في هذا اليوم تُقيم الكنيسة المُقدَّسَة تَذكار:
✵أبونا الجليل في القدّيسين جرمانوس القسطنطينيّ ✵أبونا الجليل في القدّيسين أبيفانيوس سلامينا القبرصيّة ✵القدّيس البارّ ثيودوروس الكريتيّ ✵القدّيس البارّ فيليبس أغيرا السّوريّ ✵الجديد في الشّهداء يوحنّا سرّاس المقدونيّ ✵الجديد في الشُّهداء يوحنّا الرّومانيّ ✵الشّهيد بانكراس الفيرجيّ ✵الشّهداء فلافيا دوميسيلا ونيروس وأخيلاوس ✵القدّيسة البارّة ريكترودا الفرنسيّة ✵أبونا الجليل في القدّيسين بوليبيوس رينوكيريا ✵أبونا الجليل في القدّيسين هرموجانيس بطريرك موسكو ✵القدّيس البارّ ديونيسيوس رادونيج ✵الجديد في الشّهداء الكهنة بطرس بوبوف الرّوسيّ ✵الشّهيد ديونيسيوس الفيرجي ✵القدّيس البارّ أتلهارد كانتربري.
* * *
✤ أبونا الجليل في القدّيسين أبيفانيوس سلامينا القبرصيّة ✤
وُلد القدّيس أبيفانيوس حوالي العام 308 أو ربّما 315 للميلاد في قرية اسمها بيزندوخ القريبة من بيت جبرين (ألفتروبوليس) الفلسطينيّة الواقعة على بعد 26 كلم شمالي غربي الخليل. وكان من عائلة يهوديّة متواضعة. إثر وفاة والده تبنّاه أحد معلّمي النّاموس، المدعوّ تريفون. هذا رمى أن يُعطيه ابنته زوجة ليبقيه قريبًا منه لأنّ أبيفانيوس شغُف، منذ حداثته، بالعلم حتّى درس على معلِّمه الكتاب المُقَدَّس والمؤسّسات اليهوديّة واقتنى معرفة اللّغات اللّاتينيّة والسّريانيّة والقبطيّة بالإضافة إلى اليونانيّة والعبريّة. فلمّا توفّي تريفون ورث أبيفانيوس ثروته.
وحدث، ذات يوم، فيما كان يتفقّد أراضيه، على صهوة فرسه، أن سار بجانبه راهب مسيحيّ اسمه لقيانوس. هذا التّقى فقيرًا. وإذ لم يكن له مال يعطيه خلع رداءه ودفعه إليه. للحال انحدر رداء ناصع البياض من السّماء وغلَّفه. فجاءت هذه الآية لثتبِّت إعجاب أبيفانيوس بالمسيحيّين. فلقد سبق له أن تعرّض في حداثته لحادث خطر نجا منه، بنعمة الله، وبصورة عجائبيّة، بفضل أحد الرُّهبان. على الأثر ارتمى أبيفانيوس عند قدمي لقيانوس وتوسّل إليه أن يعمِّده ويقبله في السّيرة الرّهبانيّة الملائكيّة. وبالفعل اعتمد هو وأخته بيد أسقف المدينة، ثم وزّع مقتنياته على المحتاجين وصار تلميذًا للقدّيس هيلاريون الغزّاويّ المُعيَّد له في 21 تشرين الأوّل. مذ ذاك، وإلى آخر حياته، أخضع نفسه لنظام نُسكيّ صارم.
اقتبال أبيفانيوس ليسوع ربًّا وإلهًا سلّط الضّوء لديه على الكثير من غوامض العهد القديم. هذا جعله ينكبّ على الدّرس بغيرة أوفر. كذلك اشتهى أن يتعرّف إلى طريقة حياة رهبان مصر فذهب إليهم وتعلّم منهم. لكنْ صدمته بعض الهرطقات والشِّيَع المنتشرة هناك، لا سيّما الأوريجنيّة، نسبة إلى أوريجنيس المعلّم المشهور (185– 254 م).
هذا كان مُفسِّرًا كتابيًّا مُبدعًا ولاهوتيًّا مَرموقًا وروحانيًّا بارزًا. لكنْ اختلط في تعليمه المُضِرّ بالمُفيد، والمعوجّ بالقويم، وكان غزيرًا في إنتاجه. الإيمان بالثّالوث القدّوس مثلًا كان مشوّشًا لديه. فلقد أكّد، بالأحرى، وحدة الله على أساس كون الله هو الآب فيما استبان الإبن لديه إلهيًّا وحسب بمعنى هو دون معنى ألوهيَّة الآب. كذلك قال إنّ الخلق أبديّ وإنّ النّفوس لها سابق وجود. كما أنكر أن يكون جسد الموت هو إيّاه جسد القيامة. اطّلع أبيفانيوس على مقولات الأوريجنيّة والمانويّة وسواهما فانكبّ على جمع المعلومات بشأنهما وبشأن هرطقات أخرى تحرّاها فشكّلت استقصاءاته مادّة لمؤلَّف وضعه في آخر أيّامه ضدّ الهرطقات بعامّة كان فذًّا.
عاد قدّيسنا إلى فلسطين بعد أربع سنوات (سنة 333 م.) فأسّس ديرًا في “عاد العتيقة” (بيت صدوق) في جوار بيت جبرين، ساسه بكلّ حكمة على مدى ثلاثين سنة. وثمّة مَن يخبر أنّه أنبع بصلاته ماء في الأرض القاحلة، أرض الدَّير الّذي أسّسه، كما حمل الأعرابَ على بناء قلالي الرُّهبان بعدما شهدوا لعجائب الله فيه. كذلك قيل إنّه كان يطرد الشّياطين من القرويّين والرّهبان داعيًا باسم الرَّبّ يسوع، وكانت له بصيرة حسنة. وقد خلّص النّاحية من أسد كان يفترس النّاس. وكان يتعاطى الإحسان على نطاق واسع. غير أنّ التماعه في فلك الكنيسة ككوكب بهيّ كان، بخاصّة، لموهبة التّعليم عنده وكذلك لتفسيره الكتابيّ.
أدرك أبيفانيوس مقدار ما تشكّله حكمة اليونانيّين من خطر على الكنيسة وإيمانها وما يتولّد عن تلك الحكمة من هرطقات فأخذ على عاتقه، بخاصّة، مُهمّة الدِّفاع عن الإيمان القويم ورصد الهرطقات وفضحها وبيان فسادها والطّعن بها. وقد ورد أنّ فيلسوفًا معروفًا في ذلك الزَّمان أتى، مرّة، إلى دير القدّيس أبيفانيوس من الرّها لمناقشته في مسائل كتابيّة. وبعدما تجادلا طويلًا في أسرار الخلق، أبيفانيوس ممسكًا بيده الكتاب المقدّس والفيلسوفَ بمؤلّفات هزيود، أب الشّعر اليونانيّ التّعليميّ، لم يتزحزح الرّهّاوي عن طرحه ولبث على خطابه بعناد. لكنّه لمّا رأى القدّيس يشفي ممسوسًا باسم يسوع انقدحت محبّة الحَقّ في نفسه واستبان، بنعمة الله، بطلان الحكمة اليونانيّة في عينيه فنبذها واقتبل المعموديّة باسم يسوع. ثمّ صار كاهنًا وبعد ذلك خلَفًا لقدّيس الله على ديره.
غادر أبيفانيوس ديره، بعد حين، اجتنابًا لكرامات النّاس فأتى إلى قبرص حيث التّقى، مرّة أخرى، أباه ومعلّمه القدّيس هيلاريون. علاقة القدّيسَين كانت عميقة واستمرّت غير منقطعة من العام 333 إلى العام 356 م. حتّى قال القدّيس إيرونيموس عنهما إنّه قلّما يقع المرء على علاقة ثابتة حميمة بين صديقَين كمثل علاقة هيلاريون بأبيفانيوس. لقاء القدّيسَين، بعد انقطاع، إذًا، عبق بالفرح الكبير. وقد قبل أبيفانيوس، بإزاء إصرار هيلاريون، أن يصير أسقفًا على “سلامينا” قسطنسيا القبرصيّة خلال العام 367 م. خدمته الأسقفيّة دامت ستّة وثلاثين عامًا. وقد قيل إنّ إدارته لأبرشيّته كانت مثالًا يُحتذى لا سيّما في مجال تأكيد استقامة الرّأي. دوره، على هذا الصَّعيد، كان بارزًا لا في قبرص وحسب بل في سائر أنحاء الأمبراطوريّة أيضًا. عجائب جمَّة جرت، بنعمة الله، على يده جاءت تؤكّد فضائله الرّعائيّة ومحبّته الأبويّة لسامعيه. سخاؤه وتدخّله لصالح المسحوقين كان، أحيانًا، مثار نقمة بعض الإكليروس. مثال ذلك الشّمّاس المدعو كارين الّذي اتّهمه بتبذير أموال الكنيسة. ورغم كلّ المحاولات الّتي بذلها الشّمّاس النّاقم لتشويه سمعة القدّيس فإنّ أبيفانيوس استمرّ في معاملته له بالحُسنى. أخيرًا، ولمّا لم يرتدع عاقبه الله بميتة شنيعة.
هذا ويُحكى أنّه حين كان القدّيس أبيفانيوس يقيم الذّبيحة الإلهيّة كان يبصر الرُّوح القدس ينزل على الخبز والخمر ليقدّسهما. وحدث ذات مرّة أن وُجد محرومًا من المُعاينة بسبب وجود أحد المشاركين له في الخدمة وكان معانِدًا في خطيئته. هذا لم يُحسَب مستأهلًا لنعمة الله. فبعدما تمّ فرزه توسّل أبيفانيوس بدموع إلى الرَّبّ الإله أن تعود النِّعْمَة إليه ولمّا يتابع الخدمة إلّا بعدما مَنّ عليه بإعلان جديد لمجده. استقامة الكهنة والخدّام أولاها أبيفانيوس اهتمامًا بالغًا. كان يحرص على أن يتزيّى الكهنة التّابِعون له بالفَضيلة. هذه وحدها كانت، في عينيه، الزّينة اللّائقة بالكنيسة، عروس المسيح. كذلك حوّل قصره الأسقفيّ إلى دير كان يسلك فيه في حياة الشّركة وسبعين من الإكليريكيّين.
صراع أبيفانيوس ضدّ التّيّار الأوريجنيّ جعله في صدام مع بطريرك أورشليم يوحنّا حيث يبدو أنّ تعليم أوريجنيس تفشّى بين رهبان فلسطين تفشّيًا كبيرًا. غيرة القدّيس وبساطته حملتاه على تبنّي مواقف حادّة وأحيانًا متطرّفة. هذا جعله، أحيانًا، عرضة للشَّطَط. مثل ذلك مناصرته العمياء لثيوفيلوس، رئيس الأساقفة الإسكندريّ، لمقاومة هذا الأخير للتيّار الأوريجنيّ. وإذ كان ثيوفيلوس عدوًّا لدودًا للقدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفم، فقد وجد أبيفانيوس نفسه مُقاوِمًا للذّهبيّ الفم. وحده تواضعه أخرجه من ورطته. فما إن شعر بالالتباس يعتور الموقف العفويّ الذي اتّخذه من القدّيس يوحنّا حتّى تراجع وعاد إلى بلاده قبيل انعقاد مجمع السّنديانة الّذي أدان الذّهبيّ الفم. وفي الطّريق رقد. كان ذلك في 12 أيّار 403 م.
من أهمّ ما كتب القدّيس أبيفانيوس مؤلَّفه المعروف بـ “الأنكوراتوس” أو “الإنسان ذو المرساة الثّابتة”. هذا يحوي تعاليم الكنيسة عن الثّالوث القدّوس بقصد مقاومة البدعة الآريوسيّة. كما يحوي التّعليم عن حقيقة التّجسّد. به رمى القدّيس إلى مقاومة أبوليناريوس الّذي أنكر وجود نفس بشريّة للرَّبّ يسوع. كذلك تناول قدّيسنا في الكتاب موضوع إله العهد القديم في سعي إلى مقاومة أتباع ماني ومرقيونوس. على أنّ أهمّ ما كتبه أبيفانيوس كان “البناريون” أو “ضدّ الهرطقات” الّذي دحض فيه ثمانين هرطقة.
من أقواله:
الكنعانيّة تصرخ فيُسمَع لها ونازفة الدَّم تصمت فتُطوَّب. الفرّيسي تكلّم فأُدين والعشّار لم يفتح فاه فسُمع له.
قراءة الكتب المُقدَّسة أمان عظيم ضدّ الخطيئة.
الجهل بالكتب المُقدَّسة هاوية عميقة وهوّة عظيمة.
الله يبيع البرّ بثمن بخس للغاية للّذين يريدون أن يشتروه: بقطعة خبز صغيرة، بثوب وضيع، بكأس ماء بارد، بفلس واحد.
هذا وقد قاوم القدّيس أبيفانيوس التّفسير الرّمزيّ للكتاب المُقدّس مقاومة عنيفة حاسبًا المبالغة في الرّمزيّة أساس كلّ هرطقة.