في هذا اليوم تُقيم الكنيسة المُقدَّسَة تَذكار:
*القدّيس الرّسول توما *الجديد في الشّهداء مَكاريوس البيثيني *القدّيس البار كندياس العجائبيّ*الشّهيدة إيمان الغالية (الفرنسيّة) * القدّيس البار إبراهيم الجليل*الشّهيد الرّوسيّ الجديد يوحنّا ريبان.
* * *
✤تذكار القدّيس توما الرّسول المجيد✤
شخصيّة توما في الأناجيل
هو أحد تلاميذ الرّبّ يسوع المسيح الإثني عشر المُقال له التّوأم. يُعرف في إنجيل يوحنّا، بصورة خاصّة، من خلال ثلاثة مواقف: الأوّل، بعدما جاء رسول وأخبر السّيّد بأنّ لعازر مريض، أراد السّيّد أن يذهب إلى اليهوديّة فاعترضه تلاميذه قائلين: “يا معلّم، الآن كان اليهود يطلبون أن يرجموك وتذهب أيضًا إلى هناك” (11). فقال لهم يسوع “لعازر حبيبنا… مات، وأنا أفرح لأجلكم أنّي لم أكن هناك لتؤمنوا. ولكن لنذهب إليه“. إذ ذاك انبرى توما دون سائر التّلاميذ ليقول للبَاقين: “لنذهب نحن أيضًا لكي نموت معه“. يُشير هذا الموقف، فيما يُشير، إلى ثلاثة أمور: حمية الرّسول في اتباع المسيح أنّى تكن المجازفة، واشتياقه إلى مُعاينة عمل الله، وكونه إنسان قلب لا يرى الأمور بعين العقل بقدر ما يراها بعين الحسّ والعاطفة. من هنا جوابه العفويّ الحماسيّ هذا.
أمّا المَوقف الثّاني فنستقرئه ممّا ورد في الإصحاح 14 من إنجيل يوحنّا حيث قال الرّبّ لتلاميذه:
“… في بيت أبي منازل كثيرة… أنا أمضي لأُعدّ لكم مكانًا… وتعلمون حيث أنا أذهب وتعلمون الطّريق“. هنا أيضًا انبرى توما ليقول بكلّ بساطة: “يا سيّد لسنا نعلم أين تذهب فكيف نقدر أن نعرف الطّريق“. قال له يسوع: “أنا هو الطّريق والحقّ والحياة“. لهذا الموقف أكثر من مِيزَة. فتوما الرّسول، أوّلًا، إنسان واقعيّ حسّيّ تعني الأمور لديه ما تشير إليه، أما التّأويل في الكلام، أن تقول شيئًا وتريد به شيئًا آخر فلا قِبل له به، ولعلّ توما في هذا الأمر عبرانيّ لا غشّ فيه. ثمّ أنّه يطلب الفهم ولا يشاء أن يمرّ كلام السّيّد غامِضًا، مرور الكِرام. لذلك يسأل ويستوضح ولا يستحي. توما، من هذه الزّاوية، إنسان من دون عِقَد. يقاطع المتكلّم، وربّما يُزعج السّامعين. لعلّه يظهر دون الآخرين فهمًا، ولعلّهم يأخذون عليه بطأه في إدراك الأمور، ولكن، لا بأس. غيره قد لا يكون فاهمًا ويخاف أن يسأل، أمّا هو فلا يُبالي. المُهمّ أن يفهم.
أمّا الموقف الثّالث فيتمثّل في إصرار الرّسول على وضع يده في جنب السّيّد. ففي الإصحاح 20 من إنجيل يوحنّا أنّ توما كان غائبًا حين جاء يسوع النّاهض من بين الأموات إلى حيث كان التّلاميذ مُجتمعين خوفًا من اليهود وأراهم يديه وجنبه وأعطاهم سلامه ونفخ فيهم روحه القدّوس. فلمّا جاء توما وعلم بما جرى اعترض وقال: “إن لم أبصر في يده أثر المسامير وأضع اصبعي في أثر المسامير وأضع يدي في جنبه لا أؤمن“. وبعد ثمانية أيّام كان التّلاميذ مجتمعين وتوما معهم، فجاء يسوع ووقف في الوسط وقال: “سلام لكم. ثمّ قال لتوما هات إصبعك إلى هنا وأبصر يديّ، وهات يدك وضعها في جنبي ولا تكن غير مؤمن بل مؤمنًا. أجاب توما وقال له ربّي وإلهي. قال له يسوع لأنّك رأيتني يا توما آمنت. طوبى للّذين آمنوا ولم يروا“. الرّسول، هنا، يتصرّف وكأنّه عاتب على السّيّد أنّه جاء في غيابه. والسّيّد فعل ذلك عن قصد، أوّلًا لأنّه كان يعرف شخصيّة توما الّتي سبق لنا أن رسمنا بعض ملامحها، وثانيًا لأنّه أراد أن يبيّن أنّه إذا ما جاء إلى التّلاميذ وأراهم يديه وجنبه فهو إيّاه بلحمه وعظمه وليس خيالًا. المسيح هنا يُعفي التّلاميذ ويُعفينا من تجربة المجرّب أنّه خيال. ثمّ أنّ السّيّد بمحبّته الفائقة يخاطب كلّ واحد بالطّريقة الّتي يفهمها، وطريقة توما أن يُعايِن. القدّيسان أمبروسيوس وكيرللس والمغبوط أوغسطينوس يقولون في هذا المَقام إنّ الموضوع هو رغبة توما في مُعاينة السّيّد أكثر ممّا هو موضوع شكّ أو قلّة أمانة.
وطريقة توما أيضًا أن يلمس إلى أن يمنّ عليه الرّبّ بنور روحه القدّوس. وهذا ما منّ به على أحبّته أخيرًا داعيًا إيّاهم إلى مُعاينة تفوق مُعاينة اللّحم والدّم: “طوبى للّذين آمنوا ولم يروا“. توما الّذي أبدى عنادًا يكاد يكون صبيانيًّا هو إيّاه مَن انكسر إلى آخر حدود الإنكسار عندما عاين مجد الله، وهو أيضًا أوّل مَن سجد وخاطب يسوع بالفم المَلآن هكذا: “ربّي وإلهي”.
في ضوء هذه الملامح في شخصيّة توما الرّسول، تطالعنا خدمة هذا اليوم بما يمثلّه توما في حياة الكنيسة. ففي إحدى تراتيل المساء أنّه ثبّت المؤمنين بارتيابه المتحوّل إلى إيمان، وفي ترتيلة أخرى أنّه “علّم أن للطّبيعتين [في السّيّد] فعلَين خاصّين“. كذلك تقول واحدة من تراتيل صلاة السَّحَر “إنّه بجسّه آثار المسامير طلبًا للتّصديق واليَقين على ما يَليق بالله، ثبت أذهاننا في الرّبّ“.
بشارة توما
هذا بالنّسبة لشخصيّة توما الرّسول، أمّا بالنّسبة لبشارته بعد العنصرة، فالتّقليد الكنسيّ يقول إنّه أوّل مَن بشّر بلاد الهند، والنّص اللّيتورجيّ يقول إنّه اصطاد بصنارّة الرّوح الإلهيّ أذهان الهنود المُظلمة (القطعة الثّانية على الإينوس – صلاة السَّحَر). أمّا تفاصيل خدمته في الهند فليست ثابتة. جلّ ما نعرفه أنّه هدى الكثيرين إلى النّور الإلهيّ، وبين هؤلاء الأغنياء ونساء أميرات. ويقال إنّ الأمير المدعو مسداوس أراد أن ينتقم منه لأنّه عمّد زوجته تاريتانا، فأرسل جنده وطعنوه فمات. النّصّ اللّيتورجيّ يقول إنّه اقتدى بالمسيح في الآلام فطُعن جنبه هو أيضاً. كان رقاده في الرّبّ، وفق بعض المخطوطات القديمة، يوم الرّابع عشر من أيّار. تجدر الإشارة إلى أنّ للرّسول توما ذِكرًا مميّزًا لدى الأحباش وقيل إنّه بشّر الفرس وبلغ الصّين. حتّى الألمان يقولون إنّه نقل لهم الإيمان.
رواية عنه
ثمّ أنّ هناك رواية تناقلتها الأجيال عن توما الرّسول نوردها ههنا لا للفائدة التّاريخيّة بالضّرورة بل لما تنطوي عليه من مَعانٍ روحيّة سامية.
يُحكى أنّ ملِكًا هنديًّا اسمه غوندافور قرّر أن يبني لنفسه قصرًا عظيمًا لا مثيل له على الأرض، فانطلق رسوله هافان يبحث عن عمّال ماهرين قادرين على ذلك. وبتدبير إلهيّ جاء هافان إلى الرّسول توما فقال له الرّسول إنّه مُستعد أن يبني للملك مثل هذا القصر شرط أن يتركه يعمل كما يُريد. فاتّفق الإثنان وسافر توما إلى بلاد الهند. هناك حصل الرّسول على كميّة كبيرة من الذّهب من الملك ليباشر ببناء القصر. وما إن غادر توما حضرة الملك حتّى وزّع كلّ الذّهب الّذي لديه لفقراء الهند، وراح يبشّر بالإنجيل. ومرّت سنتان، فأوفد الملك عبيده إلى الرّسول يسأله ما إذا كان قد انتهى من بناء القصر أم لا، لأنّ القصر كان بعيدًا عن عاصمة الملك، فأجاب توما: “كلّ شيء بات جاهزًا إلّا السّقف“، وطلب مزيدًا من المال فأعطاه الملك ما أراد. ومن جديد أعطى الرّسول كلّ ما لديه للفقراء وتابع تجواله مبشّرًا بالإنجيل. وبطريقة ما بلغ الملك خبر أنّ توما لم يبدأ بعد ببناء القصر فقبض عليه وزجّه في السّجن. في تلك اللّيلة بالذّات مات أخ الملك فحزن الملك عليه حزنًا شديدًا. وإنّ ملاكًا حمل روح الميت إلى الفردوس وأراه قصر عجيبًا لا يقدر عقل إنسان أن يتصوّر مثله. وإذ أراد أخ الملك أن يدخل إلى هذا القصر العجيب، منعه الملاك قائلًا: “هذا القصر يخصّ أخاك الملك، وهو القصر الّذي شيّده له الرّسول توما بالحسنات الّتي أعطاه إيّاها“. ثمّ إنّ ملاك الرّبّ أعاد روح الرّجل إلى بدنه. فعندما عاد أخو الملك إلى نفسه، أسرع إلى أخيه وقال له: “أقسم لي بأنّك ستعطيني كلّ ما أطلبه منك“، فأقسم له، فقال: “أعطني القصر الّذي لك في السّماء، الّذي بناه لك توما“. فلم يصدّق الملك إلى أن شرح له أخوه كلّ ما جرى له. إذ ذاك أرسل الملك فأطلق توما من السّجن واستقدمه إليه وسمع منه كلام الخلاص والحياة الأبديّة ثمّ اعتمد وأعطاه مزيدًا من المال لتوسيع القصر الّذي بناه له في السّماء. وهكذا ازدادت أعمال الرّحمة وزاد الشّكر لله واتّسع نطاق البشارة بكلمة الحياة.