في هذا اليوم تُقيم الكنيسة المُقدَّسَة تَذكار:
* أبونا الجليل في القدّيسين أفتيخيوس بطريرك القسطنطينيّة الـمُعترف * الشّهداء الفرس المائة والعشرون * القدّيسة البارّة بلاتونيدا * شهيدا عسقلان * الشّهيدان إرميا وأرخيليوس * القدّيس البارّ غريغوريوس السّينائيّ* القدّيس البارّ غريغوريوس الآثوسيّ المعروف بـ “البيزنطيّ”* القدّيس البارّ مثوديوس المـُعادِل الرُّسُل ومنير السّلافيّين * الشّهداء الجدد مانوئيل وثيودوروس وجاورجيوس وجاورجيوس الآخر وميخائيل الّذين من ساموثراكي.
* * *
✤تذكار أبينا الجليل في القدّيسين أفتيخيوس بطريرك القسطنطينيّة المُعترف✤
وُلد القدّيس أفتيخيوس في بلدة من إقليم فيرجيا تدعى “الإلهيّة”. كان أبوه جنديًّا وقيل أحد قادة الجيش واسمه الاسكندر. اسم أمّه كان سينيسيا وكانت ابنة كاهن. أفتيخيوس، جدَّه الكاهن، هو الّذي اهتمّ بتربيته على التّقى والفضيلة. وإذ كان هذا بارًّا تقيًّا، طبع، في قلب حفيده، منذ الطّفوليّة، محبّة الله والفضيلة وكذا العطف على الفقراء والبؤساء. كان الجدّ يصطحب الحفيد معه إلى الكنيسة فيوقفه بإزاء جرن المعموديّة ويقول له: اذكر يا بنيّ النّعمة العظيمة الّتي أفاضها روح الرَّبّ القدّوس عليك في هذا الجرن الطّاهر فأضحيت ابنًا لله. إيّاك أن تنسى ما وعدت به بفم إشبينك يوم اعتمدت، فإنّك عاهدت الله على أن ترفض الشّيطان وكلّ أعماله وكلّ عبادته وكلّ أباطيله. كُن أمينًا تنل الحياة الأبديّة والملكوت السّماويّ. وكان الجدّ، إلى ذلك، يردّد على مَسمع صغيره القول الإنجيليّ: “ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كلّه وخسر نفسه”.
انحفظ أفتيخيوس الابن من العِشرة الرّديئة بنعمة الله وتهذيب جدّه له فلمّا بلغ الاثنتي عشرة أُرسل إلى القسطنطينيّة ليدرس على معلِّميها فبَرِعَ. كما انكبّ على الكتب المُقدَّسَة يطالعها ويدرسها بعمق. هكذا أضحى، على ما قيل، أحد أكثر أهل عصره ثقافة. في نفسه تضافرت المعرفة الكتبيّة والتّقوى. غير أنّ الحكمة البشريّة بانت في عينيه عديمة القيمة قياسًا بمعرفة الكشف الإلهيّ. وإذ مال إلى الزّهد ورغب في خدمة الله صُيِّر شمّاسًا إنجيليًّا واقتُرح للأسقفيّة، لكنّه آثر الانكفاء في أحد الدّيورة. فخرج من المدينة المتملّكة وأقام راهبًا في أماسيا.
هناك برز وشعّت فضيلته فأقامه أسقف المحلّة رئيسًا على الرّهبان المنتشرين في أرجاء أسقفيّته.
أبلى أفتيخيوس في مهمّته الجديدة البلاء الحسن. فلمّا انعقد مجمع محلّي، سنة 544 م.، واستحال على أسقف أماسيّا الذّهاب إليه بداعي المَرَض، أوفد القدّيسَ ممثّلًا عنه. كان الغرض من عقد المجمع النّظر في قضيّة من سُمُّوا “الفصول الثّلاثة”، أي ثيودوروس أسقف المصيصة وثيودوريتوس القورشي وإيباس الرهّاوي. هؤلاء ثار بشأنهم جدل عارم. بعضهم بيَّض صفحتهم واعتبر إيمانهم بلا شائبة وبعضهم اتّهمهم بالنّسطوريّة المتستّرة. وَقْعُ الجدل على الأمبراطور يوستنيانوس كان شديدًا فأراد أن يضع له حدًّا لأنّه أحدث اضطرابًا ليس بقليل في الكنيسة والمملكة معًا، في الشّرق والغرب. البتّ في أمر “الفصول الثّلاثة” كان أحد الأسباب الرّئيسيّة لانعقاد المجمع المسكونيّ الخامس (553 م). ففي ذاك المجمع المحلّي لمع نجم قدّيسنا فأحبّه بطريرك القسطنطينيّة ميناس واحتضنه، لا سيّما، كما قيل، بعد رؤيا إلهيّة أنبأته بأن أفتيخيوس سيكون خليفته العتيد. فلمّا رقد ميناس بالرّبّ سمّاه الأمبراطور خليفة له، فعمّت الفرحة الشّعب على الأثر.
في مطلع ولاية أفتيخيوس انعقد المجمع المسكونيّ الخامس في القسطنطينيّة برئاسته وحضور مائة وخمسة وستّين أسقفًا. وبعد أن ثبّت المجتمعون عقيدة المجامع المسكونيّة الأربعة السّابقة، كما كان العرف، سنّوا أربعة عشر إبسالًا طالت كتابات ثيودوروس أسقف المصّيصة وثيودوريتوس القورشي وإيباس الرّهّاوي. كما أبسلوا أوريجنيس وأفاغريوس اللّذَين، رغم تأثير كتاباتهما في فكر آباء الكنيسة فإنّها كانت سببًا في خلق تيّار أوريجنّي خطِر، في تلك الحقبة من تاريخ الكنيسة بالذّات.
وضعت قرارات المجمع الأمور في نصابها، ولكن إلى حين فقط. فبعد اثني عشر عامًا طرأت مشكلة جديدة. بعض مَن كان قريبًا من يوستنيانوس الملك همس في أذنه صيغة عقديّة جديدة. الغرض من طرح هذه الصّيغة كان إرضاء فريق الطّبيعة الواحدة. هذا أمر أغرى الأمبراطور لأنّ الخلافات العقديّة تنعكس سلبًا على الواقع السّياسيّ والبنيويّ للإمبراطوريّة. الصّيغة كانت ما عُرف في تاريخ الكنيسة بالـ “aphtartodocetism” وهي القول بأنّ جسد المسيح منزّه، بطبيعته، عن الألم والفساد، وما كان بإمكانه، نتيجة ذلك، أن يكابد الألم بغير عجيبة نابعة من إرادته.
أدرك القدّيس أفتيخيوس خطورة القول المُستحدَث ورأى فيه تهديدًا لحقيقة تجسّد الرَّبّ يسوع وتعبيرًا مبطّنًا عن القول بالطّبيعة الواحدة فتصدّى له وقاوم مروِّجيه. فكانت النّتيجة أن اقتحم العسكر قصر هورميسداس، حيث كان البطريرك يُقيم الذّبيحة الإلهيّة، يوم الخامس والعشرين من شهر كانون الثّاني 565، وسحبوه من الهيكل واحتجزوه في أحد ديورة خلقيدونيا. وإنّ محكمة أسقفيّة ضمّت متزلّمين للملك قضت بإقالة البطريرك والحكم عليه بالنّفي بحجّة أنّه كان يأكل لحومًا شهيّة ويصلّي على ركبتَيه ساعات طويلة (!)
دام إبعاد قدّيس الله اثنتي عشرة سنة قضى قسمًا منها في دير في جزيرة Prinkipos وقسمًا آخر في أماسيا. قَبِل ما جرى له بوداعة وقضى أيّامه هناك بالصّوم والصّلاة. وقد مَنّ عليه الرّبّ الإله بموهبة صنع العجائب فشفى المرضى وطرد الشّياطين.
استُدعي أفتيخيوس إلى القسطنطينيّة في العام 577 من قِبَل الأمبراطورَين يوستينوس الثّاني وطيبيريوس. وقد استُقبل بالهتاف: “مبارك الآتي باسم الرّبّ!” كما ذُكر أنّه بدخوله، بنعمة الله، وضع حدًّا لوباء تفشّى في المدينة يومذاك. كذلك ورد أنّه بقي يوزّع القرابين المُقدّسة على الشّعب مدّة ستّ ساعات.
خلال الفترة التّالية من تولّيه الكرسيّ القسطنطينيّ ثبّت الكنيسة في الإيمان القويم. وقد رقد في الرّبّ يوم أحد توما من السّنة الميلاديّة 582 بعدما أنبأ أنّ الإمبراطور طيبيريوس على وشك اللّحاق به بعد أربعة أشهر. وقد دُفن في كنيسة الرّسل القدّيسين، تحت المذبح، جنبًا إلى جنب ورفات القدّيسين الرّسل أندراوس ولوقا وتيموثاوس. وهامته اليوم موجودة في دير الخلندار الآثوسيّ.