في هذا اليوم تُقيم الكنيسة المُقدَّسَة تَذكار:
*بدء الصَّوم الكبير *القدِّيس البارّ بروكوبيوس البانياسيّ *الشَّهيد جلاسيوس البعلبكيّ *القدِّيس البارّ ثلالاوس الكيليكيّ *القدِّيسان البارّان أسكلابيوس ويعقوب *القدِّيس استفانوس الآوي *الشَّهيد نيسيوس *القدِّيس تيموثاوس القيصريّ *الجديد في الشّهداء إيليّا تريبيزوند *القدِّيس البارّ تيطس الكييفيّ *أبينا الجليل في القدِّيسين لاوندروس الأسبانيّ *الشّهداء يوليانوس النِقرسيّ ومن معه *القدِّيس البارّ غالمير صانع الأقفال *الشَّهيد في الكهنة نسطر البمفيليّ * القدِّيس أفرام كاتوناكيا.
* * *
✤ القدِّيس أفرام الكاتوناكي (1912- 1998)✤
نشأته
وُلد إيفانجيلوس (الشيخ إفرام) في منطقة ثيفا في ٦/۱٢/۱٩۱٢ لعائلة ريفيّة فقيرة. عمِل والده بكدّ ليؤمّن لعائلته احتياجاتها للعيش والتعليم. كان جدّه كاهن البلدة أما والده فكان عاملاً نشيطاً أميناً وقد أمضى سنيه الأخيرة راهباً بجوار ابنه. والدته اضطربت كثيراً لدى حملها بابن جديد هو إيفانجيلوس العتيد، وذلك بسبب الضيق المعيشيّ والحروب الدائرة في ذلك الزمان. إلاّ أنها ندمت في ما بعد وأدركت أنّ هذا الصبيّ سيخلّصها بحياته البارّة وصلواته. وقد استُؤهلت هي أيضاً، كما صلّت لسنوات عديدة، لأن ترتدي اللباس الرهباني في آخر حياتها.
كان إيفانجيلوس تلميذاً مجتهداً، أنهى دراسته الإعدادية عام ۱٩٣۰ مع مواظبته على الصلوات الكنسية والشخصية. وقد أقام علاقات طيّبة مع رهبان وراهبات من بلدته، منذ فتوّته. بعد إنهائه دراسته الثانوية، حاول ترتيب عمل مناسب، لكنّه لم يوفَّق. حتى عندما قرّر تأدية خدمته العسكرية، رُفض، وأُجّل لأسباب صحيّة. وهكذا وجد نفسه مدفوعاً لاختبار حياة الهدوء التي كانت نفسه تتوق إليها. وكانت زيارته الأولى للجبل المقدّس في 14 أيلول ۱٩٣٣.
في كاتوناكيا
تقع منطقة كاتوناكيا في الطرف الجنوبي الغربي لشبه جزيرة الجبل المقدّس المطلّ على البحر الإيجي. وهي منطقة صخرية منحدرة جدّاً تتوزّع فيها القلالي. في عمق الوادي يقع منسك القدِّيس إفرام السُّوري حيث تنسّك الشيخ إفرام. تألف المنسك من كنيسة وعدّة غرف ومستودعات مع فناء للدار. الأبواب منخفضة، المحراث ضيقة، شباك الغرفة صغيرة. كان الشيخ لونجينوس أول من بنى القلاية في أواخر القرن (۱٩)، مع بداية القرن (٢۰) جاء الشيخ إفرام الكبير ووسّع القلاية والكنيسة وبنى الجدارات الحجرية المحيطة بها وبالحقول. ثم التحق به الأب نيكيفوروس ثم بروكوبيوس وهؤلاء الثلاثة كانوا من ثيفا موطن الشيخ إفرام. وقد دفعته معرفته السابقة بهم إلى اختيار هذا المنسك لاختبار الرهبنة. وهكذا كان. فأتى إيفانجيلوس (الييروندا إفرام) شاباً مثقفاً فيما الآباء الموجودون طاعنون في السنّ (فوق ٥۰ سنة) وقرويون. في البداية، لم تكن الطاعة لهم سهلة عليه، بخاصة مع قساوتهم عليه وتشدّدهم. إلا أنهم في ما بعد، عندما اختبروا وداعته وصبره، قدّروا قيمته ومواهبه عالياً. كان معظم عبء الأعمال المجهِدة ملقى على عاتق الشيخ إفرام، فهو الأصغر سناً والأنشط عزيمةً. لذلك كان يهتم بالعمل في الحقول ويقوم بطحن القمح وأعمال أخرى في الاسقيط المجاور، إسقيط القدِّيسة حنة، أو دير القدِّيس بولس الآثوسي.
تذكُّر والدته، العثرات من آبائه الرهبان،… وغيرها من الحروب التي يتعرض لها كل المبتدئين، بالإضافة إلى ما سبق، حُورب بها الراهب الشاب. إلاّ أن السيدة العذراء أعانته وصَمَدَ، بنعمة الله، حتى النهاية، بالالتزام بالصلاة والخشوع باستمرار، في الكنيسة وعلى انفراد، والمواظبة على عمله اليدوي. وهكذا في زمن قصير، نصف سنة تقريباً أي في عام ۱٩٤٣، تمّت سيامة إيفانجيلوس راهباً مبتدئاً باسم لونجينوس، بعد نوال بركة دير اللفرا الكبير الذي كان مسؤولاً عن قلالي كاتوناكيا. وفي العام التالي، في عيد القدِّيس إفرام السّوري، سيم لونجينوس راهباً بالاسكيم الكبير باسم إفرام. وفي عام ۱٩٦٣، حينما رآهُ أبوه الروحي الشيخ نيكيفوروس مُجاهداً، مُتزناً، وقوراً، وافق على سيامته شماساً ثم كاهناً في العام ذاته.
علاقته بالشيخ يوسف الهدوئي : يوسف أبوه الروحي
اعتاد رهبان الأساقيط في الجبل المقدّس على تبادل الزيارات بخاصة في أعياد القدِّيسين للمشاركة في الصلوات. كانت قلاية الشيخ يوسف، في منطقة القدِّيس باسيليوس، قريبة من قلاية الأب نيكيفوروس، رئيس قلاية القدِّيس إفرام حيث سيم الراهب إفرام. وبتعرّف الشيخ يوسف على الراهب الكاهن الشاب، أحبّه وأُعجب بصمته ورزانته. فكانت أن تطوّرت علاقة روحية أبوية متينة وعميقة بين الشيخ المخضرم يوسف والراهب إفرام، الذي صار الكاهن الخادم الأول في قلاية الشيخ يوسف. وبمناسبة كل زيارة كان الييروندا إفرام يُطلع الشيخ يوسف على اختباراته الروحيّة وصعوباته، وقد وجده خير معين له، يروي ظمأه للتعمُّق في الهدوء وصلاة القلب واكتساب الفضائل. قال له الشيخ يوسف مرّة: “أنت كنت تبحث عني، وأنا عنك!”. هكذا رغم وجود الييروندا في قلاية الشيخ نيكيفوروس وتحت طاعته، صار الشيخ يوسف أباه الروحي الفعلي. فقد اعترف الييروندا وقال: “إن لم أحبّ إنساناً في العالم، ولم أهَبْ إنساناً مثلما أحببته وهبتُهُ”. حتى بعد بعد انتقال الشيخ يوسف الى قلاية أخرى في اسقيط القدِّيسة حنّة الصغرى، استمرّ الييروندا في زياراته إليه وإقامة القداس الإلهي وتقبُّل توجيهاته الروحية على الرغم من إضطراره الى السير لنصف ساعة في الأحراش، في الليل، والبرد، والمطر…، وحتى أنه كان يساعدهم في تجديد قلايتهم الجديدة التي انتقلوا إليها وكأنه واحد من أخويّتهم، من دون أن يقصّر إطلاقاً في إلتزاماته مع أخوية الأب نيكيفوروس وطاعته، بخاصة في شغل الأختام الخشبية اللازمة لصنع القرابين. لقد تأثّر الييروندا كثيراً بالشيخ يوسف حتى أن البعض قالوا أنه كان “نسخة طبق الأصل عنه”.
اختبارات روحيّة
كان الشيخ يوسف يتفاخر بحالة الييروندا أفرام الروحيّة، ويحثّه دائماً على مواصلة الجهاد وتأجيجه، طبعاً بحكمة واتزان، عالماً أنه قادر بنعمة الله على ذلك. وأيضاً عندما كان يحزنُ التلميذ أباه الروحيّ يوسف، كان يدرك في أعماقهِ أن النعمة قد غادرته بالفعل، ولم يكن تقرُّ له عين حتى يرضى عنه أبوه المحبّ والمربّي الخبير. لقد بلغ الييروندا درجة كبيرة من التمتع بالصلاة وتذوّق حلاوتها. قال في أواخر أيامه: “لقد كنتُ ملاكاً. أين للفكر الشرير أن يدنو مني، حتى ولو أردت ذلك، لقد كانت النعمة ترميه بعيداً. كان في داخلي نور. كانت تستمر الصلاة فيَّ حتى أثناء النوم”.
بعد فترة راح يشعر بامتلاء من النعمة، وكأن نفسه تطلب الخروج، أن تطير، راح في لحظة ما يتمسّك بالأشياء التي حوله، خشية أن يطير! لم يستطع تمالُك نفسه. إنها أمور لا يُمكن التعبير عنها بكلام.
تجارب
إلا أن كل هذا لم يكن يعني أنه لم يمرّ في تجارب وسقطات وأمراض وضعفات. قال: “رغم أني شبعت من خمور الفردوس الكليّ الحلاوة، إلا أني كنت أعتني بألاّ يظهر هذا عليَّ خارجياً. بالإضافة لذلك، شربتُ من مياه الجحيم الكليّة المرارة، إلاّ أنني اهتممتُ هنا بألاّ يبتلعني اليأس والقنوط”.
الغيوريّة
منذ العام ۱٩٢٤ دخل التقويم العالمي (الغربي) إلى الكنيسة بدل التقويم القديم، مما أدّى الى نشوء حركة معارضة للكنيسة الرسميّة، بخاصة في القسطنطينية. دُعيت هذه الحركة بالغيوريّن ومنطقة كاتوناكيا في الجبل كانت من مناطقهم. هنا صدف أن أصبح الييروندا إفرام راهباً. إلاّ أنه بعد صلوات ورؤى حدثت معه، واستشارات متعدّدة لشيوخ الجبل المقدّس وعلى رأسهم الشيخ يوسف الهدوئي، وبعد أخذ وردّ، توصّل الى إيمان وقناعة بأن يكون مع الكنيسة الرسميّة إلاّ أنّه احتراماً لأبيه الروحيّ نيكيفوروس وطاعةً له، كما يقتضي الواجب الرهباني. بقي شكلياً منضمّاً الى الغيورين الى حين رقد الأب نيكيفوروس المتشدّد، حينها أعلن ما كان يتوق إليه وما كان يمارسه بشكل غير مباشر وصريح وانضم بأخويّته الجديدة الى الكنيسة الرسميّة.
حياته مع الأب نيكيفوروس
لقد عانى الييروندا الكثير وتحمُّل صعوبات من أبيه نيكيفوروس وحفظ الطاعة له، ومارس صبراً جميلاً في سبيل خدمته بخاصة في السنوات الخمس الأخيرة من عمره، حين أمسى الأب شيخاً طاعناً في السنّ نحيل الجسم وشبه فاقد لذاكرته. حينها لم يكن يستطع البقاء لساعة من الزمن من دون الييروندا إفرام الذي كان يهتمّ به في كلّ شيء. لم يكن ذلك إلتزاماً منه أخلاقياً أو بالنظام الرهباني، إذ إنه تجاوز ذلك، محبّةً بأبيه وتمجيداً لله، وتوصّل إلى الحنو عليه والرقّة في معاملته حتى النهاية. كل ذلك بالرغم من اعتلال صحته هو وإرهاقه جسداً ونفساً. يروي الييروندا حادثةً ويقول: “في ذلك الحين قرّرتُ تغيير غرفتي. أن أبتعد عن جوار الأب نيكيفوروس، بحيث لا أعود أسمعه وأحتفظ بذكره في فكري مهتماً به على الدوام. كنت متضايقاً حتى من الصوت الذي تصدره أحذيته الثقيلة التي كانت تعيق نومي. ابتعدت قليلاً، الى مكان أهدأ. إلاّ أنه، كما أسمعكم وتسمعونني، سمعتُ صوتاً يقول لي: “يا عادم الضمير، يا فاقد القلب، لقد هجرت أباك الروحي. الآن إذا عانى من شيء واحتاج إليك، مَنْ سيسمعهُ ويهتمّ به؟” في اللحظة عينها عدتُ الى غرفتي الأولى هلعاً”.
بالإضافة إلى ذلك، كانت الراهب بروكوبيوس الطيب يعاني من صعوبات أخرى حتى بلغ به الأمر في وقت ما أن يقرر مغادرة القلاية نهائياً. لكنه صَبَرَ حتى النهاية مواظباً على أعماله في الأختام وجلب الأغراض والزراعة. ومما شكّل عبئاً إضافياً على كاهل الشيخ أفرام هو مجيء السيد حنا (والد الييروندا إفرام) للإقامة معهم في أواخر سني عمره، بخاصة بسبب غيرة الشيخ نيكيفوروس والسيد حنا المسنّ أحدهما من الآخر عند خدمة الييروندا لأحدهما وإبدائه شيء من المحبة له. لقد أمضى السيد حنا ثماني سنوات عندهم إلى أن رقد، وقد كان يظن بدءً أنه سيقيم فقط لعدة أشهر. كان الييروندا خلال هذه الفترة بين نارين، والده بالجسد وأبيه الروحي. هذا الوضع أرهقه وأتعبه جداً، لكنه أيضاً محّصهُ كالذهب في البوتقة، فازداد تلألؤاً بالقداسة.
الجدّة الذهبية وأنسباء الشيخ
في عام ۱٩٦٣ لدى مرض والدة الييروندا، في القلب، وإحضارها الى المشفى للمعالجة شهد حتى الأطباء على نبلها وطيبتها. قال أحدهم: “إن هذه الجدّة، عوضاً عن أن نشجّعها نحن ونُواسيها، هي التي تعزّينا وتشجّعنا”. عندما عَلِم الييروندا بمرضها الخطير، أدرك أن مفارقتها للحياة قريبة، فأرسل إسكيماً طالباً أن يصيّروها راهبة كما كانت تتوق منذ سنين طويلة. وقد تحدّثت ابنتها عن سعادة الجدّة الكبيرة بصيرورتها راهبة، وكيف أشرق وجهها واستنار وراحت تحدّث بعظائم الله بعد صمت.
وبعد أسبوع تقريباً لدى وفاتها بسلام وهدوء، راحت تفوح منها رائحة الطيب دلالة على قداستها. واستمر ذلك حتى يوم جنازتها. ويشهد الييروندا قائلاً عنها: “إني أعترف، عندما كنتُ أصلّي من أجلها، كنت آخذ، لم أكن أنا مِنْ يُعطي! بل كنت أمتلئ من النِّعم”. وقد كان يشعر أنها والشيخ يوسف واحد، متشابهان، روحياً الى أقصى الحدود.
رغم بقاء الييروندا في الجبل لعشرات السنين دون أن يزور “العالم”، حتى أهله وأقاربه، إلاّ أنه لم يكن يتوقف عن الصلاة من أجلهم، ومساعدتهم روحياً، كما كان يشعر بذلك في قلبه وكما أخبره أهله في ما بعد. إلاّ أنه يذكر أنه تلقى “صفعةً” عندما ألحّ في الصلاة من أجل ابنة عمّه التي كانت متورّطة بعبادات شيطانية وشعوذة.
أمراض وأتعاب مع تعزية إلهية
منذ صغره، عانى الييروندا من عدة أمراض من أهمها تحسّس جلدي خطير في قدمه ويديه وقد انعكست تأثيراته حتى على عينيه، وكانت سبباً لتأجيل خدمته العسكرية وبالتالي التحاقه بالرهبنة. بلغ به الأمر مرة الى حالة “نوبة تحسّسية” هيّجَتْ جسدهُ بالكامل، وأصابته حَكَّة حتى الدم، مع رعشة في كل جسمه. لم يكن أيامها (حوالي الحرب العالمية الثانية) من طبيب في الجبل. لم تشفِهِ إلاّ تضرّعاته الى العذراء وصبره الجميل. ورغم ضعفاته وأمراضه، كان هو العامل الأول في الأخوية: ينقل المنتوجات من الأختام وموادها الأساسية من والى الاسقيط عند الشاطئ. كما كان يحمل مواداً أخرى كالقمح للطحن، والنبيذ… كلّه على الأقدام. هو نفسه كان دّابة النقل، الطباخ، المزارع، الحفّار، المعمار،… الكاهن الخادم… والراهب المواظب على فروضه الرهبانيّة.
وحيداً
عانى الأب نيكيفوروس كثيراً في أيامه الأخيرة، وهو قدّر صلوات الييروندا الحارّة من أجله وخدمته له، فاستحق الأخير منه كلمة شكر وبركة حين قال له قبيل رقاده: “فليباركك الله، فليباركك، لست أنت بإنسان، بل ملاك أنت!”. بعد هذه المرحلة صار الأب إفرام وحيداً في القلاية. فراح يتأمّل وضعه الجديد وذكرياته المرّة والآلام التي لم تفارقه حتى اللحظة. وما لبث أن اُصيب بمرض تسمُّمي بسبب الفول وهدّدت حياته بالخطر. فكانت أول مرة يخرج فيها من الجبل (الى تسالونيك) منذ دخوله إليه. فأقام في المشفى لمدة تقارب الشهر لمعالجة هذا المرض ومعالجة ضعف عينيه. كانت إقامته في المشفى مناسبة لاستقبال زوّار كثيرين، ممّا أتعبه وأضعف صلاته المستمرّة. ومن الطرائف أنّ أخته وأخيه جاءا لزيارته ولم يعرفهما إلاّ بعد أن أخبراهُ بشكل مباشر.
مع أخويته
كان الشيخ يوسف الهدوئي قد نصح إبنه إفرام ألاّ يقبل في القلاية طلاّباً للرهبنة قبل أن يرقد الأب نيكيفوروس. وقد طبّق وصيّة الشيخ. وبعد أن تمنّع عن قبول عديدين، صار من الممكن له أن يقوّي شركته بالكنيسة، وأن يقبل تلامذة للرهبنة في قلايته ليسلّم إليهم شيئاً من خبرته في الصلاة والهدوء، رغم اعترافه مراراً بضعف إمكانيّاته في التعامل مع الشباب، خاصةً وقد أصبح هو شيخاً مسنّاً الى حد ما. وهكذ قَبِل مختبرين لديه، كان يعاملهم أبوياً، يستمع يومياً لاعترافاتهم ويتبادل معهم الحوار، موضحاً طرق الرهبنة المختلفة: هدوء، انفراد، حياة شركة… دون أن يفرض على أحد نمطاً ما.
كان يقول لطلاّبه: “يا أولادي الأحباء، أنا أصلي من أجل أن ينيركم الله لكي تختاروا أنتم الطريق الذي به تمجّدونه وتخلّصون أنفسكم”. كان الييروندا يرى ما يناسب كل شاب يأتي ليستشيره ويأخذ رأيه في الترهُّب، لم يكن يهتم بأن يُبقيه عنده بحيث يزيد عدد أخويته. بل كان يرسل البعض الى أديار أخرى وآباء روحيين آخرين ليروا ويستشيروا آخرين ويختاروا بحريّة وقناعة ذاتيّة. قال لأحد الشباب الذي كان ابناً روحياً له واختار أخيراً شيخاً آخر ليصير عنده راهباً: “الآن مات الأب إفرام بالنسة لك. لديك شيخك الروحي (الآخر)، أثبت هناك واحفظ الطاعة له حتى النهاية”. وبالرغم من كبر سنّ الييروندا إلاّ أنه أبدى قدرة كبيرة في التحمُّل والتضحية بالإضافة الى مرونة ممدوحة مع أبنائه الجُدُد في الرهبنة، مُعلّماً إياهم وناصحاً ومربياً بطول أناة وصبر ومحبة.
بعض تعاليمه
كان الييروندا يواظب على تعليم الإخوة الخمسة الذين شكّلوا أخويته الجديدة. كانت تعاليمه ونصائحه الأولى أمور عملية بسيطة كأن يتّقوا الهواء البارّد بخاصة عند التعرُّق. وأن لا يُجهِدوا أنفسهم في العمل فوق الطاقة وأن يحافظوا على أنظمة الأخوية فيما يتعلّق بالأصوام والترتيبات العامة الأخرى.
عبارتَيّ “ليكن مباركاً” (نان إيفلويمينو) تعبيراً عن الطاعة، و”باركني” (إفلويصون) يمعنى إغفر لي، كانت من أهمّ العبارات التي شدّد على استعمالها. وكان يشجّع الإخوة على إنكار العالم ونزع نيره عنهم، بخاصة الأهل والأقارب.
لسنوات وسنوات واظب الشيخ إفرام على نصح تلاميذه وحتى توبيخهم عند الحاجة في الموضوع الأهم، وهو المتعلق بحياتهم الروحية، غاية وجودهم في الجبل المقدس، كما كان يقول. مع محافظته هو أولاً على نشاطه الروحي وإلتزامه في الصلوات والأصوام والصمت والتواضع أمام الإخوة والابتعاد عن الدالة والمزاح، مع الاعتراف والمطالعة الروحية والسَّهر والتعب الجسدي. وكثيراً ما كان يستعمل قصصاً من الكتاب المقدس أو أخبار الشيوخ القدماء لكي يوضح ما يودَّ إيصاله من عِبَر ونصائح مفيدة للنفس، وأحياناً أخرى كان يتحدّث عن خبرته الشخصية لكي يثبّت الإخوة ويعزّيهم.
التعليم العملي
لم يكن الييروندا يبخل في مساعدة الإخوة النسّاك من القلالي المحيطة، رغم تعثُّر تلاميذه من مثل هذه التصرّفات. إلاّ أنّ السيّدة العذراء كانت تضاعف خيراتهم وتزيدهم.
بخصوص المال، لم يكن يطالب بحقّه. على سبيل المثال، اعتاد أن يقول عن المال الذي كانوا يجنونه من صناعة الأختام: ” عندما يُظلَم المرء ويصبر، تكون الأجرة من الله أكبر بكثير من أن يقدّم هو طواعية إحساناً أو تبرّعاً”.
كان نُبله وشهامته في منتهى العمق. تصرّفاته كانت مدروسة بدقّة. وكثيراً ما حدث في أوان الراحة أن تابع عمله الشاق بانتظار عودة أحد الإخوة من مهمة ما أرسله لإنجازها، وبالتالي لكي يرتاحا معاً، لا هو قبل الأخ الغائب.
امتاز الأب إفرام ببساطته. كان يظهر هذا لدى مواجهتهِ مشكلةً فنيّةً عماية في إحدى الأدوات (كالمدفأة مثلاً). حينها كان يتصرّف كالأطفال الأبرياء.
الزمن والأشياء
لم يكن الييروندا يحفظ الكثير من التواريخ والأزمنة حتى من حياته الشخصية. فقط بعض المحطات الرئيسية: سيامته راهباً، الذكرى الألفية لتأسيس الجبل المقدّس… ويستعمل عبارات عامّة لتحديد الزمن: زمن الاحتلال (الألماني)، عندما كنتُ مبتدئاً، عندما كان الشيخ يوسف في منسك القدِّيس باسيليوس،… أما أعياد القدِّيسين والأعياد فكان يحفظها بامتياز.
كان النهار والليل يمضيان وفق ترتيب معين للأعمال الجسدية والروحية. كل عمل، مهما كان، هو جهد مبذول وسبب للفرح وتمجيد الله. الزمن كترتيب لا يهم، المهم أنه إمكانية للحضور المستمر روحياً. كانت الصلاة هي محور حياته، صلاة يسوع رافقته في كل أوقاته، في عمله وحتى في نومه. الزمن كلّه اتّحد في صلاة.
كما ذكرنا، لم يكن الييروندا ذاك الإنسان العملي المتعدّد الأشغال. ايضاً كان كل ما يعمله يعمله بأمانة وفرح واجتهاد.
الصلاة
على السؤال: كيف سنجد الصلاة، كيف سنجد النعمة؟ كان الييروندا يجيب: “عندما يكون وعاء النفس نقياً، عندها تمتلئ تلقائياً من نعمة الله. تُولد الصلاة من الطاعة، ومن الصلاة يأتي التكلّم باللاهوت”. كان ينصح بألاّ نطيل صلاة يسوع، فقط أن نكرّر خمس كلمات (كما يوصي الرسول) “أيها الرب يسوع المسيح إرحمني”. ويضيف أنّه عندما نتقدّم في الصلاة سنختصر أكثر، يمكن أن نصل الى مجرّد المناجاة باسم يسوع: يسوع، يسوع… إن خبرة كل شخص ستعلّمه أسرار الصلاة. كان ينصح باستحضار صور ما، كالجلجلة أو المجيء الثاني للمسيح، في بداية الصلاة، مما يجلب إلى نفسنا التخشُّع. ثم نطرح عنّا كل الصور ونكتفي بالتركيز على كلمات صلاة يسوع مما يُثمر تواضعاً ويجلب كل مواهب الروح القدس الى النفس. إلى هذا، فقد اعتاد على استعمال صلوات مرتجلة شخصية من حين لآخر. كل ذلك من خلال شرط الطاعة للأب الروحي، فمن دون هذه يستحيل اقتناء الصلاة والاستمرار فيها.
البرنامج في البريّة
كان الييروندا منتظماً جدّاً في برنامجه اليومي، وهكذا كانت أخويّته. في ساعات الصباح بعد أن يكون قد ارتاح من سهرانية الليل اليومية، كان يصعد الى الكنيسة لإتمام القداس. بعد القداس كانت مائدة صباحية ثم الأشغال الضرورية واليدوية مع بقية الإخوة حتى منتصف النهار. حينها كانوا يجتمعون حول المائدة كضيافة خفيفة ثم وقت الاستراحة. في المساء صلاة الغروب والعشاء وكان يتمنى عليهم أن يُوقفوا اهتماماتهم الحياتية وأعمالهم، لكي يحرّروا النفس ويفرّغوها للعمل الروحي الليلي، السهرانية. بعد صلاة النوم كان يستلقي لمدة ثلاث ساعات ونصف ثم يستيقظ تلقائياً، من دون منبّه، لإتمام سهرانيّته الشخصية بالمسبحة بشكل عام، مع مطالعة روحية، وصلوات شخصية من القلب.
أما عن خدمته القدّاس الإلهي، فقد كانت بهدوء وخشوع، على ما تعلمه من الشيخ يوسف منذ شبابه. كان يقول أن القدّاس بالنسبة له هو الصلاة الأهم.
الاقتصاد والعلاقات العامّة
المال
كان الييروندا يستعمل الأموال ببساطة، متجنّباً تخزينها، ملقياً رجاءه أولاً على الله. لم يكن يتقبّل إحساناً من المؤمنين إلاّ بصعوبة، وعندما يتقبّل كان يصلّي من أجل المحسن كثيراً.
شيوخ الجبل
كل الإصلاحات والإضافات التي تمّ إنشاءها في القلاية كانت بداعي الحاجة الملحّة. كان رهبان دير السيمونوبترا من أهم مساعديه في أعماله. كما كان يحتفظ بعلاقة خاصة مع رئيس الدير إميليانوس، ومعظم الأبناء الروحيين للشيخ يوسف، وهم الييروندا يوسف الفاتوبيذي، أفرام الفيلوثيي، خرالمبوس الذيونيسياتي، بالإضافة لآباء روحيين آخرين كُثُر كالأب أثناسيوس من دير اللافرا، والأب برثانيوس من دير القدِّيس بولص، والأب جاورجيوس من دير غريغوريو… إلخ. لقد كان همّاً كبيراً عنده أن يحافظ رهبان الجبل المقدّس على علاقات طيّبة في ما بينهم. وقد اعتاد على رفع قيمة شيوخ الجبل في أعيُن الرهبان الشباب المختبرين.
الزوار
مشكلة زوّار القلاية كانت متعبةً للييروندا، أفقدته جمال صلواته الليلية. لم يكن يعرّف إلاّ نادراً، كان يكتفي بإعطاء النصائح والمشورة والتعزية. كان يرسل كثيرين الى آباء روحيين آخرين لديهم الخبرة الاجتماعية الكافية، بخاصة إذا كان لديهم إشكالات عائلية. قال إحدى المرّات مازحاً: “لكْ يا ولدي، يأتيك أحدهم ويقول زوجتي كذ… ثم آخر ايضاً زوجتي… كأنهم جعلوني طبيباً نسائياً!!”
مواهب الييروندا
لم تكن موهبة الييروندا الرئيسية في الرؤى المستقبلية، بل في الصلاة والدموع. وفي النهاية يبقى الله وحدُه هو الحاكم في شؤون الآباء الروحانيين الكبار. هناك عدة قصص تُروى عن رؤيوية الييروندا. حيناً ما كان الإخوة جالسين الى مائدة الطعام، مستضيفين أحد الرهبان الزوّار. إلتفت الييروندا نحو الراهب الضيف وقال له وهو يهزّ الرأس ملمّحاً: “عقبال الأعلى! عقبال الأعلى!” ثم راح يحرّك طرف كفّه الأيمن بشكل صليب على صدره قائلاً: “قدوس، قدوس، قدوس…”. بعد وقت قصير، إعترف الراهب لبقية الإخوة أنه أتى لينال بركة الييروندا على سيامته شماساً، وقد أدرك الييروندا ذلك قبل أن يقول له. حيناً آخر زاره أحد الشباب من تلاميذ الجامعة. فاقتادَه الييروندا الى حيث يوجد ضريح لأحد الراقدين، خلف القلاية، وراح يكلّمه عن الموت والحياة بعد الموت. بعد يومين من هذا، عندما خرج الشاب من الجبل، علم أنّ والده قد توفّي.
لدى تحوّل دير اللافرا الى نظام شركة، كان اسم الييروندا إفرام على رأس قائمة المرشحين لاستلام رئاسة الدير. وعندما أخبروه برغبتهم طلب أن يُعطى فرصة للصلاة من أجل هذا الأمر، ثم تبيّن له أن ليس هذا من مشيئة الله، فاتصل هاتفياً بشيوخ الدير وأنهى المسألة.
الشيخوخة والرقاد
لم تُشفَ القروح في قدمَيْ الييروندا حتى العام ۱٩٩٢، لم يكن يتناول، بسبب التحسُّس منها، إلاّ الفاكهة والخضروات وقليل من الزيت. وكان الشفاء منها عجائبياً. إلاّ أنه أُصيب بمرض ثقيل آخر هو مرض الجفاف، حيث كان يضطر لشرب كميات كبيرة من الماء، بخاصة في الصيف، مما سبّب له نوبات من الدوار، كما أن عينيه تأثّرتا… وكان يتضرّع الى العذراء أن تهبه أن يخدم نفسه بنفسه حتى آخر أيام حياته.
بعد عام ۱٩٩٤ أصبح الييروندا شبه أعمى. إلاّ أنه لم يفقد عفويّته وحيويّة نفسه وظُرف معشره مع زوّاره والإخوة. وكانت صلاة يسوع بالمسبحة ترافقه دائماً. كان الإخوة الرهبان يتناوبون على خدمته باستمرار. وقد تمّ هذا الترتيب لأن كلاً منهم كان يتمنى أن يبقى هو بقربه لخدمته.
حتى يومه الأخير، لم يبدُ عليه أنه “ضيّع عقله”، أو أنه لا يدرك ما يقول أو ما يسمع. نعم ضعفت ذاكرتُه إلاّ أنه كان يسمع ويفهم كل ما يحدُث ويُقال، مهتمّاً بما يجري ومُتابعاً أمور الأخوية من بعيد.
في شهر تشرين الثاني ۱٩٩٦ أصابته وعكة صحيّة أَلقته طريح الفراش وفاقد الوعي، أقام لفترة صامتاً في سرّ عميق، فقط كان يتأوّه من الألم من حين لآخر، أو يبتسم. في الفترة الأخيرة كان يفضّل الجلوس في سريره وأرجله نازلة على الأرض، وهو منحنٍ، في وضعيّة صلاة، في هذه الوضعيّة أخذه الربُّ إليه بهدوء وسلام في ٢٧ شباط ۱٩٩٨. إن قلبُه المفعم حُبّاً ما يزال يرافقنا، يصلّي من أجلنا.