في هذا اليوم تُقيم الكنيسة المُقدَّسَة تَذكار:
* أبونا الجليل في القدّيسين مرتينوس، أسقف رومية * الشّهداء مكسيموس وكوينتيليانوس ودادا * الشّهداء الفثاريوس الفارسيّ وثيودوسيوس وزويل الرّوميّ* الشّهيد هرمناغيلد الغوطيّ* القدّيس البارّ مارتيوس كليرمون * القدّيس أورسوس رافينا* الجديد في الشّهداء استفانوس الرّوسيّ.
* * *
✤أبونا الجليل في القدّيسين مرتينوس، أسقف رومية✤
وُلِدَ القدّيس مرتينوس في تودي التّوسكانيّة واشتهر، بين إكليروس رومية، بعلمه وقداسته. لمّا كان شمّاسًا أوفده البابا ثيودوروس إلى القسطنطينيّة سفيرًا له. هناك أبدى حماسة بيّنة صدًّا لهرطقة المشيئة الواحدة الّتي انتشرت في المدينة المتملّكة يومذاك. إثر وفاة ثيودوروس اختير مرتينوس أسقفًا خلفًا له في تمّوز 649. وفي تشرين الأوّل من العام نفسه دعا في الكنيسة اللّاترانيّة إلى مجمع ضمّ مائة وخمسة أساقفة. في هذا المجمع جرى دحض هرطقة المشيئة الواحدة وأُدين أركانها، لا سيّما سرجيوس وبيروس القسطنطينيّين وكذلك بولس الّذي كان، في ذلك الحين، مُعترشًا سدّة الأسقفيّة في العاصمة المَلَكيّة. كذلك رُفض كلا المرسومين الملكيّين، مرسوم هراكليوس المعروف بالاكتازيس، ومرسوم قسطانس أي التّيبوس، الأوّل لأنّه تضمّن دستورًا إيمانيًّا موافقًا للمشيئة الواحدة، والثّاني لأنّه أمر بمنع كلا الفريقين، أصحاب المشيئة الواحدة وأصحاب المشيئتين، من طرح المسألة والتّداول في شأن الفعل والفعلين في المسيح. آباء المجمع اللّاتراني، يومذاك، قالوا: “الرَّبّ أمر بنبذ الشّرّ وصنع الخير، لا أن يُرذَل الخير مع الشّرّ. ليس مسموحًا أن يطّرح المرء، في آن، الحقّ والباطل، سواء بسواء”.
أرسل قسطانس أحد المقرّبين منه، أوليمبيوس، ممثّلًا عنه، إلى إيطاليا بعدما زوّده بأوامر مُشدّدة لتصفية مرتينوس أو إرساله مخفورًا إلى الشّرق. وصل أوليمبيوس إلى رومية فيما كان المجمع مُلتئمًا وسعى إلى شقّ صفّ الأساقفة. فلمّا باءت مُحاولته بالفشل لجأ إلى الغدر فأوعز إلى أحد مرافقيه باغتيال مرتينوس فيما كان يقيم سرّ الشّكر في كنيسة ماريا ماجوري، الأمر الّذي بدا سهلًا أثناء مناولة الشّعب لأنّ الأسقف كان يحمل الخبز والخمر إلى المؤمنين كلًا حيث هو في مكانه. لكنّ العميل المكلّف باغتيال مرتينوس ضربه العمى الظّرفيّ فجأة فلم يتمكّن من رؤية قدّيس الله. فلمّا رأى أوليمبيوس أن مرتينوس حماه الله أفضى إليه بالأوامر المزوّد بها وصنع معه سلامًا ثم غادر إلى صقلّية الّتي كانت آنذاك في يد المُسلمين. هناك هلك جيشه ومات هو مُعتلًّا.
فعاد قسطانس الملك وأرسل موظّفًا آخر اسمه ثيودوروس كاليوباس ليقبض على مرتينوس الّذي اتّهمه بالهرطقة. بلغ كاليوباس وعسكره رومية في حزيران 653 م. كان مرتينوس مريضًا منذ تشرين الأوّل الّذي سبق ذلك التّاريخ، وقد أقفل على نفسه في الكنيسة اللّاترانيّة. كان ينام على سرير قرب مدخل الكنيسة. فدخل العسكر الدّار الأسقفيّة وفتّشوها بحجّة البحث عن أسلحة ثم توجّهوا إلى الكنيسة اللّاترانّية وقبضوا على القدّيس. هناك دفع إليه كاليوباس قرارًا ملكيًّا قضى بتنحيته فهتف الإكليروس الحاضر: “أناثيما [أي ليكن مقطوعًا] لمن يقول إنّ البابا مرتينوس قد غيّر أيًّا من بنود الإيمان وليكن مقطوعًا كلّ مَن لا يثبّت في الإيمان القويم حتّى الموت”. العديد من الأساقفة قالوا: “سوف نعيش معه ونموت معه”. فحاول كاليوباس أن يهدِّئ من غضب الجموع مدَّعِيًا أنّه ليس إيمان حقّ غير إيمانهم. همّه كان أن يضع يده على الأسقف ويستاقه إلى الشّرق ولو بالحيلة. أُخذ مرتينوس إلى الدّار الأسقفيّة، ثمّ في إحدى اللّيالي في غفلة عن أعوانه، حُمل إلى ظهر إحدى السّفن العسكريّة ليُنقل إلى القسطنطينيّة.
بعد ثلاثة أشهر بلغت السّفينة جزيرة ناكسوس حيث بقي مرتينوس سنة كاملة. كان يعاني من الزّحار (أي الديزنطاريا) ويعفّ عن الطّعام. عرف أتباعه مكانه فصاروا يرسلون له المؤن، ولكن كان الحرس يسيء معاملته ويحول دون بلوغ المُساعدات إليه معتبرًا مَن يعينه عدوًّا للدّولة. لهذا السّبب أُسيء إلى مناصري مرتينوس، يومذاك، إساءة كبيرة.
بلغ مرتينوس القسطنطينيّة في أيلول 654 م. وقد عومل هناك معاملة مهينة وطُرح في السّجن. كما منع الجند أيًّا كان من التّحدّث إليه ثلاثة أشهر. في إحدى رسائله من هناك كتب: “اليوم هو السّابع والأربعون منذ أن سُمح لي بالاغتسال في الماء البارد أو الحار. جسدي ذاب وأشعر برجفة. لا فرصة لي للرّاحة من مُعاناتي من الإسهال. بدني مُحطّم. ما يُقدّم لي من الطّعام أشعر بالنّفور منه. لكنّي أرجو أن الله العالم بكلّ شيء، حين يأخذني من هذا العالم، يأتي بمضطهِدِيّ إلى التّوبة”.
في كانون الأوّل من تلك السّنة استُجوب مرتينوس في محضر مجلس الشّيوخ، كما عُرض من بعيد على قسطانس الملك ومُزِّقت ثيابه الأسقفيّة، ثم أُسلم إلى حاكم المدينة ليمزِّقه إربًا. ولمّا طلب وزير المال من الشّيوخ أن يكفِّروه، فعل ذلك بعضهم وامتنع أكثرهم.
أخذوه شبه عار وجعلوا إطارًا حديديًّا في عنقه وجرّروه من القصر الملكي إلى وسط المدينة. بعض النّاس أشبعه شتمًا وبعضهم بكى. كان مرتينوس هادِئًا، نقّي الطّويّة. بعد ذلك ألقوه في السّجن وكان مرضّضًا مجرَّحًا. كان كأنّه على وشك أن يلفظ أنفاسه. الشّتاء يومها كان قاسيًا، وكان، وهو على هذه الحال، يرتجف من البرد. لم يُسمح لأحد من أصدقائه أن يدنو منه. فقط تبعه شمّاس من بعيد وكان يبكي. بات مرتينوس ينتظر تنفيذ حكم الإعدام به في أيّة لحظة. لمّا جاء قسطانس إلى بولس، بطريرك القسطنطينيّة الهرطوقي، وكان مريضًا جدًّا، أطلعه على حال مرتينوس فتنهّد وقال: “ويلاه! هذا سوف يزيد من عقابي”. ثم رجا الأمبراطور أن يخفِّف عن بابا رومية.
بقي مرتينوس في السّجن ثلاثة أشهر ثم نُفي إلى شرصونة في أيّار 655 م. حيث عمّت المجاعة. في أيلول من تلك السّنة تمكّن قدّيسنا من تمرير رسالة إلى أتباعه. ممّا جاء فيها: “لسنا فقط مقطوعين عن العالم، بل ليس لنا، أكثر من ذلك، ما نقتات به. سكان المنطقة كلّهم وثنيّون. والّذين يأتون إلى هنا بالإضافة إلى تخلّقهم بأخلاق أهل هذه النّاحية، لا رحمة لديهم ولا حتّى الشّفقة الطّبيعيّة الّتي يمكن أن تتوفّر في أوساط البرابرة… لم أتمكّن هنا من شراء شيء سوى كيس من الذّرة… إنّي لأعجب من عدم إحساس الّذين كانت تربطهم بي صلة، الّذين يبدو أنّهم نسوني بالكامل ولا يبدو أنّهم يعرفون أني لا زلت في العالم. وأعجب بالأكثر لحال أولئك الّذين ينتمون لكنيسة القدّيس بطرس، كم هو قليلٌ الاهتمام الّذي يبدونه بعضو من أعضاء جسدهم! أيّ خوف قبض على كلّ أولئك النّاس حتّى سطا عليهم فمنعهم من إتمام وصايا الله؟! أأبدو عدوًّا آثمًا للكنيسة جمعاء أم لهم بصورة خاصّة؟! غير أنّي أطلب من الله بشفاعة القدّيس بطرس، أن يحفظهم ثابتين في الإيمان القويم. أمّا هذا الجسد الشّقيّ، جسدي، فسوف يهتمّ الله بأمره. إنّه آت، فلماذا أضطرب؟! أرجو، برحمته، أن لا يُطيل مسراي”.
ولم يُخيِّب الرَّبّ الإله خادمه فإنّه أخذه إليه يوم السّادس عشر من تلك السّنة 655 م، بعدما قضى في الأسقفيّة ستّ سنوات وشهرًا واحدًا وستّة وعشرين يومًا.
دُفن قدّيسنا في كنيسة لوالدة الإله غير بعيدة عن شرصونة. وقد نُقلت رفاته، فيما بعد، إلى رومية وأُودعت كنيسة القدّيس مرتينوس التّوريّ.
يكرّمه اللّاتين في عيد نقل رفاته في 12 تشرين الثّاني، ونكرّمه نحن في هذا اليوم، 13 نيسان. وله أيضًا عيدان في 15 و20 أيلول، فيما تكرّمه الكنيسة الرّوسيّة في 14 نيسان.
ملاحظة: يُذكر، عندنا، إلى جانب القدّيس مرتينوس، اليوم، الأحبار الّذين تألّموا معه لأجل الإيمان.