن تلميذَيه الكسندروس وزوييل فخرج إلى الإسكندريّة ومرض هناك مرضًا ثقيلًا. ومع أنّ تلميذَيه عرفا بمكانه فإنّهما لم يذهبا إليه لئلّا يكسرا كلمة الطّاعة الّتي زوّدهما بها. فلمّا قرّر العودة إليهما، وكان يسمِّيهما “أبويه”، فرحا به كثيرًا. ولمّا أخبراه أنّهما كانا في حزنٍ شديدٍ لأنّ الآباء عيّروهما أنّه ما كان أرسانيوس ليتخلّى عنهما لو كانا مُطيعَين كفاية له. فأجابهما: كنت أعرف أنّ ذلك سيحدث لكما. أمّا الآن فنغيِّر الكلام ونقول: “إذ لم تجد الحمامة مستقرًّا لقدميها عادت إلى نوح في الفلك!” بعد ذلك بقيا معه حتّى موته.

وصيّته وموته

لمّا دنت ساعة موته قال لتلاميذه، ومنهم دانيال، ألّا يجمعوا حسنات عنه بعد موته إذ أراد أن يحتفّ به الفقر في حياته وفي موته معًا. فقط طلب أن يُذكر في الذّبيحة الإلهيّة حتّى إذا ما كان قد صنع صالحة في حياته وجدها لدى ربّه. كذلك أوصاهم ألّا يعطوا شيئًا من جسده ليُحفظ بمثابة رفات مقدّسة. وهدّدهم إن خالفوه اشتكى عليهم لدى منبر الله. عاش في التّواري طويلًا وأراد أن يموت في التّواري أيضًا. كذلك طلب أن يربطوا رجلَيه بحبل ويجرِّروه إلى الجبل ليدفنوه هناك.

ولمّا بات مُستعِدًّا للرّحيل أخذ يبكي فاستغرب تلاميذه وسألوه: “لِمَ تبكي، يا أبانا؟ أأنت أيضًا تخشى الموت كباقي النّاس؟ أجاب: “أجل، من دون شكّ، وهذا الخوف لم يفارقني منذ أن توحّدت”.

بمشاعر الاتضاع هذه أسلم الرّوح مكمَّلًا بالفضائل بعدما بلغ الخامسة والتّسعين. سنة وفاته، كما يحسبها الدّارسون، هي بين العامَين 449 و 450 م.

لمّا عرف القدّيس بيمين بموت أرسانيوس هتف بدموع: “طوباك يا أرسانيوس لأنّك بكيت في حياتك فإنّ الّذين لا ينتحبون في هذه الحياة سينتحبون في الحياة الآتية، إلى الأبد، لأنّه يجب إمّا أن نبكي ههنا بتوبة طوعيّة أو نبكي هناك بلا أدنى فائدة بفعل العذابات الّتي نكابدها.

هيأته

كان وجهه ملائكيّ الطّلعة كما قيل عن وجه يعقوب. كان كبير القامة، جميل الهيأة، مُنحنيًا بتأثير الأيّام. زاده شعره الأبيض وقارًا. وكانت لحيته تنزل حتّى إلى وسطه وحاجباه من دون شعر لبكائه المُتواصِل. هكذا وصفه كاتبو سير آباء البرّيّة.

من تعليمه في احتيالات العدوّ

كان من عادة متوحّدي الإسقيط أن يجتمعوا، أحيانًا، ليتكلّموا في الشّؤون الرّوحيّة ويحرّضوا بعضهم بعضًا على مُحاربة الرّذائل وممارسة الفضائل. ثمّة حديث قصير للقدّيس أرسانيوس تفوَّه به في أحد هذه المجالس تناول فيه شتّى احتيالات إبليس لخداع المتوحّدين وكيفيّة اكتشافها وتجنّبها. دونك ما جاء على لسانه: “تعلمون، يا آبائي وإخوتي، أنّ النّاس لا يتحرّكون، عادة، بلا تبصّر وان لهم دوافع تحرّكهم وينشدون غايات محدّدة. نحن أنفسنا اختبرنا هذا الأمر عندما تركنا العالم. فإن قصدنا لم يكن سوى اقتناء نقاوة القلب وقداسة نفوسنا. لذا علينا أن نعمل، بلا هوادة، من أجل تنقية أنفسنا، لا من الخارج بل في داخلنا أيضًا، وهذا أصعب ويتطلّب منّا جهدًا جهيدًا لأنّ حرب الأهواء أشدّ وأقسى، وإحراز النّصرة عليها يكلِّف غاليًا.

كثيرون تمكّنوا من تذليل أجسادهم بالأصوام وأصناف التّقشّف بحيث وهنت توثّبات أجسادهم إلى حدّ بعيد. لكنّهم لم ينكبّوا، بنفس المقدار، على إخضاع الرّغبات السّيِّئة لنفوسهم. فبإمكاننا القول، والحال هذه، أنّهم لم يتنقّوا إلّا نصفيًّا. فإنّهم أوّلوا كلّ اهتمامهم حرمان ذواتهم متع الحواس الخارجيّة وأن يقعوا في الرّذائل الغليظة السّمجة. وهذا، بلا شكّ، أمر ممدوح وضروريّ جدًّا، لكنّهم لم يعملوا على الإطاحة بالرّذائل الرّقيقة الخفيّة في قلوبهم كالحسد وحبّ المجد الباطل والعُجب والرّغبة في الغنى والكبرياء الّذي هو رذيلة كبرى. بإمكاننا تشبيه هؤلاء المتوحّدين بتماثيل تلمع من الخارج ببريق الذّهب والبرونز، ولكن لا يملكون في داخلهم سوى النّجاسة والمادّة الخسيسة. لذلك لا يكفي أن نصلح فينا الإنسان الخارجيّ، إذا كنا نريد أن نبلغ النّقاوة الكاملة للقلب. إنّها هذه الرّذائل الدّاخليّة الّتي ينبغي، بالدّرجة الأولى، مهاجمتها والسّعي إلى تحطيمها.

كذلك، عليكم ألّا تنسوا، يا إخوتي، أنّ إبليس يستعمل كلّ حيلة لإغراء المتوحّدين، وأنّ إحدى أخطر حيله هي أن يعرض عليهم الخير في الظّاهر لكي يجتذبهم، فيما بعد، بسهولة إلى الشّرّ الكمين. على هذا النّحو، مثلًا، يوحي للبعض، بمحبّة الضّيافة لكي يدفعهم إلى معاملة الّذين يأتون لزيارتهم معاملة حسنة لائقة، ومن ثمّ إلى شراهة الفم. على هذا يبدو لهم كأنّهم لم يقصدوا سوى تعاطي المحبّة، وأذ أخذوا يعتادون الطّعام إلى ضيوفهم أخذوا يعتادون الشّراهة، وأخيرًا رذائلَ أخرى لها في الشّراهة مبدؤها. كذلك أوحى إبليس لآخرين بأن يجمعوا المال ليكون لهم ما يعطونه للفقير، وبهذا أنّفذ في قلوبهم الجشع والطّمع وأولد فيهم البخل.

كذلك خدع إبليس آخرين بحجّة التماس الخير الرّوحيّ للقريب، فحملهم على الظّنّ أنّهم لو انكفأوا في قلاليهم لجعلوا أنفسهم غير نافعين، وأنّ عليهم، بالأحرى، أن يسعوا إلى ما فيه خير الآخرين. على هذا، إذ أعاروا هذا الإيحاء انتباهًا، تركوا خلوتهم وانخرطوا في أحاديث مع أهل العالم، وحتّى مع النّساء. وإذ اتّكلوا أكثر من اللّزوم على الفضيلة الّتي ظنّوا أنّهم اقتنوها، كما لو أنّه لم يعد لهم ما يخشونه من جهة نفوسهم وأنّهم باتوا أبعد من أن تطالهم التّجربة، عرّضوا أنفسهم لأخطار الظّروف، وسقطوا أخيرًا سقوطًا شنيعًا.

ودونكم أحد أخطر فخاخ عدوّ نفوسنا هذا. فإنّه يترك بعض المتوحّدين، أحيانًا، ولبعض الوقت، دون أن يجرِّبهم. وإذ يظنّون أنفسهم بمنأى عن الرّذائل لأنّه لا تجربة تعترضهم لمحاربتها، تراودهم مشاعر العُجب كما لو أنّهم باتوا كاملين. وهكذا يقعون في لجّة الكبرياء. أو أنّهم لا يرون أي عدوّ حيالهم فيتوقّفون عن السَّهر على أنفسهم كما لو أنّه لم يعد هناك ما يخشونه. وعلى هذا يقيمون في البطالة ويقعون في الإهمال فيرتاحون، بمعنى، إلى أمان كاذب. وفيما يظنّون أنفسهم في مأمن من كلّ شرّ، ينقضّ إبليس عليهم، فجأة، بتجربة عنيفة ويوقعهم، بسهولة، لأنّهم لم يأخذوا حذرهم منه بما فيه الكفاية.

فإذا ما أخذنا حيل إبليس في الاعتبار، يا إخوتي، وكيف أنّه ينقضّ علينا بشتّى الطّرق، ممّا لا يتيسّر لنا دائمًا اكتشافها، نجدنا بحاجة إلى انتباه أكبر لأنفسنا وإلى حرص متواتر على حواسنا وعلى ما يجول في داخلنا. فإنّنا نحتاج إلى روح التّمييز والدّراية ولأن نطلب، كلّ حين، من الرَّبّ الإله، أن ينيرنا ويحفظنا من خديعة مظهر الخير الّذي يعرضه الرّوح الخبيث علينا ليوقعنا في الخطيئة بالأكثر. لنكن حذرين، إذًا، في كلّ آن، ليتسنّى لنا أن نكتشف من أيّة جهة ومتى وكيف يأتي المجرِّب ليهاجمنا”.

ومن أخباره أيضًا، أنّ راهبًا اشتكى أنّه، أثناء قراءته للكتاب المُقدّس، كان لا يشعر لا بقوّة الكلام ولا بحلاوته في القلب. فأجابه القدّيس أرسانيوس: حسبك يا ولدي، أن تقرأ! لقد سبق لي أن سمعت أن رُقات الأفاعي متى شاؤوا تعاطي عمل الرّقية تلفّظوا بكلمات هم أنفسهم لا يفقهونها، لكن الحيّات، متى تناهت إليها الكلمات المنطوق بها، شعرت بقوّتها وتروّضت. هكذا الأمر بالنّسبة لنا حين تجري كلمات الكتاب المُقدّس على شفاهنا بتواتر، فحتّى لو لم نقدر أن نشعر بقوّتها فإنّ الأرواح الشّرّيرة، لدى سماعها إيّاها، تفرّ مذعورة لأنّه لا طاقة لها على احتمال كلمة الرُّوح القُدُس فاقرأ يا ولدي ولا تبالي بأيّ شيء آخر. فإنّ الرُّوح القُدُس الّذي كتب الكلمات الإلهيّة بأولئك المُوحى بها إليهم، سوف يسمع ويفهم ويُبادِر إلى معونتك. كذلك الأبالسة ستسمع وتفهم وتهرب منك. إذن مَن تستجير به سيفهم ومَن تشاء أن تطرده عنك سيفهم أيضًا. وهكذا كلا القصدَين يتحقّق.

مواضيع ذات صلة