في هذا اليوم تُقيم الكنيسة المُقدَّسَة تَذكار:
*القدّيس البارّ ذيوس الأنطاكيّ *القدّيسة البارّة مَكرينا ورفيقاتها الأربع *البارّان ثيودوروس الرَّهّاوي وابن أخته ميخائيل الشّهيد *القدّيس البارّ برلعام الجبل الأقرع *أبونا الجليل في القدّيسين غريغوريوس بانيدوس المعترف *القدّيس البارّ ذيوكليس المصريّ *الشّهيد رومانوس أمير ريازان *القدّيس البارّ بائيسيوس لافرا المغاور *القدّيسان الصّربيّان استفانوس وميليتسا *نقل رفات وإعلان قداسة القدّيس سيرافيم ساروفسكي.
* * *
✤ القدّيسة البارّة مَكرينا ورفيقاتها الأربع ✤
هي أخت القديس باسيليوس الكبير(1 كانون الثاني) والقديس غريغوريوس النيصصي (10 كانون الثاني)، وهي البكر في عائلة قوامها عشرة أولاد جلّهم قديسون. لمّا أبصرت النور، سنة 327م، تراءى شخص عجيب لأمها في ثلاث مناسبات، وأمرها أن تسمى الطفلة بأسم القديسة تقلا أولى الشهيدات ومثال العذارى، المعيّد لها في 24 ايلول. وقد حفظت الأم الاسم سرّاً فيما اتخذت الابنة أسم جدتها مكرينا الكبرى التي تتلمذت للقديس غريغوريوس العجائبي (17 تشرين الثاني) وعاشت في البنطس، في الغابات، زمن الاضطهاد الكبير.
اهتمّت أمّها بتنشئتها لا على الثقافة الدنيوية والطيش، كما كان حال من كانوا في مقامها، بل على كل ما كان، في الكتاب المقدس، موافقاً لسنـّها والاخلاق الحميدة، خصوصاً سفرّي الحكمة والامثال. كانت مزامير داود ترافقها في كل أنشطتها: في نهوضها، في انكبابها على العمل، في استكمالها له، قبل المائدة وبعدها، قبل رقاد النوم وفي النهوض ليلاً للصلاة. لـمّا بلغت الثانية عشرة من العمر استبان حسنها، خطبها شاب مميّز كان قد أنهى دراسته ووعد أن يتنتظر مكرينا ريثما تبلغ سنّ الزواج. لكن الله أخذه إليه قبل العرس فتسنى للقديسة ان تحقق رغبتها العميقة في أن تحيا في العذرة التماساً لله. تقدم إليها العديدون، لكن آثرت مكرينا أن تعتبر نفسها أرملة. على هذا قطعت نفسها عن العالم وأقامت مع أمّها وأهتمّت بحاجات المنزل، حتى ما كان مفترضاً أن يكون من نصيب العبيد لديهم. كذلك اهتمّت بمعاونة أمّها في تنشئة أخوتها وأخواتها. فلمّا رقد أبوها سنة 341م، تسلمّت إدارة الملكية العائلية الواسعة في البنطس وبلاد الكبادوك وأرمينيا. وهكذا، بمثالها الطيب، دعت أمّها إلى التحول صوب الخيرات التي لا تفنى، أي التأمل فب الله والفلسفة الحق. بنتيجة ذلك سلكا معاّ في الحياة النسكية وأقبلا على القراءة وتأمل الكتب المقدسة. وقد كانت مكرينا للجميع حامية ومربية ونموذج فضيلة في آن معاً. أمّا إميليا، والدتها، فلمّا استكملت تربية أولادها وزعت عليهم ميراثها وحولت البيت العائلي في أنيسا (بقرب قيصرية الجديدة) ديراّ. أما خادماتها فجعلتهن رفيقاتها في النسك، فيما نجحت مكرينا في إقناع باسيليوس العائد من أثينا، بعد دراسات لامعه، للتخلي عن مهنة واعدة، كأستاذ في البلاغة، ليقتبل الحياة الانجيلية. هذا وقد نشأت بقرب دير النساء، الذي نما بإنضمام أرامل نبيلات إليه، أخوية للذكور بعهدة شقيق مكرينا الاصغر، بطرس، راعي سبسطية العتيد. كذلك عمد اخوها القديس نوكراتيوس (8 حزيران) إلى الاعتزال في موقع شغله القديس باسيليوس، فيما بعد، على الضفة المقابلة لنهر إيريس، وكان يهتم بتوفير حاجات الفقراء المسنين من ثمار صيده.
فلمّا انعتقت مكرينا من ضرورات الجسد وضرورات الحياة سلكت ورفيقاتها في معتزلهن في سيرة على الحدود بين الطبيعة البشرية والطبيعة الملائكية. لم يكن يرى لديهن لا غضب ولا حسد ولا حقد ولا تعظم ولا شيء مثل ذلك. كل رغبة في الكرامة والمجد زالت لديهن. كانت لذتهن في الامساك ومجدهن في أن يكن مجهولات من الناس وثروتهن في ان لا يقتنّين شيئاً. كن يعتشن من تعب أيدهن، لكنهن أعتقن من كل همّ إذ تمثل اهتمامهن في معاينة الحقائق الإلهية والصلاة المتواترة وإنشاد الاناشيد. لم يكن عندهن فرق بين الليل والنهار لانهن استبنّ، ليلاً، ناشطات في أعمال النور، فيمّا استكنّ في النهار من كل اضطراب. وقد تنقى جسد القديسة مكرينا بالنسك فكان كأنه جسد القيامة. قد تذرف الدمع مدراراً وكل حواسها كانت خصيصة ما لله حتى خفـّت وسكلت في المعالي صحبة القوات السماوية. وأن سيرة الفلسفة الحق، في المسيح، بصلب كل أهواء الجسد، اتاحة لها النمو المضطرد في الفضيلة حتى الى ذروة الكمال الانجيلي.
ذات يوم أصابها، في الصدر، ورم خبيث فلم تشأ رغم توسل أمها، أن تقتبل عناية الطبيب لها معتبرة أن كشف جزء من بدنها لعيني رجل أشد وطأة من ثقل المرض. في مقابل ذلك أمضت الليل في الصلاة في الكنيسة، وأدّهنت بالتراب بعدما أوحلته بدموعها. في الصباح سألت إمياليا ان ترسم أشارة الصليب على صدرها فختفى المرض ولم يترك غير ندبة طفيفة.
بلغت مكرينا حداً من اللاهوى جعلها إثر وفاة نوكراتيوس، اخيها، في حادث صيد، مثلاً في ضبط النفس والايمان بالحياة الابدية. كذلك استبانت على كبر في النفس بإزاء الوفيات التي تعاقبت على الشركة، فكانت غير متزعزعة، نظير مصارع معرّض للضربات. هذا ما أستبانت عليه إثر وفاة أمّها، إميليا وشقيقها، شمس الارثوذكسية، القديس باسيليوس الكبير، واذا ما ابتليت في الحزن فعلى الكنيسة لخسرانها معلماً وسنداً عظيماً. ثم خلال المجاعة التي ضربت بلاد الكبادوك، سنة 368م، أضحى دير أنيسا مدينة حقانيـّة وملاذاً وعزاء لكل إنسان في الجوار. وبصلاة القديسة كان مخزون الحبوب الموزعة على المحتاجين يتجدد بصورة عجائبية.
بعد وفاة القديس باسيليوس بقليل، بلغ القديس غريغريوس النصيصي أن أخته مريضة جداً فزارها بعد تسع سنوات من الغياب. كانت ممدة على لوح خشب تكدها الحمى فيما روحها حره في تأمل المراقي السماوية. وفيما كان الشقيقان يستعيدان ذكرى القديس باسيليوس الكبير، انتهزت مكرينا الفرصة، بدل أن تنتحب، فتناولت وإياه مطولاً موضوع طبيعة الانسان ومعنى الخلق والنفس وقيامة الاجساد. في كل من هذه الموضوعات كان كلامها ينساب كمياه النبع، يسيراً وبلا عائق. حتى اللحظة الاخيرة، لم تكف عن الخوض في الفلسفة الحق، محبة الختن غير المنظور الذي كانت تتعجل الانضمام إليه دون أن يستبقيها أي تعلق بهذه الحياة. فلما شعرت بدنو اجلـّها كفتّ عن توجيه كلامها إلى من كانوا لديها وحولت عينيها إلى المشرق. وإذ بسطت يديها نحو الله تمتمت هذه الصلاة: “أيها الربّ، أنت من بدد عنا الخوف من الموت، أنت من جعل لاجلنا حدّ الحياة هنا على الارض مطلعاً للحياة الحقانية. انت من يعطي أجسادنا الراحة لبعض الوقت وتوقظنا من جديد على صوت البوق الاخير. أنت من ترك في الارض ما جبلته يداه ليعود ويطلب ما أعطاه، محولاً بالخلود والجمال ما هو فينا مائت ومشوّه. انت من اعتقنا من اللعنة والخطيئة، صائراً لنا الامرين معاً. أنت من حطم رأس التنين الذي أحدر الانسان إلى جبّ العصيان، قابضاً عليه من الرقبة. انت من فتح طريق القيامة بعدما حطم ابواب الجحيم وأبطل قوة من له سلطان الموت. أنت من أعطى جميع الذين يخافونه علامة صليبه المقدس ليبيد العدو ويعطي الامان لحياتنا. أيها الإله الأزلي الذي إليه ألقيت من حشا أمي، أنت من أحبته نفسي من كل قوتها، أنت من كرست له جسدي ونفسي منذ الشبابية وحتى هذه اللحظة، أنت أجعل لدي ملاك نور يقتادني من يدي إلى موضع العزاء حيث ماء الراحة، في حض الاباء القديسين. انت من حطم شعلت السيف اللهيبي وأقام في الفردوس اللص الذي صُلب معه وأسلم لمراحمه، انت أذكريني في ملكوتك لاني انا، أيضا، صُلبت معك، وسمّرتُ جسدي بمخافتك، واستبدّ بي الخوف من احكامك. لا تفصلني عن مختاريك بهوة سحيقة. لا ينتصبن الحسود بإزائي على الطريق التي أسلك فيها ولا توضعن خطيئتي أمام عينيك اذا ما كنت لضعف طبيعتنا قد وقعت في الخطيئة بالفكر او القول او العمل. أنت من له على الارض سلطان أن يغفر الخطايا، اغفرها لي لاتنفس الصعداء، ومتى انفصلت عن هذا الجسد ظهرت امامك بنفس لا تدان ولا عيب فيها كالبخور امامك”.
مثل هذه الكلمات رسمت القديسة علامة الصليب على عينيها وفمها وقلبها. ثم إذ اشتركت بصمت في خدمة المساء تنهدت تنهداً كبيراً وغادرت، في آن، صلاتها وحياتها على الارض. خلال الصلاة عليها التي ترأسها القديس غريغوريوس واشترك فيها جمهور كبير، تلألأء جمال القديسة مكرينا الروحي في جسدها الذي تنزين جسد فتاة مخطوبة. وإذ رافقتها التراتيل، كان في اعياد الشهداء، ووريت الثرى في إيبورا، في الضريح الذي ضم رفات ذويها، في كنيسة الاربعين شهيدا.
الطّروباريّة
بكِ حُفظت الصورةُ باحتراسٍ وثيق، أيتها الأمُّ مكرينا، لأنّكِ قد حملتِ الصليب فتبعتِ المسيح، وعمِلتِ وعَلَّمتِ أن يُتغاضى عن الجسد لأنّه يزول، ويُهتمَّ بأمور النفس غير المائتة. فلذلك أيتها البارّة تبتهج روحك مع الملائكة.