في هذا اليوم تُقيم الكنيسة المُقدَّسَة تَذكار:
* القدّيس الرّسول مرقص الإنجيليّ* أبونا الجليل في القدّيسين حنانيّا الإسكندريّ* أبونا الجليل في القدّيسين مقدونيوس الثّاني، بطريرك القسطنطينيّة * الشّهداء النُسّاك الثّـمانية * القدّيس البارّ إيفو الفارسيّ* أبونا الجليل في القدّيسين فيباديوس أجان الفرنسيّ * القدّيسان الشمّاسان فيلو وأغاثوبوديس الأنطاكيّان * الشَّهيد في الكهنة استفانوس الثّاني، بطريرك أنطاكية * القدّيس البارّ سيلفستروس أوبنورسك.
* * *
✤القدّيس الرّسول مرقص الإنجيليّ✤
هو الذي ورد في التراث أنه كاتب الإنجيل الثاني المعروف باسمه. وقد ذكر الأقدمون أمثال بابياس، أسقف هيارابوليس (+130م)، والقدّيس يوستينوس الشهيد (+160م) والقدّيس إيرناوس الليّوني (+200م) والقدّيس إكليمنضوس الإسكندري (+215م) والمؤرّخ أفسافيوس القيصري (+340م) وسواهم، اقول ذكروا أن مرقص استمدد إنجيله من بطرس الرسول. مرقص كان مترجم بطرس. القدّيس يوستينوس الشهيد يصف الإنجيل بـ “مذكّرات بطرس الرسول”. بابياس يؤكّد أن مرقص لم يرتكب أي خطأ لأنه حرص على أن لا يحذف شيئاً مما سمعه وأن لا يقرّر أي شيء آخر. والإنجيل، كما تبيِّن المصادر عينها، وُضع بناء لطلب أهل رومية الذين رغبوا في أن يكون لهم سجل مدوّن لما سبق أن سمعوه من الرسول بطرس. لهذا السبب، كما أورد بابياس، جاء الإنجيل، في تعاليمه، مطابقاً لاحتياجات سامعيه.
ولكن مَن هو مرقص، صاحب الإنجيل؟
رغم أن هناك بعض الغموض والتساؤلات بشأن هويّة القدّيس مرقص، والمرء يقع في التراث على آراء مختلفة بشأنه، إلاّ أن أكبر الميل هو إلى اعتباره أنه إيّاه يوحنا الملقّب مرقصX، ابن أخت القدّيس الرسول برنابا، كما ذكره بولس الرسول في رسالته إلى كولوسي (4: 10)، وكذلك من ورد ذكره في سفر أعمال الرسل (12: 12)، والذي اسم أمّه مريم. وهو إيّاه، أيضاً، مَن أسماه بطرس الرسول في رسالته الأولى (5: 13) “مرقص ابني”. على هذا يكون مرقص قد أقام علاقة طيِّبة بكلا الرسولَين بطرس وبولس. فإذا كان بطرس الرسول قد دعاه “مرقص ابني” فالرسول بولس، في رسالته الثانية إلى تيموثاوس، يطلب من تيموثاوس أن يأخذ معه مرقص ويحضره لأنه، على حدّ تعبير بولس الروسل، “نافع لي للخدمة” (2 تيم 4: 11). يشار إلى أن بطرس الرسول كان عارفاً بعائلة مرقص منذ وقت مبكِّر. فمن سفر أعمال الرسل نعلم أن بطرس بعدما سجنه هيرودوس الملك وجاء ملاك الرب وأخرجه من السجن كان البيت الذي قصده وهو إياه البيت الذي اعتاد كثير من التلاميذ والمؤمنين أن يجتمعوا فيه للصلاة – أقول كان هذا البيت هو “بيت مريم أم يوحنا الملقّب مرقص” (12: 12).
أما في شأن علاقة مرقص بالرسول بولس فيبدو أن بداية خدمة مرقص مع الرسول المصطفى كانت في حدود العام 45 – 46 م بعدما استكمل برنابا وشاول، أي بولس لاحقاً، الخدمة في أورشليم. يومذاك، على ما قيل، أخذا معهما يوحنا الملقّب مرقص في طريق عودتهما إلى أنطاكية (أع 12: 25). بعد ذلك لما انطلقا للعمل الذي دعاهما إليه الروح القدس وطلبا قبرس، أخذا معهما يوحنا (أي مرقص) خادماً (أع 13: 2، 5). ولعلّ مرقص، مذ ذاك، أخذ يساهم في عمل الكرازة. ولكن لما شاء بولس التوجّه، بعد قبرس، إلى برجة بمفيلية، في القسم الأوسط من آسيا الصغرى، لم يرغب مرقص في الاستمرار معهما ورجع إلى أورشليم (أع 13: 13). سبب تراجع مرقص ليس واضحاً. الواضح فقط أن بولس لم يرضَ عمّا فعله مرقص في تلك السانحة. إذ لما شاء هو وبرنابا، في رحلتهما الثانية، أن يفتقدا الإخوة في كل مدينة ناديا فيها بكلمة الرب (أع 15: 36)، اقترح برنابا أن يأخذا مرقص، من جديد، معهما، فلم يستحسن بولس الفكرة. وبالنتيجة حصلت مشاجرة بين الرسولَين بسببه حتى فارق أحدهما الآخر. أما برنابا فأخذ مرقص وسافر في البحر إلى قبرس (أع 15: 37 – 39). إثر تلك الحادثة يوقّف ذكر مرقص في سفر أعمال الرسل إلى أن عاد مجدّداً، بعد حوالي عشر سنوات، في حدود العام 59 – 60م. ففي الرسالة إلى كولوسي (4: 10)، التي كتبها بولس حين كان معتقَلاً في رومية، قدّم مرقصَ إلى الكولوسيّين على النحو التالي: “يسلِّم عليكم أرسترخوس المأسور معي ومرقص، ابن أخت برنابا، الذي أخذتم لأجله وصايا. إن أتى إليكم فاقبلوه”. يومها، إذاً، كان مرقص في رومية. ثم في رسالة بولس إلى فيلمون، يسمِّي الرسولُ المصطفى مرقصَ عاملاً معه. يقول لفيلمون أن أبفراس يسلّم عليه وكذلك “مرقص وأرسترخوس وديماس ولوقا العاملونمعي” (فيلمون 23 – 24). بعد ذلك، وبعدما قام مرقص برحلة إلى آسيا الصغرى، بناء لطلب بولس، كتب الرسول المصطفى، قبل وفاته بقليل، إلى تيموثاوس في أفسس، يطلب منه، كما سبق فذكرنا، أن يأخذ مرقص ويحضره معه لأنه نافع له للخدمة (2 تيم 4: 11). هذا ويبدو أن مرقص الذي كان قد امتنع عن الذهاب إلى آسيا الصغرى، قبلاً، برفقة بولس وبرنابا، عاد وامتدّ إلى هناك وصار معروفاً عند الكثيرين من مؤمني آسيا الصغرى. هذا الانطباع يُستشفّ من رسالة بطرس الرسول الأولى التي وجّهها إلى المتغرّبين من شتات البنطس وغلاطية وكبدوكية وآسيا وبيثينية (1: 1). وفيها يبلِّغهم سلام مرقص عليهم (5: 13). مرقص، يومذاك، فيما يبدو، كان في رومية مع بطرس ومنها كتب رسالته الأولى مسمِّياً إيّاها “بابل المختارة”.
إلى ذلك يشير بعض المفسِّرين إلى أن الشاب الوارد ذكره في إنجيل مرقص (14: 51 – 52) هو إيّاه مرقص الإنجيلي. فلما قبض اليهود على يسوع تركه جميع الذين كانوا معه وهربوا. في ذلك الوقت بالذات “تبعه شاب لابساً إزاراً على عريه فأمسكه الشبّان فترك الإزار وهرب منهم عرياناً”. هذه المعلومة لا مقابل لها في الأناجيل الثلاثة الأخرى. ولأنها تفصيل يعسر أن يكون قد اطّلع عليه غير الذي دوّنه فإن الظنّ هو إلى اعتبار هذا الشاب مرقص الإنجيلي بالذات.
من جهة أخرى، ثمّة تقليد قديم، يشير إليه أفسافيوس القيصري في تاريخه الكنسي، أن مرقص كان أوّل مَن أُرسل إلى مصر وأنه نادى هناك بالإنجيل الذي كتبه وأسّس الكنائس في الاسكندرية أولاً (راجع تاريخه. الكتاب الثاني. الفصل 16). في كل حال يسمِّي التاريخ القديم الاسكندرية “الكرسي المرقصي Cathedra Marci” ابتداء من القرن الرابع للميلاد. وإلى أفسافيوس يشير العديدون من القدامى، أمثال القدّيس إيرونيموس والقدّيس أبيفانيوس القبرسي، إلى أن مرقص هو الذي أسّس الكرسي الإسكندري. لكن اللافت أن القدّيس إكليمنضوس الإسكندري والمعلّم أوريجنيس، وكلاهما من مصر، لا يربطان مرقص بالإسكندرية بحال. إذا كان مرقص بالفعل قد أسّس كرسي الإسكندرية فالغالب أن ذلك كان بين العامَين 50 و 60م رغم أن أفسافيوس القيصري يجعل ذلك في أيام الأمبراطور الروماني كلوديوس قيصر، أي بين العامَين 40 و 44م. هذا ويُذكر أن مدينة أكويليا، شمالي إيطاليا، ادّعت أن مرقص هو الذي أسّس الكنيسة فيها.
من زاوية أخرى ورد في مداخل بعض مخطوطات الترجمة اللاتينية Vulgate من الكتاب المقدّس (القرن 5م)، عن مرقص، أنه كان لاوياً وكان كاهناً. برنابا، في كل حال، كان لاوياً (أع 4: 36). هيبوليتوس، في القرن الثالث الميلادي، لقّب مرقص بـ”المقطوع أو المجدوع الإصبع”. وثمّة مَن ألحق بهذا الأمر تفسيراً، فيما بعد، فقال إن مرقص بعدما اقتبل المسيحية قطع إصبعه ليصير، عند اليهود، غير صالح للكهنوت.
أما رقاد القدّيس فأقدم ما عندنا، وهو من القدّيس الشهيد دوروثاوس الصوري (+361م)، يُفيد بأنه قضى شهيداً في الإسكندرية. قال: “إن مرقص البشير، أوّل أسقف على الإسكندرية، كرز بإنجيل الربّ في الإسكندرية وكل ضواحيها من مصر إلى المدن الخمس. ثم على عهد ترايانوس جعل عبدةُ الأوثان في عنقه حبلاً غليظاً وجرّروه من الموضع المسمّى أماكن فوكولوس إلى الموضع المسمّى أماكن أنجيلُن، أي الملائكة. هناك أحرقوه بالنارخلال شهر فرموتيلس، الموافق شهر نيسان، فدُفن في أماكن فوكولوس”. من جهة أخرى يشير أفسافيوس إلى تقليد قديم يُفيد أن مرقص رقد في السنة الثامنة من حكم نيرون قيصر، أي ما بين العامين 62 و 63م. القدّيس إيرونيموس يقول الشيء عينه. وقد ورد أن جسد القدّيس كان محفوظاً في فوكولوس في كنيسة بُنيت عام 310م. بلاديوس (+425) ذكر في تاريخ رهابين مصر أن كاهناً قدّيساً اسمه فيلوروموس، جاء حاجّاً من غلاطية وزار قبر القدّيس في الموضع عينه في أواخر القرن الرابع الميلادي. ويبدو من المراجع أن جسده بقي يُكرّم هناك في القرن الثامن الميلادي، أيام المسلمين. لكن جماعة من البندقية الإيطالية سرقته ونقلته إلى بلادها في حدود العام 815 م. راهب فرنسي، اسمه برنابا، قصد الشرق رحّالة عام 870 م، ذكر أن جسد القدّيس مرقص لم يكن في الإسكندرية، يومذاك، لأن البنادقة نقلوه إلى جزرهم.
يُشار إلى أن مرقص الإنجيلي هو شفيع البندقية الإيطالية. ومع أن الكنيسة الأساسية التي أُودعت فيها رفات القدّيس، في القرن التاسع الميلادي، قد خربت عام 976م فإن البازيليكا التي أُعيد بناؤها تحتوي رفاته وفسيفساء مميَّزة عن حياة القدّيس وموته ونقل رفاته. هذه تعود إلى ما بين القرنين الثاني عشر والثالث عشر. وعلى مدى التاريخ جرت العادة، هنا وثمّة، أن يُتَّخذ القدّيس مرقص الإنجيلي شفيعاً لصنّاع الزجاج وكتّاب العدل وأمناء السرّ ومربّي الأبقار الأسبان والأسرى.
ويُشار أيضاً إلى أن رمز إنجيل مرقص هو الأسد المجنّح في خط رؤيا حزقيال النبيّ عن الكائنات الأربعة المجنّحة. هذه أوّل ما اعتمدها اليهود رمزاً لرؤساء الملائكة الأربع ميخائيل وجبرائيل وروفائيل وأوريال. ثم بعد ذلك، اتخذوها رمزاً للأنبياء الكبار الأربعة إشعياء وإرميا وحزقيال ودانيال. ثم في حدود القرن الثاني للميلاد استقرّت الكائنات الأربع، بين المسيحيّين، رمزاً للإنجيليّين الأربعة. أما اختيار الأسد المجنّح لإنجيل مرقص فلأنه تكلّم على الرفعة الملكية للمسيح ولأن مستهَل القول فيه هو عن يوحنا المعمدان صوتَ صارخٍ في البرّية.
عيده اليوم شامل الشرق والغرب معاً.
X ثمة تقليد متأخّر يميِّز مرقص الإنجيلي عن يوحنا مرقص الذي يُعيَّد له عندنا كواحد من الرسل السبعين ويُعتبر مؤسّس كرسي جبيل.