في هذا اليوم تُقيم الكنيسة المُقدَّسَة تَذكار:
*الشّهداء مرقص العرطوزيّ الأسقف وكيرلّلس البعلبكيّ الشمّاس والخدّام والعذارى في غزّة وعسقلان. *الشّهداء الفرس يونان وباراشيسيوس ورفاقهما. *القدّيس البارّ ديادوخوس الفوتيكيّ. *أبينا الجليل في القدّيسين أفستاتيوس كيوس. *القدّيسان البارّان يونان ومرقص الرّوسيَّان. *الشّهداء الرّوس الجدد بولس الكاهن وبولس وألكسيس.
✤ القدّيسون الشّهداء مرقص العرطوزي وكيرللس البعلبكي والخدّام والعذارى في غزّة وعسقلان (+362 م)✤
لمّا عمد قسطنديوس قيصر (337 – 361)، أمبراطور بيزنطية، إلى قتل عمّه يوليوس قسطنديوس، شقيق القدّيس قسطنطين الكبير، وابنه البكر، أمكن إنقاذ ابنيه الباقيين غالوس ويوليانوس من بطشه. في ذلك الوقت، على ما قيل، تجشّم مرقص خطرًا جسيمًا إذ ارتضى أن يُخفي يوليانوس ويوفّر له، سرًّا، كلّ ما يحتاج إليه. مرقص كان أسقفًا على أريتوزا (عرطوز) الّتي يشير البطريرك مكاريوس الانطاكي، ابن الزّعيم، في القرن 17 م، إلّا انّ اسمها، في زمانه، كان “الخراب”، شمالي مدينة طرابلس اللّبنانيّة. يوليانوس هذا هو إيّاه الّذي صار أمبراطورًا سنة 361 ولُقِّب بالجاحد لأنّه بعدما كان قارئًا في الكنيسة تحوّل إلى الوثنيّة وحاول، بكلّ ما أوتي من خبث وجبروت، أن يقوِّض دعائم المسيحيّة فلم يُتح له أن يحقّق حلمه ومات صريعًا في أقل من سنتين من بدء مشروعه لإعادة بسط الوثنيّة فوق أرض الأمبراطوريّة من جديد. إلّا أنّ يوليانوس تسبّب في حملة اضطهاد واسعة على المسيحيّين ورموزهم تردّدت أصداؤها في كلّ مكان وأطلق العنان للوثنيّين لينتقموا لأنفسهم ويستعيدوا سالف مجدهم. فكان أن دُكّ العديد من الكنائس واستُردّت الهياكل ونُفي أقوام وسقط غيرهم شهداء. وكان بين الّذين استشهدوا، في تلك الأيّام، مَن نقيم تذكارهم اليوم ومنهم مرقص العرطوزيّ الّذي سبق أن أنقذ يوليانوس من الموت كما أشرنا. فإثر تولّي يوليانوس العرش أمر أن يعيد المسيحيّون بناء الهياكل الوثنيّة الّتي دكّوها خلال حكم سلفيه قسطنطين وقسطنديوس، وعلى نفقتهم. وكان مرقص قد هدم هيكلًا فخمًا له موقع مميّز في نفوس الوثنيّين، وبنى كنيسة وهدى عددًا كبيرًا من الضّالين. وقد لزم الوثنيّون الصّمت على مضض وكنّوا لمرقص حقدًا شديدًا. فلمّا واتتهم الفرصة تفجّر حقدهم عنفًا وانتقامًا وتنكيلًا. إثر اندلاع شرارة الاضطهاد وسريان الهياج بين الوثنيّين في عرطوز أدرك مرقص أنّ ساعة الظّلمة قد حلّت فقام وتوارى عن الأنظار. ولكن لمّا بلغه أنّ الوثنيّين أمسكوا بعدد من مسيحيّي عرطوز وأساؤوا إليهم ولم يشاؤوا إطلاق سراحهم قبل ان يسلم مرقص نفسه، خرج من مخبئه وجاء إليهم. قبضوا عليه وجرّروه في الشّوارع من شعره. وإذ جرّدوه من ثيابه جلدوه جلدًا وحشيًا ولم يتركوا مكانًا في جسده إلّا نالوا منه وأهانوه وحقّروه أيّما تحقير. ثم ألقوه في حفرة النّفايات والمياه المبتذلة. ولمّا أخرجوه أسلموه للهو الصّبية وحرّضوهم على نخسه بالآلات الحادّة بلا شفقة. كذلك عمدوا إلى تقييد ساقيه بالحبال وشدّوا حتّى اخترقت الحبال لحمانه ووصلت إلى عظامه، وربطوا أذنيه بأسلاك متينة وشدّوا. وبعدما فعلوا هذا كلّه أخذوا يتدافعونه. هذا يركله وهذا يضربه بعصا وذاك بقبضة اليد. ثم جعلوا على بدنه عسلًا ومرقًا وأقفلوا عليه في ما يشبه القفص معلّقين إيّاه في الهواء والشّمس محرقة، منتصف النّهار. قصدهم كان أن يستدعوا عليه الزّنابير والبعوض لتلسعه وتعذّبه. وسط تفجّر الحقد على هذا النّحو ووسط الألم والمعاناة لبث مرقص هادئًا وقد شاخت به الأيّام وملأته نعمةً وحكمةً وسلامًا فوق كلّ عقل. كانوا يلحّون عليه أن يعيد لهم بناء الهيكل فلم يأبه لهم. قالوا أعطنا مالًا نكتفِ فقال إنّه لكفر أن تُعطَوا قرشًا واحدًا لبناء هيكل لإله أصمّ. أخيرًا استنفدوا حقدهم وحدث العجب إذ استحال ازدراء بعضهم به إعجابًا، لصبره وثباته وقوّة نفسه، حتّى أطلقوا سراحه ورجاه بعضهم أن يعلّمه كيف يبلغ مثل هذه الدّرجة من الرّزانة والهدوء والثّبات والصّبر. وقد قيل أنّه أمضى بقيّة أيّامه في تدبير شؤون قطيع المسيح في عرطوز إلى أن رقد بسلام في الرّبّ زمن جوفيانوس أو ربّما والنس قيصر حوالي العام 364 م. كذلك قيل إنّه كان آريوسيًا معتدلًا لبعض الوقت لكن جاءت شهادات القدّيس غريغوريوس اللّاهوتي والمؤرِّخَين ثيودوريتوس وسوزومينوس تفيد أنّه انضمّ إلى الأرثوذكسية ولم تعد ثمة شائبة عليه بدءًا من أواخر حكم الأمبراطور قسطنديوس قيصر. هذا بالنّسبة للقدّيس مرقص، أمّا بالنّسبة للقدّيس كيرللس فقد أخبر عنه ثيودوريتوس أنّه كان شمّاس كنيسة بعلبك. فلمّا صدر أمر ملكي بدكّ هيكل فينوس في بعلبك انقضّ كيرللس على المكان بحماسة شديدة وحرّض النّاس على هدّه فحقد عليه الوثنيّون حقدًا شديدًا لكنهم كظموا غيظهم إلى وقت مؤات. فلمّا انقلبت الأيّام وحلّت ساعة الظّلمة انتقموا منه وممّن أمكنهم الوصول إليهم، راهبات وخدّام كنيسة. فخلال العام 362 م اقتحم الوثنيّون ديرًا للرّاهبات واستاقوا مَن فيه إلى الموضع حيث كان هيكل فينوس. هناك عرّضوهن لدناءات وحقارات جمّة.
أمّا كيرلّلس فقد انقضّ عليه الضّالون وجرّروه في الأوحال وضربوه ضربًا مميتًا لا هوادة فيه. ثم فتحوا صدره واستأصلوا كبده وأكلوه نيئًا كالحيوانات المفترسة. لكن لم تبق جريمتهم دون عقاب طويلًا. فإن أسنان الّذين ارتكبوها، على ما ورد، تفتّتت وأكل الدّود ألسنة البعض وفقد آخرون البصر. وفي عسقلان وغزّة، وهما مدينتان فلسطينيتان، كانت الوثنيّة شرسة. هناك أيضًا أمسك الوثنيّون خدّامًا كنسيّين ونسوة مكرّسات وانتزعوا أحشاءهم وجعلوا في أقفاص صدورهم شعيرًا وألقوها رعيًا للخنازير. كذلك فتح المهاجمون في سبسطيا صندوق بقايا القدّيس يوحنا السّابق المجيد وألقوها في النّار ثم ذرّوا رمادها في كلّ اتجاه. رغم كلّ شيء، رغم هذه الفظائع الرّهيبة لم ينجح لا يوليانوس ولا الوثنيون في استعادة عبادة الأوثان وبقي الشّعب، في أكثريته، غير مبال بها لدرجة أنّ يوليانوس لمّا رغب في إقامة عيد كبير لأبولون في أنطاكية فوجئ أنّ الهيكل كان فارغًا إلّا منه ومن حاشيته فيما كان أهل المدينة خارجًا يسخرون منه.